الأربعاء 2/6/1446 هـ الموافق 04/12/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
'خوري' ومسلمٌ وقرآنٌ كريم...د. حاتم عيد خوري

جمعتْني قبل سنوات قليلة، سهرةٌ أنيسةٌ جدا، بعددٍ من طالباتي وطلابي السابقين في الكلية العربية للتربية 'دار المعلمين آنذاك' في حيفا، الذين أنهوا دراستهم ما بين سنة 1964 وسنة 1975.  كان ذلك في إطار رحلةٍ لمتقاعدي وزارة المعارف من الجليل والمثلت، الى مدينة إيلات.

تمكّنتُ من معرفة الكثيرين منهم رغم الاخاديد التي حفرَها نهرُ الايام في وجوهنا، ورغم غبار الزمن المتراكم على ما تبقى من شعر رؤوسنا بعد أن عصفت به سنواتُ العمر فخفّفت زحمَته أو بدّدت حضورَه  نهائيا، فاصبحت الغابةُ صحراءَ لامعة، وكذلك رغم غطاء الراس الذي إعتمرتْه بعضُهنّ. شعرتُ أن قلبي يقفز اليهم جميعا، في مسارٍ جَسَرَ الفجوةَ الزمنيةَ الفاصلة بين يوم تخرّجهم ويوم تلاقينا في ايلات. تحلقوا حولي في قاعة الفندق وتضمّخ جوُّ القاعة بعبق ذكرياتٍ دافقة، تجسّدَ بعضُها بقصصٍ ونوادر وحكاياتٍ ذات صلة بي. كنتُ أصغي باهتمامٍ متعطشًا لسماع المزيد، وكنتُ اتفاعلُ مع ما يقولون، فلا أعتقلُ ضحكةً رنّانة يقتضيها الموقفُ، بل أطلقُها على سجيّتِها حاملةً معها رسالةَ تشجيعٍ للآخرين كي يدلوا هم ايضا بدلوهم.

سمعتُ الكثيرَ من القصص والنوادر التي قد أتعرض لها في مقال لاحق، لكنّي ساتوقف حاليا عند واحدة منها كانت قد لمست مشاعري بصورة خاصة، وسارويها لكم تماما كما سمعتُها من أحدهم وبلسانه أيضا، حيث قال لي:

"أتذْكُرُ عندما اتيتَ لمشاهدة درسٍ عندي كمعلم متمرّن، في مدرسة جت المثلث الابتدائية، إبّان فترة التطبيقات العملية في دار المعلمين العرب قبل نحو أربعين سنة؟".  لم ينتظر محدثي جوابا مني، لكنّه تابعَ حديثَه قائلا: "كانت زيارتُك تلك هي آخر ما توقّعتُه على الاطلاق، وذلك لسببين: حصّة سابعة اي متأخرة جدا ودرسُ دينٍ اسلامي. قلت ُ لنفسي، لعلّ الاستاذ حاتم خوري قد أخطأ الطريق. تقدمتُ نحوك قبل ان تجلس، وهمستُ في أذنك: " هذه حصة دين اسلامي". أجبتني بهدوء "أعرفُ ذلك، تفضل أكملْ درسَك". شعرتُ أنني قد وقعتُ في ورطة، لأني لم احضّر الدرسَ خطّيًا كما هو مطلوب من طلاب دار المعلمين كمعلمين متمرّنين، ولان معلوماتي في الدين الاسلامي كانت ضحلة للغاية ولا تمكّنني من المناورة او الابداع. شعرتُ أن درسي كان خبط عشواء، وتمنيتُ لو وضَعْتُ لغما تحت مقعدك لأرتاح منك".

سكتَ محدثي قليلا ثم عاد ليتابع قصته قائلا: "قَرْعُ الجرسِ وَضَعَ حدّا لدرب آلامي. خرجتُ من غرفة الصف منهارًا. لم اتردّد ان اعترف امامك أن درسي كان فاشلا. توقّعتُ ان تقابلني بوجه متجهّم وتصبّ في اذنيّ كلمات العتاب واللوم والتأنيب. غير أنك افتتتحتَ حديثك معي بسؤالٍ بدا لي غريبا جدا ، حيث قلتَ لي: "أتدري ما الفرق بين الطبيب والمهندس والمعلم؟". حيّرني سؤالك ولم افهم قصدك، فتابعتَ حديثَك  قائلا: " غلطةُ الطبيب يا عزيزي لا تُصلَّح لانها تُدفن تحت التراب، وغلطة المهندس تبقى ماثلة للعيان، أما غلطة المعلم يمكن تصحيحها غدا". فهمْتُ الرمزَ وسألتُك بتلهّف على الفور: كيف أستطيع أن أصلّح غلطتي؟ فقلتَ لي أنك ستُلقي عليّ مهمةَ دراسة ثلاث سورٍ من القران الكريم مع التفسير المُعتمَد إسلاميّا واجتياز إمتحان بها، وأنكَ ستَطلبُ من الاستاذ توفيق صباح 'كان رحمه الله معلما للدين الاسلامي في دار المعلمين آنذاك ' أن يختار تلك السور الثلاث والمرجعَ التفسيري، وان يُشرف بنفسه على الامتحان".

عاد محدثي للتوقف قليلا عن الحديث وبدا كأنه يعيش مرة ثانية تلك اللحظات البعيدة، ثم قال بابتسامة عريضة: " لقد نجحتُ في ذلك الامتحان، لكن نجاحي الاكبر كان بانفتاحي على القرآن الكريم والاستمتاع بقراءته لغةً وقيَمًا وعبادةً، على امتداد العقود الاربعة الماضية، وأنا مدينٌ لك بذلك...".

[email protected]

   

2015-12-05