المقاربة الإنتربولوجية للسياسة تقول بأنها ظاهرة اجتماعية تعكس علاقات السلطة والقوة والسعي للسيطرة بين الفاعلين داخل أي مجتمع من المجتمعات، والسياسة بهذا المعنى لصيقة بوجود المجتمعات الإنسانية وبالتالي فإنها لا تموت ، فهناك دوما صراع على السلطة والنفوذ سواء وجِدت الدولة ومؤسساتها أم لم توجد، فحتى المجتمعات القبلية والبدائية – مجتمعات ما قبل الدولة –تعرف السلطة والصراع على النفوذ والمصالح .
السياسة بمفهومها الانتربولوجي السابق تبقى موجودة ولكنها لا تعبر عن المفهوم المعاصر للسياسة حيث تم دولنتها انسجاما مع تطور المجتمعات الكلية، ومع تعريف العلماء بأن علم السياسة هو علم الدولة أو علم السلطة بالمفهوم الحديث للسلطة كمفهوم يتجاوز النسق القرابي التقليدي. السياسة اليوم تعني الفعاليات الرسمية والمؤسساتية المنوط بها الحفاظ على وحدة وتوازن المجتمع داخليا وحمايته من أية تهديدات خارجية، وعليه فإن أي حديث عن موت السياسة يعني ضعف أو غياب المؤسسات الرسمية الدولانية القومية والفكر السياسي القومي المُعبر عن هموم وطموحات الشعب وتطلعه لإقامة أو الحفاظ على دولته القومية في مواجهة كل المخاطر الداخلية والخارجية .
كان لا بد من هذا المدخل ألمفاهيمي للسياسة حتى لا يُساء تفسير مفهومنا لموت أو احتضار السياسة، وخصوصا عندما نقارب حال السياسة في فلسطين الآن. في الحالة الفلسطينية فإن استمرارية وجود الشعب الفلسطيني طوال آلاف السنين وما قبل المرور العبراني إلى فلسطين، وتوالي موجات الاحتلال انتهاء بالاحتلال الإسرائيلي اليوم ،والمواجهات اليومية بين الشعب الفلسطيني وجيش الاحتلال،وحالات التأييد والتعاطف الدولي الشعبي والرسمي مع الشعب ومع عدالة القضية الوطنية، كل ذلك يؤكد أن السياسة حالة لصيقة بالمجتمع الفلسطيني وجزء من ثقافته وهويته الوطنية، إنها سياسة شعبية أو سياسة النضال من أجل الاستمرارية والبقاء دفاعا عن الأرض والهوية ،كما لا يمكن الحديث عن موت السياسة الشعبية خصوصا في ظل الانتفاضة الشعبية المتواصلة داخل الأراضي المحتلة.
في مقالتنا هذه نقصد بالسياسة في الحالة الفلسطينية الراهنة السياسة الرسمية للنظام السياسي من قيادة ومؤسسات ومنظومات فكرية وقانونية وثقافية، ودور وفاعلية هذه الأخيرة، وطبيعة الخطاب السياسي للنخبة السياسية فيما يخص إدارة شؤون الشعب ما بعد النكبة. السياسة بهذا المعنى ظهرت مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 كعقد اجتماعي سياسي مأسَسَ وأطرَ الحالة السياسية، ومع ظهور الأحزاب السياسية ،ثم مع تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، وما نتج عنها من وجود قانون أساسي ومجلس تشريعي وحكومة ونظام انتخابي وتشريعات في مختلف المجالات .
موت السياسة أو احتضارها في الحالة الفلسطينية يعني موت الفاعلية السياسية للمنظومة الرسمية من مؤسسات وتشريعات وأنظمة قانونية وأحزاب ،والتي يُعَوَّل عليها لاستكمال عملية التحرر الوطني بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. موت أو احتضار السياسة يعني غياب أو ضعف أداء السياسات العامة في مواجهة الاحتلال أولا، وعلى مستوى بناء مؤسسات الدولة في مجالات الاقتصاد،الصحة،التعليم،الأمن،القضاء،التشريع،الإعلام،حماية البيئة،الخ ثانيا.
احتضار السياسة بهذا المعنى له مؤشرات متعددة،أهمها تواتر الحديث عن النهايات: سلطة وطنية منتهية الولاية،مجلس تشريعي منتهي الولاية،رئيس سلطة منتهي الولاية، نهاية وفشل التسوية السياسية، قرار أممي مؤجل التنفيذ بالاعتراف بفلسطين دولة مراقب، انتخابات مؤجلة، قانون أساسي مُعطل، أحزاب عاجزة وتتراجع شعبيتها ودورها، اتفاقات مصالحة وطنية غير قابلة للتطبيق، حكومة وفاق وطني عاجزة، حكومة وحدة وطنية مؤجلة، الإطار المؤقت أو لجنة تفعيل منظمة التحرير مؤجلة، نخب سياسية واجتماعية ينخرها الفساد، مراهنة الأحزاب والنخب السياسية على أجندة ومشاريع خارجية ورهن مصير القضية الوطنية بها سواء كانت مشاريع (إسلامية) أو مشاريع تسوية أمريكية أو مشاريع تسوية عربية ،تراجع ملحوظ في مجالات الإبداع العلمي والفكري والثقافي، الخ .
عندما تصبح كل المؤسسات الرسمية و(الشرعية) منتهية الولاية أو عاجزة فنحن أمام حالة من موت السياسة ،أو فلنقل احتضار السياسة حتى لا نقطع الأمل بإمكانية استنهاض مكونات النظام السياسي وخصوصا منظمة التحرير الفلسطينية ، بالرغم من كل المؤشرات التي تُشير إلى غير ذلك. إلا أن أخطر ما يُنذِر بموت السياسة الرسمية هو تأجيل عقد المجلس الوطني وتأجيل الانتخابات وتأجيل المؤتمر السابع لحركة فتح من منطلق أن استنهاض منظمة التحرير مرهون باستنهاض حركة فتح أو على الأقل حل مشاكلها الداخلية. مصير الشعب والقضية غير مرتهن بتسوية أمريكية أو بقرار أممي، ولا حتى بوجود سلطة مرتهنة باتفاقات التسوية،بل بوجود منظمة تحرير فلسطينية جامعة وشاملة للكل الفلسطيني ووجود قيادة وطنية جامعة ،وتأجيل عقد دورة المجلس الوطني وفي نفس الوقت عدم عقد لجنة تفعيل المنظمة هو الأمر الخطير في الموضوع .
إن كانت اللجنة المركزية لحركة فتح في اجتماعها يوم السادس من ديسمبر الجاري حاولت تدارك خطورة الموقف وناقشت الدعوة لعقد دورة عادية للمجلس الوطني وعقد المؤتمر السابع لحركة فتح فهي خطوة مهمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ،إذا ما توفرت الجدية في هذه الدعوة وتبعها مباشرة إجراءات عملية في هذا السياق ،وخصوصا أن هذا الاجتماع جاء بعد يوم واحد من اجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والتي نلمس من بيانها أنها استشعرت حالة الموات في النظام السياسي وما ينتظر القضية من مخاطر .
السياسة الشعبية المتجلية اليوم بالحراك الشعبي أو الانتفاضة تمنح أملا وتُتيح فرصة للنظام السياسي والسياسة الرسمية للخروج من غرفة الإنعاش ومن حالة الاحتضار،إن لم يهتبل النظام السياسي و(القيادة الفلسطينية) هذه الفرصة لن تنتهي القضية الفلسطينية بطبيعة الحال، بل ستؤسس الانتفاضة والسياسة الشعبية قيادة جديدة تؤسس نظاما سياسيا جديدا على أسس جديدة تتجاوز كل ما سبق،لأن فلسطين ليست الأحزاب والنخب السياسية، ولا السلطة الوطنية، ولا حتى منظمة التحرير. الشعب الفلسطيني الذي حافظ على وجوده الوطني وعلى هويته الوطنية منذ أربعة آلاف عام قبل الميلاد إلى اليوم قادر على اشتقاق وسائله وأدواته التي تمكنه من مواصلة مشواره النضالي حتى قيام دولته المستقلة. التهديد الأمريكي والإسرائيلي بتداعيات انهيار السلطة ونهاية أو إنهاء سلطة الرئيس أبو مازن، والزعم بأن ما بعدهما سيكون الفوضى وداعش كما يقول وزير الخارجية الأمريكية جون كيري لا يُخيفا أحدا من الفلسطينيين إلا قلة من أصحاب المصالح المرتبطين بالاحتلال، لأن ما بعد انهيار السلطة وما بعد الرئيس أبو مازن سيكون 12 مليون فلسطيني يحملون الراية ويُكملون المشوار، نصف هؤلاء داخل وطنهم فلسطين ،فماذا ستفعل تل أبيب وواشنطن بهذه الحقيقة ؟.