الأربعاء 12/10/1444 هـ الموافق 03/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الفانتايا في رواية 'الهؤلاء' مجيد طزبيا...رائد الحواري

 تعتبر هذه الرواية من بواكير الروايات العربية التي تحدثت عن الاعتقال، فهي ترسم لنا صورة القمع التي مورست على المواطن العربي، فهناك صورة شبة خيالية، لا يمكن لإنسان أن يصدق بحقيقتها، لكنها على أرض الواقع كانت قريبة مما يمارس ضدنا، فقد عشنا في زمن القمع والممنوع، وأنت مدان حتى تيبت براءتك، ومن يتعامل مع النظام الرسمي العربي، يتأكد له حقيقة المسافة التي تفصل الواقع العربي عن طبيعة العصر، فنحن ما زلنا متشبثين بالروتين القاتل، ونمارسه بطريقة عادية، ولا نشعر بعقم هذا الشكل من المعاملة، فقد تم تركيب عقلية العربي على القبول بالتعقيدات والتي نسميها 'اجراءات قانونية/رسمية' وكأنها منزلة من السماء، لا يجوز المس بها مطلقا.

"مجيد طوبيا" قرع الجدران من أكثر من أربعين عاما، ولكن لا من مجيب، فالواق ما زال على حالة، ورغم انكشاف الأحداث في سورية وتوضيح بأن ما يجري فيها لا يخرج من محيط التخطيط الدولي الامبريالي، نجد بعض سلوكيات النظام السوري، خاصة ما يتعلق منها بالحريات ما زال على حاله، فهناك من يقبع في المعتقلات منذ أكثر من خمس سنوات ـ من عمر بداية الأحداث ـ إلى غالية الآن وبدون محاكمة أو مسألة، وقد تم مواجهة وزير المصالحة الوطنية "علي حيدر" بهذا الأمر ولم تكن اجابته شافية للمتلقين حول هذا الموضوع.

الهؤلاء

ما يحسب لهذه الرواية أنها تتحدث عن قمع عام، لم يتم تحديد مكانة، وإذا ما استثنينا بعض الإشارات إلى مصر تحديد، يكون النص أقرب إلى العام منه إلى الخاص، فبداية الحديث عن "الهؤلاء" كانت بهذا الشكل، "نسبة المتعاملين سرا مع الهؤلاء من بين المثقفين تصل إلى الخمسين في المائة" ص10، بهذا الكم من المخبرين يتعامل المثقف العربي، وعليه أن يتجاوزه حتى يستطيع النجاة من محيط الخطر، ومثل هذا الكم من المخبيرن كان هاجس المراقبة ورصد التحركات يفرض ذاته على المثقف، "...أن احاديثهم الخاصة يتم تسجيلها بمعرفة الهؤلاء عن طريق أجهزة تسجيل دقيقة توضع في ساعة بمعصم محدثهم او في قلم بجيبه العلوي" ص11،  مثال هذه الأدوات كانت مستغرب استعمالها في سبعينيات القرن الماضي، ولم تكن معروفة، كما هو الحال الآن، فنحن العرب في مجال الأمن متطورين جدا، ولهذا سبقنا عصرنا!.

الهؤلاء لم يقتصر وجودهم ومراقبتهم للطبقة المثقفة وحسب، بل هم منتشرون  في كافة الأماكن، "وعندما انصرف لاحظت عن قرب رجلا بعين جاحظة يجحظ نحوي فكرهت كل شيء ونهضت ... وبعد أن ابتعدت نظرت خلفي فوجته يتبعني" ص25، صورة المراقبة وجعل كل شخص يشعر بأنه مطارد/مطلوب/تحت المجهر/مراقب كانت ومازالت مفروضة على المواطن في المنطقة العربية، فهو لكي يكون مواطن صالح عليه أن يتقبل هذا الأمر ولا يبدي أي امتعاض أو تذمر، فمصلحة الوطن تفرض هذا الأمر!

وبعد أن يمسى راوينا محل شبهة نجده يخبرنا عن الكيفية التي تم فيها القبض عليه: "...فوجئت بسبعة من رجال الهؤلاء يحيطون بسريري ـ اظنهم ثمانية ـ وكان الوقت ليس كالنهار وليس كالليل... وكانوا جميعا من ذوي العيون الجاحظة" ص28، هذا وصف طبيعة وانتشار الهؤلاء، فهم كالهواء أينما نذهب نجدهم، وحيثما نكون يكونوا، فبشرى لنا بهم!

 

الفانتازيا

مشاهد الفانتازيا التي يقدمها لنا "مجيد طوبيا" كثيرة ومتعددة،  وسنحاول أخذ البعض منها، فالرواية في الأساس مبنية عليها، من هنا ارتأينا تقديم بعض المشاهد وليس كلها، يذهب صاحبنا مع المندوب إلى احد مراكز الأمن لكي يحصل على شهادة بالبراءة من أي تهم، جنائية أو أمنية، فيصف لنا اجراءات هذا المركز "ـ توقيعي وحده لا يكفي، تعرف هذت؟

سألته

ـ الست مسؤةلا عن هذا النخفر؟

ـ لا تسأل أنت .. وعلى كل حال فأنا لست وحدي هنا، يشاركيني ثلاثة زملاء آخرون ولا بد من الحصول على تواقيعهم قبل مهر الشهادة بخاتم المخفر" ص46، أجراء منطقي وعقلاني!، وعلى المواطن أن يستوعب مصلحة الوطن  واهمية الأمن فيه.

وبعد أن يتم الحصول على البراءة من أكثر من مخفر، وكلها قامت بنقس الاجراءات، يصل إلى المخفر رقم عشرة فيجد صاحبنا هذه المعاملة، " شد أحدهم شعري للتأكد من أنه حقيقي، ونحسس أحدهم صدري خشية أنن أكون امرأة في زي رجال رغم أن ذقني وشاربي الطويلين" ص50، ليس هناك أفضل من التأكد من جنس الناس، فهم خليط من الذكور والاناث والمخنثين، فلا ضرر من التأكد من جنس المتهم!.

وبعد أن يصل إلى محطة جديدة من التواقيع يجد كم هائل من الناس فلا يعرف كيف يفصل بينهم، أيهم المندوب وأيهم المتهم، " أن الذين حياهم كانوا يشبهونه إلى حد كبير، فهم مندوبون مثله، والذين تجاعلهم فكانوا يشبهونني إلى حد المطابقة، ...

ـ معنى هذا أنه سوجد متهمون آخرون غيري يطاف بهم الآن؟؟

ـ طبعا يا أخي .. وهل تظن أنك فريد عصرك؟!" ص52 و53، إذن لم تقتصر عملية الحصول على شهادة البراءو على صاحبنا الرواي ، بل هناك كثيرين مثله.

وبعد هذه الاجراءات والطواف على المخافر، يتقدم النظام من اجراءات جديدة تريح المواطن من هذا التعب والسعي في أنحال البلاد الواسعة، فنجد هذا الاجراء المختصر الذي يكف البلاء عن العباد، "على كل فأنت لست في هذا النخفر بحاجة إلى الحصول على براءة عن كل ربع يوم، ستعرض عرضا قانونيا على كلابه البوليسية، فإن أفتت جميع الكلاب بأنك بريء انصرفنا على الفور" ص53، لا أحد يشك باهتمام النظام الرسمي العربي بوقت المواطن، من هنا نجده يستخدم هذا الاجراء السريع والعصري.

ولكن لنستمع إلى طريقة تجاوز الكلاب للمتهمين، " ...ثم اشار له فبدأ يشم رجال الصف واحدا بعد الآخر، مر سريعا على المجنوعة المتطرفة، وقبل الوسط تمهل أمام أحد الرجال فرأيت وجهه ينفعل ويحمر في سعادة!!  ودهشت لأنه  لم يصب بالخوف بل لقد أستاء  عندما تركه إلى التالي فمن يلي التالي!!.. هكذا وصل الدور عندي.. تشممني الكلب الهائل فتوترت اعصابي... ثم ارتد إلى الخلف بحيث شملني كلي في نظرة واحدة، فعرقت وتوترت وعلى الفور قفز نحوي!!

زام الضابط:

ـ عظيم!!

ثم وضع اشارة في ورقة أمامه ... هنفت:

ـ إنني اعترض على هذه النتيجة

...وبدون مجهود يذكر هجم علي الكلب القميء.

وتكرر ما حدث مع سبعة كلاب أخرى، .. وعند ذلك جاهرت محتجا:

ـ أنا لست مجرما

أندهش الضابط:

ـ ومن قال ذلك؟! أن فحصك لم يكتمل بعد!!

 وافهمني المندوب بان هناك مجموعة أخرى من الكلاب لا بد أن اعرض عليها" ص54 ـ 56، يضن البعض بأن المشهد توقف هنا، لكنه يكمله لنا الراوي، فهو من أهم المشاهد التي تثير الدهشة والاستغراب، فهل هو مشهد حقيقي أم وهم؟، هذا ما سيخبرنا به الكاتب، " ـ كيف تركني الضابط رغم تعرف الكلاب علي؟!

ـ لهذا السبب افرج عنك، فهذه الكلاب لا تتعرف على المواطن المذنب وانما على المواطن البريء" ص68، فكل الموجودين في الدائرة كانوا مجرمين باستثناء صاحبنا، وهنا يكشف لنا الكاتب حجم المأساة التي يعيشها مواطننا في المنطقة العربية.

وبعهد هذا الإنجاز الذي حققه صاحبنا الراوي، نجده يخبرنا عن تطوير هذه الكلاب بحيث أنها كانت... " خصص كل كلب لنوع معين من انواع البراءة، فواحد مهمته اكتشاف البريء من السرقة، والآخر للبريء من القتل والثالث من التفكير وهكذا" ص69، في نهاية الرواية يكشف لنا الراوي طبيعة المكان النهائي الذي يصل غليه المطاف به، فهو مكان لا يمكن له إلا أن يجعل للإنسان يتقبل ويحترم نظام "الديجم" راعي وحامي البلاد والعباد! " ـ تبدو كشواهد قبور!!

ـ اعترف لك بالذكاء

ارتجفت ... قال:

ـ ألم تلاحظ أن رحلتنا إلى هنا كانت طويلة جدا ومرهقة جدا؟!  أومأت، قال :

ـ فعند تخيير السابقين لك بين البقاء هنا أو العودة اختاروا جميعا المكوث..

... لقد فضلوا جميعا البقاء هنا عن خوض تجربة الاياب، والمواطن حر في ذلك" ص101، إذن نهاية موفقة للمواطن العربي، الذي يختار بكل رحابة صدر، بكل حرية  البقاء في الصحراء لكي يموت فيها على أن يكون  تحت حكم  "الديجم" العظيم.

 

المرأة

 قسوة وقع المشاهد على المتلقي، يقدم لنا الكاتب في مقابلها شيئا من الرفاهية، من خلال حديثه عن المرأة فهي كانت البلسم الشافي للراوي، فكان حضورها يشكل لسمة ناعمة له، فتجعله أكثر ثباتا وتماسك بالحياة، "حاولت الهروب من واقعي الثقيل إلى ذكرياتي اللطيفة بلا جدوى، لكني وبمجرد  أن جاءني من الطريق صوت الناس والعربات  والاطفال والباعة ـ وجدت صوت حبيبتي يداعب سمعي، ... كم أحن إلى همسات حبها واناملها الناعمة تداعب شعري في ود" ص59، المرأة عند كافة من كتبوا عن المعتقل جعلوها تأخذ صفة النعومة والمهدئ والتي تمنح الصمود والثبات، فهي بلا شك تعد أحد أهم الأشياء في حياة الرجل، من هنا نجد هذا التأكيد على حضورها الايجابي.

الرواية من منشورات الجمهورية العراقية، وزارة الأعلام، سلسة القصة والمسرحية (51) طبعة 1976، عن دار الحرية للطباعة، بغداد.

2015-12-16