خطاب الرئيس أبو مازن في بيت لحم يوم السادس من يناير الجاري وضع النقاط على الحروف في بعض القضايا ولكنه ترك غالبية القضايا والإشكالات الوطنية دون إجابة. كان مضمون الخطاب متوقعا لكل المُلمين بمنطق وفلسفة الرئيس السياسية، والعارفين بخفايا السلطة والوضع الداخلي، ولكنه كان خطابا مخيبا لآمال البعض ممن راهنوا أن الرئيس سيتخذ قرارات مصيرية ستقلب الطاولة، كتعيين نائب له أو اتخاذ موقف تجاه حل السلطة، بل وصل الأمر بالبعض لتَوَقُع تقديم الرئيس لاستقالته، وهؤلاء بنو توقعاتهم إما من تشوقاتهم وتمنياتهم بأن يحدث ذلك، أو من تقارير مُسربة تقول بأن الرئيس أبو مازن يعيش حالة إحباط وحالة مرض، أو من تقارير وأخبار إسرائيلية كانت تتوقع حدوث ذلك أو تريده .
الرئيس بدا في صحة جيدة متماسكا. حيث أعاد التأكيد على الموقف الرسمي من مسألة التسوية والسلام والمفاوضات دون المبالغة في الآمال حول حل قريب لمعضلة التسوية، وأكد الرئيس على الالتزام بمقررات المجلس المركزي واللجنة التنفيذية ولكنه رمى الكرة مرة أخرى إلى ملعب هاتين المؤسستين مما يعني عدم وجود مؤشرات على تنفيذ هذه القرارات، والخطاب لم يأت بجديد فيما يتعلق بالمصالحة الوطنية ومعبر رفح، بل حَمَّلَ مرة أخرى حركة حماس المسؤولية عن فشل المصالحة وتأخر إجراء الانتخابات وعن معاناة قطاع غزة وذلك لرفضها مبادرة فتح معبر رفح ورفضها إجراء الانتخابات، وبالنسبة للانتفاضة فقد تجنب الرئيس الإسهاب في الحديث عنها أو اتخاذ موقف معها أو ضدها، منتقدا في نفس الوقت السلوك الإسرائيلي تجاه الشباب الفلسطيني الذي يقوم بحقه بمقاومة سلمية، كما أعاد الرئيس التحذير من تحويل الصراع لصراع ديني .
الجديد في خطاب الرئيس أنه حسم في اللغط والجدل حول مستقبل السلطة الوطنية. فقبل خمس سنوات تقريبا ومع توقف المفاوضات تحدث الرئيس عن سبع خيارات ومنها خيار 'تسليم المفاتيح' لإسرائيل أو تحميلها المسؤولية عن الأراضي المحتلة، وهو ما فسره مقربون من الرئيس بأنه تهديد بحل السلطة الفلسطينية. الرئيس أبو مازن في خطابه حسم الأمر مؤكدا أن السلطة إنجاز وطني وخطوة نحو الدولة لا يمكن التخلي عنه ، وهو في ذلك لا يرد على نتنياهو وصناع القرار في إسرائيل الذين يهددون بإنهاء السلطة ويبحثون في مرحلة ما بعد سقوط السلطة، بل كان الخطاب يرد أيضا على تساؤلات من بعض الأطراف الفلسطينية حول جدوى وجود السلطة بل والتشكيك بدورها الوطني، وردا غير مباشر على بعض أركان السلطة الذين حذروا من أن البديل عن السلطة هو تنظيم الدولة الإسلامية 'داعش' !، وردا على حركة حماس التي تراهن على سقوط السلطة في الضفة لتبقى سلطة حماس في قطاع غزة السلطة الفلسطينية الوحيدة .
كان من الجيد أن يُنهي الرئيس الجدل حول مستقبل السلطة، ولكن لا يكفي القول بالتمسك بالسلطة وأنها انجاز وطني، بل السؤال عن أية سلطة نتحدث؟ وأية سلطة نريد ؟ وما علاقة السلطة بالمؤسسات الأخرى؟ ذلك أنه ليس المهم وجود سلطة بل وظيفتها ؟.
نعم لا يمكن لمن يسعى لدولة فلسطينية وليس في تفكيره العودة لمرحلة ما قبل تأسيس السلطة وتبني نهج التحرر الوطني والكفاح المسلح، لا يمكنه أن يتجاهل السلطة الفلسطينية القائمة أو يعمل على إلغائها حيث لا دولة دون سلطة سياسية ، ولكن ... حتى تكون السلطة سلطة دولة أو تهيئ للدولة فيجب أن تكون سلطة ذات سيادة لا تعلوها سلطة أخرى، 'سلطة وطنية فلسطينية' كما كان يريدها الراحل أبو عمار وكل الشعب، وليس 'سلطة فلسطينية' - بدون كلمة وطنية- كما تريد إسرائيل وكما هو منصوص على مسماها في اتفاقية أوسلو، وهناك فرق كبير بين المسميين، فالسلطة الفلسطينية قد تكون أية سلطة،كسلطة روابط القرى، وسلطة المخاتير، وسلطة جماعات مسلحة هنا وهناك، أو سلطة أمنية تنسق مع إسرائيل. السلطة الوطنية الفلسطينية المستقلة هي فقط السلطة التي تمهد وتؤسس للدولة، وهذا يتطلب أن تفك السلطة ارتباطها باتفاقات أوسلو وبكل الالتزامات والاتفاقات المترتبة والتابعة لتسوية أوسلو حتى وإن أدى الأمر للتصادم مع الاحتلال .
نعم الشعب يريد سلطة وطنية حقيقية، ليس ردا على إسرائيل التي تُهدد بإنهاء السلطة – هذا إن كانت إسرائيل جادة في تهديدها – وليس لاستمرار دفع الرواتب وتأمين متطلبات الحياة اليومية، وهي أمور يُفترض أن تتحملها سلطة الاحتلال ما دامت إسرائيل تحتل كل الضفة الغربية والقدس وحتى غزة، بل سلطة تُحرر الأرض وتُوقِف الاستيطان وتدنيس المقدسات وتُعيد للشعب كرامته وتوقِف إرهاب الجيش والمستوطنين . الشعب لا يريد السلطة بما هي عليه وبوظائفها وعلاقاتها الراهنة، بل يريدها سلطة الكل الوطني، سلطة تقودها حكومة وحدة وطنية.
إن السلطة ليست هدفا بحد ذاته بل وسيلة للوصول للدولة، وحتى تؤدي السلطة الفلسطينية وظيفتها ودورها في التأسيس للدولة فتحتاج لتجديد ذاتها ومؤسساتها، ونقولها بصراحة إن السلطة بواقعها الراهن، مؤسسات وأشخاص وعلاقات، غير مؤهلة لا أن تكون مشروع تحرر وطني ولا مشروع دولة، ويجب أن لا يتحول الحفاظ على السلطة إلى هدف بحد ذاته، ويجب أن لا يُلهينا الخوف على السلطة ومن خلالها الخوف على الرواتب ومتطلبات الحياة اليومية، عن التفكير الجاد باستنهاض كل المؤسسات الرسمية والشرعية ،المجلس التشريعي ،حكومة وحدة وطنية ، منظمة التحرير الفلسطينية .
السلطة الوطنية الفلسطينية التي هي إنجاز وطني وحصيلة مشوار طويل من النضال بكل أشكاله يجب أن تلتحم بالشعب وتُعيد الثقة بينها وبين الشعب، وتبني مؤسسات الدولة في إطار السيادة والقانون، قانون كل الشعب وعلى كل الأرض، هذه السلطة لا تحتاج لراسبوتين وغوبلز ومهرجين وانتهازيين تسللوا ضمن مخطط جهنمي إلى مواقع القرار وباتوا يمسكون بتلابيب السلطة وبمصير الشعب من خلال الملفات الخطيرة المُكلفين بها من الرئيس وباسم الرئيس. كما أنها لا تحتاج للوجوه المتهرئة القديمة، أولئك الذين اخذوا نصيبهم من السلطة مبكرا من خلال مناصب متميزة، وانشغلوا طوال سنوات بمراكمة الثروة والجاه والعلاقات، ويحاولون اليوم العودة لمشهد الأحداث مع بدء موسم معركة خلافة الرئيس، موسم يتم فيه توظيف المال والسلاح والعائلية والجهوية، وتَكثُر فيه المزايدات والمناكفات والكذب وإدعاء السبق في النضال والوطنية، وكأن الأمر يدور حول خلافة شيخ قبيلة أو كبير عائلة، وليس خلافة رئيس الشعب الفلسطيني بكل مكوناته ومؤسساته.