لقد أصبحت السلطة الفلسطينية أكثر تعبيراً عن تمسكها بخيار التسوية مع الإحتلال , رغم ما لاقته من تعنت وتجاهل من كافة الحكومات الصهيونية المتعاقبة , بما يوحي برفض الإحتلال لأي حل سياسي يسمح بتطور السلطة إلى كيان سياسي قابل لإنجاز مشروع دولة مستقلة , تشكل تهديداً إستراتيجياً للكيان الصهيوني في المستقبل , وأصبح واضحاً أن الإحتلال بعد إنتهاء المدة الزمنية القانونية لإتفاقيات أوسلوا في أيار 1999م , قد إتخذ القرار على إبقاء سلطة الحكم الذاتي بوظيفتها الأمنية , والتي تخدم إستراتيجيات الكيان الصهيوني في بسط سيطرته على أجزاء مهمة من الضفة والأغوار , مع إبقاء أجواء السلام المزعوم تخيم على المنطقة سعياً للإختراق التطبيعي في المحيط العربي والإسلامي , بما يوفر عوامل الإستقرار والديمومة لكيان الإحتلال في فلسطين .
ومما يوضح الأمر أكثر وصول مفاوضات كامب ديفيد في صيف عام 2000 إلى طريق مسدود , ولم يستطيع الرئيس الراحل ياسر عرفات رحمه الله أن يوقع على إتفاقية تسوية مع الإحتلال رأى فيها أن المنتوج عبارة عن كيان مسخ تابع ذو وظيفة أمنية في خدمة المحتل , لا يساوي ذلك أي تضحيات بذلها الفلسطيني في مسيرة مقاومته ضد المشروع الصهيوني , ويتضح أن المسار التفاوضي كان يسير وفقاً للرؤية الصهيوأمريكية والتي تجعل من الفلسطيني الثائر بمثابة حارس أمن بمرتب مرتفع يوفر الحماية للكيان الصهيوني , مستنداً في ذلك لشعارات الوطنية والمصلحة العليا للشعب الفلسطيني , فكان مصير الراحل الشهيد ياسر عرفات الذي رفض بعناد هذا الأمر , أن حوصر من جيش شارون وتمت معاداته ومقاطعته من الرؤساء العرب , وتآمر عليه بعض القادة الفلسطينيين والذين يتربعون الآن على عرش السلطة والحكم في رام الله عبر مؤامرة الإنقلاب الأبيض في رام الله . فالوقت التي كانت دبابات شارون تحاصر المقاطعة , إلى أن تم إغتيال الزعيم الراحل بالسم في عملية مخابراتية لإزالة أكبر عقبة من الصعب تجاوزها للوصول إلى المرحلة الحالية التي أصبح يتباهى فيها الرئيس عباس ومدير مخابراته سوياً بأهمية التنسيق الأمني مع العدو الصهيوني , وأن المفاوضات خيار إستراتيجي للشعب الفلسطيني لا يمكن التنازل عنه أو الإبتعاد عن طريقه , في تكبيل واضح لمقدرات وطاقات الشعب الفلسطيني الثورية والتي نرى نفحاتها المباركة من جيل الشباب اليوم المنتفض في ساحات الوطن .
ويزداد مسلك قادة السلطة الفلسطينية ذات الوضوح بالتعلق بحبال عملية التسوية , بعد إستحداث حكومة ما بعد الإنقسام في الضفة الغربية والتي ترأسها سلام فياض حيث إنساقت مع المشروع الصهيوامريكي , عبر مشاريع تدجين الفلسطيني وسلخه عن ثقافته الوطنية , فالفلسطيني الجديد لا يرى في الصهيوني عدو محتل للأرض ومغتصب للثروات , بل يرى الفلسطيني الجديد بالمستوطن جار وله حقوق الجوار إن ضل الطريق بعد عودته من حفلة قتل للفلسطينيين أن تعيده قوات الأمن الفلسطيني آمن سالم إلى مستوطنته , ولا خجل ولا مدارة في هذا السلوك المدان , بل يتم التباهي بتلك الأفعال والأقوال المرفوضة شعبياً , ويتردد هذا الحديث في الإعلام الفلسطيني الرسمي في سبيل ترسيخه كقناعات في المجتمع الفلسطيني , فترى تلك المفاهيم تتردد على لسان رأس الهرم السياسي للسلطة الفلسطينية , عندما يطالب الرئيس عباس بضرورة تحقيق السلام مع جيرانه (الإسرائيليين ) , وأنه يريد أن يحافظ على دولة "إسرائيل " للإسرائيليين ولا يرد عودة اللاجئين إلى "إسرائيل " ! .
ولعل هذا السلوك السلطوي قد أدى إلى إتساع الفجوة بين مؤسسات السلطة الأمنية والسياسية وبين طموحات وتطلعات الشعب الفلسطيني , وأصبح أداء السلطة سياسيا وإعلاميا وأمنيا بعيداً عما يجرى من أحداث في الارض الفلسطينية , فلا عجب أن يصافح الرئيس عباس القاتل نتانياهو في باريس بتاريخ 30-11-2015م , في حين كانت جرائم الإحتلال تتجلى بأبشع صورها عبر عمليات الإعدام الميداني للفلسطينيين على حواجز الإحتلال في شوارع وطرقات مدن الضفة المحتلة , وكما لم يعد غريباً أن يستمر التنسيق الأمني بين جيش الإحتلال الصهيوني والأجهزة الأمنية خلال الأنشطة الأمنية الليلية التي يقوم بها الإحتلال وتنتهي باعتقال العشرات من الشبان يوميا , بل يزداد إبتعاد السلطة الفلسطينية عن الواقع الفلسطيني بأن تستجدي المفاوضات مع الإحتلال في الوقت الذي يقارع شعبنا المشروع الصهيوني في كل شارع وزاوية في الضفة والقدس , أفلا تخجل السلطة أمام آيات التضحية والفداء التي يسطرها الشباب الفلسطيني ! , فتقوم بإرسال المبعوثين الرسميين لحضور الندوات واللقاءات مع قادة الإحتلال الصهيوني في الوقت الي تمارس قوات الإحتلال الصهيوني الإرهاب والقتل بحق شعبنا الفلسطيني , وما أعلنته حكومة الحمد لله في إجتماعها الأسبوعي في 19-1-2016م , عن إرسالها الوزيرين حسين الشيخ وشكري بشارة للإجتماع مع وزير المالية الصهيوني موشيه كاحلون تحت عنوان مناقشة الجمود في " عملية السلام" , الا أن مسار الحوار في هذا اللقاء دار حول بعض الترتيبات والتسهيلات في المجال الإقتصادي والتجاري , والتي قد تستفيد منها السلطة وأجهزتها الأمنية في محاولات إجهاض إنتفاضة القدس , ويكتمل المشهد السلطوي المعادي لإنتفاضة القدس عبر تصريحات رئيس المخابرات الفلسطينية اللواء ماجد فرج , خلال مقابلة أجرتها معه مراسلة الشؤون الأمنية والعسكرية " " Barbara Opall-Rome من مجلة ديفنس نيوز , ليعلن عن إنجازه الغير مسبوق بإفشال وإحباط أكثر من ( 200) عملية فدائية منذ إندلاع إنتفاضة القدس كانت تستهدف الإحتلال ومستوطنيه , ويعترف رسمياً بإعتقال ( 100 ) شاب فلسطيني خلال تلك الفترة خططوا للقيام بهجمات ضد المستوطنين وقوات الإحتلال في الضفة المحتلة , هل نعجز عن توصيف هذا الفعل الجبان وفي أي خانة يصب ؟ بكل تأكيد هذا الفعل اللاوطني خارج دائرة المصلحة الفلسطينية , ويخدم الإحتلال الصهيوني ويثبت إحتلاله ويرسخ وجوده على أرضنا , وهو بمثابة تنكر لدماء شهداء إنتفاضة القدس وكافة شهداء شعبنا منذ إنطلاقة الثورة الفلسطينية , وهو إنسلاخ عن تاريخ ومفاهيم الحركة الوطنية الفلسطينية , ولا يقوى أفصح الناطقين وأكثرهم بيانا أن يدافع عن تلك الجريمة النكراء , الا إذا رضي على نفسه أن يكون شاهد زور, من الواضح أن السلطة الفلسطينية تسير في طريق بعيد كل البعد عن الطريق الذي يسلكه شعبنا الفلسطيني المنتفض, وأنها في مراحل الإنفصال الفعلي عن الهوية الفلسطينية الأصيلة , وهذا قد يعجل بسقوطها المدوي لا محال , بسبب تنكرها الفاضح لتضحيات وبطولات شعبنا في مقاومة الإحتلال , وسعيها الحثيث لإجهاض إنتفاضته الباسلة , ولكن القناعة الراسخة لذا جماهير شعبنا الفلسطيني , بأن هذا الفريق الأمني السلطوي ستنالهم الهزيمة المدوية , وستكون درساً عبر التاريخ الفلسطيني , وعبرة لكل من يحاول أن يتنكب طريق الثورة التي يخوضها أبناء جلدته , أو يحاول الوقوف كمعول هدم أمام سريان سيل الثورة الجارف ضد المحتلين .
كاتب وباحث فلسطيني