تكتسب العادات الاجتماعية سمتها الالزامية بقبولها من قبل الاغلبية في المجتمع ورضاهم عنها أو خشية البعض من انهيار مراكز القوة "الرمزية" لهم. لكن تغير العادات سمة تطور المجتمعات أو هي طبيعة الحياة وسننها فتزول كليا أو جزئيا مع الوقت أو بمبادرة جريئة من أشخاص طلائعيين "محدثين، مبادرين" يأخذون على عاتقهم حسم الموقف لاحداث التغيير. لكن سمة التغيير هذه منطلقة من أن هذه العادة هي بذاتها من صنع البشر تتغير من مكان الى اخر ومن زمان لآخر؛ أي ما كان محببا في السابق قد يكون مكروها اليوم أو غير نافع أو أصبح مكلفا لا طاقة لعامة الناس به ما يتطلب النظر فيه وإلغاءه.
مقال اليوم يعاضد ويساند مبادرة وقف التكلفة في العزاء التي انطلقت في محافظة بيت لحم والقاضية بالتوقف عن توزيع التمر للمعزين وغداء اليوم الثالث الذي يقدمه أهل المتوفى، بغض النظر عن التسميات في المحافظات والمناطق الفلسطينية له، ما يحول دون تكلفة زائدة و"مرهقة" للناس خاصة غير المقتدرين ما يضطرهم للاستدانة "لاكرام" معزيهم.
صحيح ان التطور الحاصل على سلوك الناس نقل العزاء من البيوت الى قاعات وصالات مستأجرة لاستقبال المعزين خاصة في المدن والمخيمات. أصاب التغيير في بداية الانتفاضة الاولى عادة تقديم السجائر وتحول الى تقديم التمر. ولم نعد نرى قارئ القرآن "الشخص" وتحول الى استخدام المُسجل واسطوانات "C D" والى شاشة تلفزيون فيما يحض البعض على عدم استخدامها لغياب الاستماع والإنصات انطلاقا من الاية الكريمة 'وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ' وللاختلاف في التفسير ما بين الوجوب العيني أو الكفائي. وتحولت مجالس العزاء الى مجالس نقاش في السياسة والاجتماع، وفي أيامنا هذه الى لقاء للأصدقاء والمعارف نتيجة الانشغالات اليومية التي تحول دون ملاقاة الناس لبعضهم دون نكرانٍ للقيام بواجب العزاء.
عادة توزيع التمر والأكل وغيرها من العادات المكلفة يمكن تغييرها بل تغييرها أفضل من بقائها لأسباب مادية وأخرى وطنية. ولكي لا نجعل بيوت العزاء بدلا من ألم الفراق للأحباء والترحم لهم الى هم الديون والاقتراض والتحسب لها. وبدلا من أن يحسب المرء لمستقبل أبناءه وأهل بيته بات يحسب ألف حساب ليوم وفاته خوفا من تحول تكلفة العزاء إلى عذاب للأحياء. أما المسألة الأخرى المتعلقة بمصدر التمور التي تغزو اسواقنا القادمة في أغلبها من المستوطنات الاستعمارية الاسرائيلية؛ وفي ظني أنه من باب أولى، سد الذراع، أن نزكي عن أمواتنا بمقاطعتها ووقف المثل القائل "رزق المستوطنات على الأموات 'العزيات'". ولنخفف على الاحياء الباقين لنحسن ختام الموتى ولنجعل الرحمة أعز من البهرجة أو اللحاق بعادات غير ذي جدوى أو معنى.
قال صديقي د. محمد فرحات استاذ علم الاجتماع، وهو من بيت لحم أيضا، في حفل تكريم فلسطين للرباعي التونسي، الحاصل على جائزة نوبل للسلام لمساهمتهم برعاية الحوار الوطني التونسي، من قبل نظرائهم الفلسطينيين أن "الاكرمين أقدر بالتكريم" والمقتدرين هنا أقدر بالمبادرة للإقلاع عن هذه العادة المكلفة.