السبت 15/10/1444 هـ الموافق 06/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
كتب أحمد أبو غوش: عمواس الفلسطينية وعمواس الفرنسية

"عُذب المسيح، وتألم كثير ثم صلب". فتساءل تلميذه العمواسي، كيف؟ ولماذا وهو النبي والرب. ثم قرر العودة إلى بيته وأهله في عمواس مع رفيق دربه . كانا أثناء العودة يتحدثان باحباط وألم عن صلب المسيح، متشككين بما آمنا به وبجدوى الدعوة التي هجرا أهليهما من أجلها. وعلى درب عودتهما إلى قريتهما عمواس ظهر رجل فجأة، وسألهما عن سبب احباطهما. أعادا عليه فحوى حديثهما مستغربين أن يتألم النبي صاحب المعجزات وأن يصلب ويموت. حاول الرجل إعادتهما إلى الايمان، فبين لهما أن المسيح تألم وعانى نيابة عن الناس كافة، فافتدى بنفسه عذابهم وآلامهم.

وصل العمواسيان ورفيقهما قرية عمواس، فأصرا على استضافته ليأكل معهما وينام ليلته في القرية. جيء بالطعام فتناول الضيف رغيف خبز وقسمه بين مضيفيه، فتجلى لهما المسيح. سجد الرجلان له وعندما رفعا رأسيهما كان قد اختفى. عرفا أنهما كانا مخطئين وعاد الأمل ليعمر قلبيهما اللذين انتشيا بالإيمان من جديد. وصارت عمواس رمزا لإيواء الغريب وإطعامه، ورمزا لبعث الأمل. ولهذا السبب بالذات أطلق الأب بيير على جمعيته اسم عمواس.

عمواس الفلسطينية التي مرَّ منها المسيح وتجلى فيها لتلميذيه، وبعث فيهما الأمل من جديد، ظلت قائمة على مدار التاريخ، مرت عليها أيام صعبة وأخرى جميلة. لقد حرقتها دولة روما، وأعيد بناؤها من جديد باسم جديد هو مدينة النصر" نيكوبولوس". نزلت بها لعنة الطاعون ومات الآلاف بهذا الوباء ودفنوا فيها. وظلت عمواس باب القدس الغربي، يمر منها الحجاج، وتمر من فوقها الجيوش للوصول إلى القدس. وقبل عام 1948 كان أهلها يزرعون سهلها الخصب ويرتوون من مائها العذب المتدفق من أرضها، يحيون بحب ويغني لحبهم جمال الطبيعة، وبلابل الدوح تشدوا لأحلامهم. وفي عام 1948 تعرضت لهجمات المستوطنين الصهاينة ، لكنها صمدت بأهلها والكتيبة الأردنية المدافعة عنها. ورغم ثباتها وصمود أهلها خسرت عمواس والعمواسيون كل اراضيها السهلية الخصبة التي أصبحت "منطقة حرام".

ومع ذلك عاش أهل عمواس في قريتهم الجميلة يملأهم أمل عظيم بالعودة إلى أرضهم المحتلة التي بارت ونما فيها كل ما هو غريب.

في السادس من حزيران عام 1967 دخلها جيش الاحتلال الإسرائيلي فجرا، وأجبر أهلها العزل الآمنين المسالمين على الخروج من بيوتهم شبه عراة شبه حفاة. قال لهم المحتل " امشوا من هنا حتى جدة في السعودية ولا تتوقفوا " دمرت القرية وتشتت أهلها، جزء استقر في مدينة رام الله أو حولها ، والجزء الأعظم استقر في الأردن أو هاجر منها إلى كل بقاع الأرض. ورغم التشتت والتشرد توحد العمواسيون على النضال من أجل العودة إلى قريتهم وإعادة إعمارها من جديد، رافضين التوطين خارجها، والتعويض عنها، والتبديل في أرضها، مصرين على العودة إليها وإعادة إعمارها.

عمواس الفرنسية

في عمواس الفرنسية يبنون الأمل، ويرفعون شعارات إنسانية جميلة. فهم مع الحرية والديموقراطية والأخوة للجميع. وأجمل شعاراتهم "هناك أمل" و "يوجد بديل" ويحفظون قصائد محمود درويش ويرددون بالذات أنهم "يحبون الحياة إذا ما استطاعوا إليها سبيلا". وهم أيضا يتعاطفون مع الأسرى الفلسطينيين. ويؤوون بقدر استطاعتهم من يلجأ إليهم لينعم بالاستقرار والعمل والطعام المقدم في مطعمها لكل قاطنيها مجانا. وفي عمواس الفرنسية، يعارضون فرض نظام الطوارئ، والتعديل على الحقوق والمواطنة. وهم يديرون أكثر من مئة جمعية باسم عمواس تساند الفقراء والمضطهدين والمهمشين والمحتاجين، وتدافع عن حقوق الفرنسيين، وتلتصق بكل القضايا الإنسانية في العالم.

في عمواس الفرنسية الواقعة قرب ليسكار ضمن مقاطعة بو في جنوب فرنسا يقطن حوالي مئتين في بيوت إعيد ترميمها من قاطرات أو حاويات، أو تم بناؤها من الخشب، بأشكال جميلة وبسيطة. في هذه القرية الحياة أيضا بسيطة وجميلة، والكل يعمل، في حقولها أو مزارعها أو نشاطها الخيري والبيئي. والكل يتواصل في مطعمها أو قاعتها، بلباس العمل البسيط بساطة الحياة فيها. انهم يزرعون الأرض زراعة عضوية صديقة للبيئة، ويربون الحيوانات وينتجون العسل واللحم والخضروات. وفي ساحتها يحيون الحفلات والندوات والعديد من النشاطات الأدبية والفنية والثقافية والسياسية. سكانها ودودون طيبون يتقبلونك مرحبين، فصباحك في هذه القرية خير ومساؤك فيها جميل وخير.

في ساحتها يتقبلون التبرعات المتمثلة بالأدوات والأواني المستعملة، ويعيدون ترميمها واصلاحها، ويعرضونها للبيع بأسعار جدا زهيدة، لذلك يأتي إليها المئات ليشتروا من معارضها التي تضم كل شيء.

إلى عمواس الفرنسية يأتي الأسود والأبيض، الشباب والصبايا والرجال والنساء، من كل دول أوروبا، ومن أمريكا اللاتينية. كم هي صغيرة ولكنها كبيرة لأنها اتسعت لساحة بوليفيا، ولساحة عمواس الفلسطينية، ولكل من يقصدها باحثا عن راحة بال وهدوء وأمل وحياة إنسانية. عمواس الفرنسية نموذج إنساني أحببناه، وإذا عدنا إلى قريتنا عمواس الفلسطينية يوما وأعدنا اعمارها سنخصص ساحة لعمواس الفرنسية التي استمدت أسمها من قريتنا، وفكرتها "إعادة الأمل" من ظهور المسيح فوق أرضها. وذلك لأنها أعطتنا الأمل، فهناك من في العالم مع القضايا الإنسانية العادلة، وهناك من يقف إلى جانبنا. هناك الشعب الفرنسي المتضامن معنا وجمعية الصداقة الفلسطينية الفرنسية الذين يتبنون قضايانا. وهناك عمواس الفرنسية التي تبعث الأمل وتساند عمواس الفلسطينية التي تبحث عن أمل.

2016-02-23