الدراسة التي تناولت الآثار النفسية والإجتماعية والإقتصادية المترتبة على أزمة رواتب موظفي قطاع غزة التي أعدتها الإدارة العامة للتخطيط بوزارة الشؤون الاجتماعية , وكشفت عن نتائج صادمة توضح حقيقة المعاناة التي يعيشها الموظف في غزة , بمثابة صرخة مدوية تطلق على مسامع المسؤولين القريب منهم والبعيد عن قطاع غزة , لما لها من أثار خطيرة على واقع الحياة اليومية والمستقبل المنظور معاً, فالمعاناة التي يعيش فصولها موظفي غزة أصبحت أثارها خارج حدود التجاذب الحزبي , وتصارع المصالح بين طرفي الإنقسام السياسي , وتهدد حالة السكينة المجتمعية وتزعزع عوامل الإستقرار, بل وتلقي بظلالها الكئيبة على كافة نواحي الحياة الفلسطينية الإجتماعية والنفسية والأمنية والإقتصادية في قطاع غزة .
الموظفين في مؤسسات السلطة الفلسطينية في قطاع غزة , والذين يطلق عليه المصطلح الدارج " موظفي غزة " , هم الذين أصروا على إستمرارهم في تقديم الخدمات الحكومية للمواطنين في قطاع غزة , وجزء كبير منهم موظفين في السلك الحكومي قبل تسلم حركة حماس الحكومة العاشرة بعد الإنتخابات التشريعية في عام 2006م , وآخرين تقدموا للوظيفة العامة في ظل القرار اللاعقلاني والغير مدروس بدعوة الموظفين للإستنكاف وعدم القيام بواجبهم الوظيفي , وإستخدام عصى الترهيب والتخويف عبر سياسة قطع الرواتب , لكل من يستمر في إداء واجبه الوظيفي في المؤسسات والوزارات الحكومية بعد أحداث الإنقسام المشؤومة في شهر يونيه 2007م , فلا يمكن أن تُترك المستشفيات والمدارس والوزارات المتعددة , بدون موظفين لتقديم الخدمة للمواطن, وكذلك سلك الشرطة والأمن وهو من الخدمات الملحة للإنسان , ولعل توفير الأمن والطمأنينة مقدم على الأكل والشرب في كثير من الأحيان , فنهض موظفي غزة بهذا الهم الوظيفي , وسدوا الثغرة وأعانوا شعبهم , وخدموه في أحلك الظروف حيث الحصار والحروب الثلاثة , وقلة الإمكانيات وشح الموارد , ومع ذلك حافظ الموظفين في قطاع غزة على كيان السلطة من مؤسسات ووزارات وإمكانيات وموارد , بل تطور العمل إدارياً وفنياً في مجال تقديم الخدمة للمواطن عبر تلك المؤسسات بالرغم من الحصار الجائر , وأهم من ذلك شكل الموظفين بتواجدهم في ميدان العمل الوظيفي , سياج الحماية والضمانة لشعبهم في قطاع غزة في كل الأزمات , وأن التخلي عنهم والإستهتار بجهدهم وجهادهم الوظيفي يشكل نكران للجميل , لا يقره عاقل ولا يقبل به كل ذي فطرة سليمة .
ولعل أخطر ما جاء في تلك الدراسة أنها أظهرت أن 92,36% من أفراد العينة الذين لديهم أبناء في المدارس يشعرون بالحزن والأسى عندما لا يستطيعون إعطاء أطفالهم مصروفهم المدرسي، و71,66% منهم غير قادرين على متابعة أبنائهم اجتماعياً.
وبينت أن 84,94% يشعرون بالقلق على مستقبلهم الوظيفي، وقال 65,75% من أفراد العينة الذين لهم أبناء في الجامعات إن أزمة الرواتب أثرت على دراسة أبنائهم, وأن 75,15% من أفراد العينة الذين يدرس أبناءهم في الجامعات أو المدراس غير قادرين على دفع الرسوم الدراسية المدرسية أو الجامعية، و48,51 % توقف أبناؤهم عن الذهاب للجامعات.
فهل هذه هي المكافأة التي نقدمها لمن ساهموا في علاجنا عبر المستشفيات الحكومية على مدار عشر سنوات ؟ , هل هذا هو جزاء من أشرفوا على تعليم أجيالنا في المدارس الحكومية لعشر سنوات ؟ وإستطاعوا إنجاز إمتحانات الشهادة الثانوية التوجيهي , وفقاً لأعلى مستويات النزاهة والشفافية , وعبر تنسيق مستمر بدوائر الوزارة في حكومة رام الله , حيث كانت مصلحة ومستقبل الطالب من أولويات العمل في السلك التعليمي , هل هو رداً للجميل لرجل الأمن الذي وفر لنا أجواء من الأمن والأمان غير مسبوقة , وحارب الجريمة والمخدرات , وأنهى تغول العائلات ورجال العصابات في الشارع الفلسطيني , وهو من ساهم في رد المظالم وقمع الظالم ولعل ملفات المحاكم والشرطة تشهد على إنجاز كثير من القضايا وإحقاق الحقوق للمواطنين , ورجال الأمن والشرطة كان لهم جهد كبير , وتضحيات جسام في القضاء على المشاكل العائلية الكبيرة, والتي لازالت ذاكرتنا حية بمشاهدها الفظيعة , وكيف كانت العائلات تستخدم الأسلحة الرشاشة في خلافاتها لأحقر وأصغر الأسباب , فالأمن نعم إلهية سخر الله عزوجل رجلاً لتحقيقها في واقعنا , أفليس أقل ما يقدم لهم أن تقر الحكومة الفلسطينية بأمانهم الوظيفي وأن تصرف رواتبهم.
ويقع واجباً علينا كفلسطينيين أفراداً وفصائل وأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني , ورجال السياسة والإقتصاد والوزراء في الحكومة والرئاسة الفلسطينية , أن ننصف هؤلاء ليس عطفاً منا أو إستجداء منهم , بل من باب إقرار الحقوق وإزالة المظلمة , وأن نسعى بكل طاقاتنا ألا تسقط غزة عبر إستهداف موظفيها والتضييق على قوت أطفالهم , وأن كنا جميعاً نؤمن بالوحدة الوطنية, فلا يجب أن نتوقف عند بعض الإعتراضات البسيطة و التي لا تخدم المسار الفلسطيني العام , فهل من حل جذري لهؤلاء الموظفين يقيل عثرتهم في زمن الوحدة والوفاق؟ وأن تقبل الرئاسة الفلسطينية بإعتمادهم ضمن كشوفات حكومة الوحدة القادمة ! فالحل كما قال أحد العالمين بشؤون المقاطعة بسيط وبجرة قلم , أم أن المعضلة أكبر من جزئية موظفي غزة , فالمخطط في عقول البعض يستهدف إلغاء الأخر تمهيداً لشطبه عن الساحة السياسية ! فإعتقادي هذا خيار عقيم لا مولده يرجى منه , وفي الختام كل الشكر لموظفي غزة ولجهودهم المضنية في خدمة شعبهم وحمايته .
كاتب وباحث فلسطيني
1-3- 2016م