الأربعاء 8/10/1445 هـ الموافق 17/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
هل هناك من يعرف؟...د. حاتم عيد خوري

تسنّت لي قبل بضعة اسابيع، فرصة زيارة بعض المدن الفلسطينية. كنتُ برفقة أحد الاصدقاء المغتربين من كندا. إنطلقنا من حيفا في طريقنا الى جنين ومنها الى مدن اخرى. رغم فصل الشتاء، كانت الشمس مشرقة والهواء دافئا والطريق سالكة. قبيل وصولنا الى منطقة السلطة الوطنية الفلسطينية، اوقفتْنا ثلةٌ من الجنود الاسرائيليين، عند نقطة المراقبة والتفتيش القائمة على الخط الاخضر، أي خط حدود 1967. بعد فحص اوراقنا الثبوتية، رُفع الحاجز الحديدي، فتابعنا مسارَنا الى داخل المنطقة الفلسطينية. بدا صديقي منبهرا بما  يراه حوله من المجمّعات السكنية المتطورة ذات الابنية المرتبة والاشجار الباسقة والشوارع العريضة المعبدة واعمدة الكهرباء المرتفعة.

كان صديقي المغترب يبدي إعجابَه بما "حقّقه الفلسطينيون في المناطق المحتلة من تطور في ظروفهم السكنية، والذي ما كان ليتحقق - حسب تعبيره- لولا وفرة المال والمياه". هذا الإعجاب الذي دغدغ قلبَ صديقي، إنقلب فجأة الى تعجّبٍ هزّ كيانَه، وذلك  عندما علم مني ان هذه المجمعات السكنية الجديدة التي يراها، هي ليست فلسطينية إطلاقا، إنما هي مستوطناتٌ يهودية زرعها الاحتلالُ الاسرائيلي، على اراضي السلطة الفلسطينية وعلى حساب مصادرها المائية. وهكذا إستحالت نشوةُ صديقي غمًّا يكتنفُه، فتوقف عن مشاهدة ما حوله من مناظر، وكأنه يسلخ نفسَه عمّا يحيط به. رأيتُه يتناول هاتفه الذكي ويفتح غطاءه. لمحتُ كلمة جوجل(Google) على شاشة الهاتف. تركتُه يفتّش عمّا يريد، واستمريتُ في قيادة السيارة صامتا. بعد نحو عشر دقائق، سمعتُه يقول لي بصوتٍ مرتفع ومنفعل، انه وفقا للمعلومات المتوفرة في موقع "سلام الان"، فإنّ عدد المستوطنات في مطلع السنة الحالية (2016)، قد بلغ 137 مستوطنة معترفا بها من قبل حكومة اسرائيل، فضلا عن 102 مستوطنة اخرى تُسمى بؤر استيطانية غير معترف بها حتى الان. يعيش في هذه المستوطنات اكثر من ثلاثة ارباع مليون يهودي، منهم 407000 في الضفة الغربية و 375000 في 12 حيَّا جديدا في منطقة القدس الشرقية وبيت لحم. سكت صديقي المغترب لحظة، ثم تابع حديثه قائلا: " شو رأيك، بصير إنسحاب من هذه المستوطنات، مثل ما صار في قطاع غزة؟". اجبته بقولي: "سؤالك هذا  يا عزيزي، وهو سؤال وجيه جدا،  يجعلني أعود بالذاكرة 66 سنة الى الوراء، لأتذكر قصة واقعية حدثت في بيتنا (بيت اهلي في فسوطه)  في مطلع سنة 1950 أي بعد مرور نحو سنة ونصف على الاحتلال. كان بيتُنا  رغم  تواضعه، مضافةً تتناسبُ واسلوبَ البيت المفتوح الذي انتهجه والدي منذ تمَّ انتخابُه مختارا في مطلع الاربعينات، ممّا جعل بيتنا، على الصعيد المحليّ، عنوانا يُطرق بابُه.

طرقُ باب بيتنا ليلا، كان بالنسبة لنا أمرا مألوفا، خصوصا عندما اخذت العشراتُ، إنْ لم يكن المئآت، من الأُسَر الفلسطينية، بالعودة "تسلّلا" من لبنان الى بلادنا. كانت هذه الأُسر تصلُ الى قرية رميش في جنوب لبنان، لتستعين هناك بمرشد محليّ يقودُها مشيا، عبر الحدود، الى فسوطه. كان المرشد يتركُهم عند المدخل الشمالي لفسوطه قائلا لهم باسلوب الغش والخداع: "توجّهوا الى بيت المختار عيد الخوري، وهناك تُوزع عليكم هوياتٌ اسرائيلية". هذه الخدعة كانت تنطلي على العائدين، فيَصِلون الى بيتنا متعبين، منهكين ومصابين في اكثر من موقع في اجسادهم  ولا سيما في اقدامهم. ولطالما سمعتُ والدي ووالدتي  رحمهما الله، يرحبان بالعائدين ويقدمان لهم الاكل والشرب، كما رأيتُهما يبذلان كلَّ جهد ممكن في سبيل تخفيف معاناتهم جسديا ومعنويا.

إستيقظنا ذات ليلة في مطلع سنة 1950، على صوت طَرْقٍ على باب بيتنا. كان الطرْقُ، في هذه المرة، هادئا وكان مصحوبا بصوت خافت يقول: " أنا ابو محمود، أنا خالد يا عيد".  هبّ والدي من سريره كصاروخ، فتح الباب بسرعة لاستقبال الطارق، ورأيتُهما يتعانقان عناقا مكحّلا بدموع الرجال. سمعتُ والدي يرحب بخالد ترحيبا حارا ويسأله بتلهف عن "أخبار جيراننا أهل دير القاسي في الغُربة" خصوصا وقد مرّ على تهجيرهم  أكثر من سنة ونصف.

تحدث ابو محمود وهو يرتشف فنجان الشاي ويتناول خبز الصاج مغمسا باللبنة الخضراء وبزيت الزيتون والزعتر، عن المآسي التي  مر بها  المهجَّرون وعن الصعوبات التي جابهتْهُ شخصيا، ممّا جعله يترك اسرته في مخيم اللاجئين في جنوب لبنان، ويعود سرًّا تحت جنح الظلام ورغم كل المخاطر المحدقة، إلى حاكورة بيته في دير القاسي، ليستعيد ذهبات(صيغة) ام محمود التي كان قد خبأها هناك عشية تهجيرهم.

يبدو لي أن هذا الانجاز الذي حقّقه ابو محمود بإستعادة الصيغة، والاجواءَ الدافئة التي احاطتْهُ في بيتنا، قد جعلت أبا محمود ينفرج قليلا، فبدت على وجهه إبتسامةٌ، وهو يتابع حديثه قائلا  لوالدي: "إنتِ بتعرف يا عيد، إنو هذول اليهود صاروا مادّين مواسير مي(ماء) الى حواكير دير القاسي؟!". سكت ابو محمود هنيهة، ثم تابع حديثه مبتسما: "يلَّه مليح، بُكره بنسحبو اليهود، وبيجو ستات دير القاسي بتحممن". فجأة إختفت ابتسامته  واخذ يمجُّ من سجارته التي كان قد لفّها  للتو من علبة التبغ المفروم الموضوعة امامه. رأيتُ وجهَه يحتقن وشاربيه يتراقصان ولمحتُ دمعاتٍ تتحفَّزُ لتقفز من عينيه، وبدا لي وكأنّه "راحت السكرة  واجت الفكرة" ثم ما لبث ان قال بصوت تغتسل عِباراتُه بالعَبَرات: "واللهِ يا خيّا يا عيد، انا شايف إنو لو هذول اليهود بَدْهُم ينسحبوا عن جَدّ، ما كانوا مدّوا مواسير ميّ".

قال لي صديقي المغترب: "يعني أنت تقول لي بأنهم لن ينسحبوا من الضفة الغربية، تماما كما  لم  ينسحبوا قبل 66 سنة من الجليل. أليس كذلك؟". فأجبتُه: "لم أقُل هذا ولن اقوله، لاني لا اعرف. فهل أنتَ تعرف يا عزيزي؟ وهل هناك من يعرف؟

[email protected]

4/3/2016

2016-03-04