قبل التفكير ببناءِ بيتٍ أو جدار أو حتى عتبة باب في مدينة خانيونس، لا بد من الاعتكاف بالجوارح والحواس، والتحصّن بالعتاد والأموال، ومن ثمّ الاعتدال على خط البداية، لاجتياز كافة الإجراءات المختلطة، ما بين قانونية قاسية وروتينية قاتلة، وهي تلك التي يقوم بفرضها مجلسها البلدي، على كل من تُسوّل له نفسه بطلب استصدار رخصة لأي ّ من الأعمال الفائتة، حتى يظن من هو كذلك، أنه من مواطني مدينة القدس، وينتظر بلا أمل، مصادقة "نير بركات" على أوراقه، وإذا ما حدثت بعض التقّدّمات بشأن تطبيق تلك الإجراءات، فيمكن حينها الشعور بإمكانية دخوله في نطاق عملٍ مشترك، وإن بعلاقة غير متوازنة لصالح المجلس.
في كل بلاد العالم، وحتى هنا في مدن وبلدات القطاع، تُوجد علاقة إيجابيّة (تكامليّة) بين مجالسها البلدية ومواطنيها، بسبب امتيازات وتسهيلات مُناسبة، أو تفاهمات على الأقل، تُبادر بها تلك المجالس، والتي تشمل كافة الاختصاصات المنوطة بها والتي تقع ضمن صلاحياتها، بحيث تجعلنا نشك في أن هذا المجلس، لديه الرغبة في الصعود بأشياء على هذه الشاكلة، بل يطغى لدى العامّة، وخاصةً طالبي استصدار تصاريح بناء، بأنه يحرص على إنشاء علاقة متنافرة باتجاههم، برغم الظروف القاسية التي تغمرهم بشكلٍ عام- حيث باتوا في إثرها، يشعرون أكثر، بأن المجلس ما هو إلاّ مؤسّسة تقوم على رقابهم.
ليس نحن من الذين يريدون الوصول للحديث على هذا النحو، ولكن هناك الكثيرين من المراقبين الذين يروْن بأن قوانين التنظيم والتخطيط في المدينة تتحوّل إلى قوانين بعيدة عن التطبيق، وفي حالات لا يمكن حصرها، والتي لا يستطيع خرقها سِوى المقربين والمتنفّذين، وأولئك الذين يملكون أثقالاً، تُغني حتى عن فحص خططهم البنائيّة والمشروعاتية، وعلى الرغم من أن نسبة الجمهور التي يمكنها التفاعل مع المجلس بطريقةٍ ما، هي نسبة لا تزيد عن 5%، فإن النسبة الباقية وهي 95% هي التي تضطر إلى الدفع من لحومها، والذي قد يمتد إلى ما لا نهاية.
لا أحد باستطاعته نُكران أن المجلس قد قام بتوظيف مُدّخراته وإمكاناته، والتي عادت بالفوائد العامة على المواطنين ككل، وخاصة خلال الفترة التي انبرواْ خلالها بتنفيذ مهمّات ثقيلة بسبب العدوانات الإسرائيلية الثلاث القاسية، وقد كانوا بحاجة ماسة إلى من يداوي بأسهم، باعتباره مؤسسة تنشد مساعدتهم، والسهر على تلبية احتياجاتهم، إلاّ أن السبيل الذي انتهجه فيما بعد، أدى الى نتائج مُخالفة تماماً، وما تركه في نهاية المطاف، كان عبارة عن صورة تجمع ما بين الغموض والرداءة معاً.
يمكننا في هذا الصدد ضخ رسالة واضحة، مفادها، أنه لا مكان للتمييز، باتجاه الحق في المسكن، ولِندع الحقائق الدامغة تتحدّث من تلقاء نفسها، فحتى الوقت القريب سمعنا بآذاننا ورأينا بأم أعيننا، حالات تشييد وبناء، تم غضّ الطرف عنها، برغم أنها مُخالفة، وسواء من حيث طريقة البناء نفسه، أو من ناحية ملكية الأرض، وفي حالات أخرى تمّت مواجهتها بقسوة، بحيث تم إقصائها تماماً، أو بالتحذير والوعيد فيما لو استمرّ العمل بها، بحجة أنها شُيدت على مُخالفةٍ ما، أو أقيمت على أراضٍ عامة.
في صورة أخرى، فقد تصادف قيام المجلس بتنفيذ إجراءات هدمٍ لإحدى البنايات - قيد الإنشاء-، بحجة عدم حصولها على ترخيص، مع إجراءات هدم مماثلة تقوم بها السلطات الإسرائيلية في مدينة القدس، والتي تبرر إجرائها بنفس الحجة الفائتة، ولا نستطيع الإغراق في أحاديث أخرى، ولكن كان يتعين عليه عدم التشبّه بتلك الممارسات على الأقل، لوجود خيارات أخرى، ومنها الإتيان بتوضيحات مقنعة في هذا الشأن.
وفي حالة ثالثة، وهي بلا شك (الأشدّ كآبة)، كان يتوجّب على أحد مواطني المدينة، وله الخيار فيما إذا كان بمحض إرادته، أن يدفع ما يزيد على خمسة أضعاف رسوم تصريح البناء، الذي انتوى بنائه، - وهي القيمة نفسها، التي جاهد في تحصيلها على مدار حياته، بحجة أن المنطقة المُراد البناء فيها، هي مُسجّلة لدى خطط المجلس، باعتبارها منطقة تطويرية (وهي بالمناسبة تقع في أطراف المدينة، وليس هناك أي تقديرات، بأن تُصبح مثل باريس أو مُشابهةً لها على سبيل المثال) ما يعني أن ذلك المواطن فيما لو اضطر إلى متابعة مسيرته، فإن عليه دفع تكلفة التطوير (سلفاً)، حتى في حال ضمانه، بعدم رؤيته لذلك التطوير أو الاستمتاع به خلال حياته الدنيا، وربما حياة أحفاده من بعده.
لا يجب على المجلس بأي حال، التعسير في أهم مشكلة تواجه المواطنين، وكما أننا لا نُجيز إهمال قوانينه الدارجة، أو التأخر عن أداء حقوقه- المعقولة- كاملة ومن غير إنقاص، لكن في المقابل، عليه تقديم ما يتوجّب أن يُقدّمه من جوانب أخلاقية وإنسانية، وإن بالحجة والإقناع، وباللجوء إلى كشف المنافع وإيضاح الفوائد، بدل المواجهة والصّدام.
إن أزمة السكن هي أزمة الأزمات التي تقابل جُلّ المواطنين، وسواء كان بالجهد أو بالمال، فلا يجب على المجلس استغلالها - وفي ضوء أنه لا يُوجّه وخاصة في هذه الفترة، أيّة ميزانيات هامّة لتطوير أيّ من القطاعات المدنيّة-، حيث يبدو وكأنّه يدعو مواطنيه بإجراءاته تلك، إلى خيارين اثنين لا ثالث لهما: إمّا بترك أحلامهم جانباً، والبقاء داخل إطار التكدّس العائلي وإلى حين ميسرة، وإمّا إلى الترحال وركوب البحر، نحو أماكن أخرى، تكون أقل تعقيداً وأكثر يُسراً.
يحتاج المجلس، إلى نسج قصص نجاح حقيقية، فعندما يتم تحقيق أيّ منها، تزداد الثقة به، وتتعزز العلاقات معه، وإذا ما أراد اتباع سياسة كهذه، فهناك طرق مُنتشرة وهو لا يحتاج لمن يدلّه عليها، باعتبارها تفي بما يستأهل التقدير والتسجيل في التاريخ، فمثلما أن هناك خططاً تُلهب أفكاره، ويُود تنفيذها فوراً، كي يصعد بمدينة الشهداء إلى الأفق، فإن لمواطنيها سقوفاً لأحلامهم يُودّون الوصول إليها أيضاً.
خانيونس/فلسطين