منذ بداية هذا العام، شهِد قطاع غزّة عدد غير قليل من حالات الانتحار– قتل النفس- ، والتي بلغت ما يقرب من 90- 100 محاولة جادّة، منها ما كانت ناجحة ومنها ما كانت فاشلة، وهي تلك التي كانت مُفرِحة، فمنطق أي إنسان يميل إلى الحزن إزاء الحالات الناجحة، ويرى بأنه لا بأس في المحاولات التي تبوء بالفشل، حتى لو كانت تلك المحاولات ناشئة عن مسائل نفسيّة أو احتجاجية أو أي مسائل أخرى.
وإن كانت حالات الانتحار هذه لا ترقى إلى درجة (الظاهرة)، كما العنوان في الأعلى، إلاّ أنها تُعد من الأمور الخطرة، وخاصة أنها تحصل بين الشباب وعلى اختلافهم، وسواء كانوا من اليافعين، أو الذين بدأوا للتوّ بتحمّل مسؤوليّاتهم في حياتهم الدنيا، حيث تُعاني نسبة النصف% منهم أو أقل قليلاً - بحسب تقديرات حقوقية- من مشكلة البطالة ووقف الحال، وبالنظر إلى هذه النسبة، باعتبارها تُعيل ما يربو على 80% من سكان القطاع، الذين هم في الأصل يقبعون تحت خط الفقر، وسواء كان على خلفيّة الحصار الإسرائيلي المفروض منذ 2006، أو بناءً على تبِعات اعتداءاته العسكريّة الثلاثة، أو بسبب حالة الانقسام الفلسطينية الحاصلة.
كما أن هذه الحالات تُعد أيضاً غريبة، وغير مُعتادة ولا مسبوقة أيضاً، على مدى تاريخ المجتمع الفلسطيني، حتى في عهود كانت أشد قساوة من الحاليّة، سيما وهو يُعدّ من المجتمعات التي يغلب عليها الطابع الديني، بحيث يرسخ في أذهانه، الإيمان بأن الانتحار قبل أن يكون مرفوضاً أدبياً وأخلاقياً، فإنه مُحرّم دينيّا، فيموت عاصياً للهِ من قتل نفسه، وهو آيسٌ من رحمتهِ تعالى، كما ورد في الكتاب المحفوظ والسُّنّة المطهّرة، إلاّ أن يكون من أولئك الذين لا يُؤاخذون على أعمالهم، وقد رُفعت عنهم الأقلام.
بحسب تلك التقديرات، فإن حالات الانتحار هذه، تأتي على دوافع مختلفة، والتي قامت بتوزيعها، على نحو ما يقرب من نسبة النصف تقع في القُرى، والثلث في المدن، والمتبقية وهي النسبة الأقل، تحصل في المخيّمات اللاجئة، والبالغ عددها ثمانية مخيمات، وقد جعلت من أسبابها، الأمراض النفسيّة والتي حصلت لديها على النصيب الأكبر، ثم الخلافات العائلية، والبطالة، ثمّ لدواعٍ أخرى غير معلومة.
هذه التقديرات تكاد تكون صحيحة، والخاصّة بالنّسبِ المستخرجة، باعتبارها جاءت عن إحصاءات للحالات الحاصلة فعلاً، ولنفترض أيضاً، بأن الأسباب التي ساقتها التقديرات السابقة هي كافية، كي يقوم المنتحرون بالإقدام على تنفيذ محاولاتهم القاتلة، لكن لا يمكن اعتبارها دقيقة بالضبط كما يستلزم الأمر، وسواء بالنسبة لإلصاق الحالة بكافة مناطق القطاع من شماله إلى جنوبه، أو بالنسبة للأسباب السابقة التي تم سوقها، باعتبارها أسباباً غير مكتملة.
لقد قفزت هذه التقديرات، عن حقيقة أن هذه الحالة، تُحيط بمنطقة الجنوب والتي مركزها محافظة خانيونس فقط، وليس في المنطقة الشماليّة التي مركزها محافظة غزة، ففي حالة الخوض بشأن تبيانها، سنجد أن منطقة الجنوب هي التي تحصد النسبة الأكبر في تحقيق الحالة، وحتى الذين قاموا بمحاولة الانتحار داخل محافظة غزّة، كانوا انطلقوا من المنطقة الجنوبيّة ذاتها، إمّا للفت الأنظار باتجاههم، لتكدّس الوسائل الإعلاميّة هناك، أو لتواجد أبراج بثّ إذاعيّة وسكنيّة شديدة الارتفاع، يمكنهم من خلال الانزلاق من آفاقهِا، تحقيق المُراد.
كما أنها أغفلت سبباً حقيقيّاً، ربما لأنه ليس في صميم الاختصاص، أو قد يكون غائباً عن الوجدان، أو ربّما حاضراً ولكن لا تُحبّذ إظهاره، وسواء لهامشيّته، أو عن عمدٍ وقصد، كما اعتاد كثيرون العمل على تكريسه وتعميقه، برغم خطورة إهماله أو التغاضي عنه بأي حال، كونه أعظم ثقلاً من الاسباب الكبيرة الفائتة.
وإذا ما تم الفحص في اقتصار الحالة على تلك المنطقة، فإنه يُمكن إيجاز نتيجته في عبارة واحدةٍ فقط، بعد التخلّص من سرد الضغوطات النفسيّة والاجتماعيّة والماديّة وغيرها، باعتبارها منطقة مُهمّشة تماماً، ليس منذ وقتٍ قريب، وإنّما منذ عقودٍ خلت من قبل، على أن تعاظم نسبة التهميش هذه، بدت حتى هذه الفترة، سبباً رئيساً كافياً، للدفع بتفكير هؤلاء الشباب باتجاه إنهاءِ حياتهم، سيما وهم ينظرون بعيونهم صوب المنطقة الشماليّة، وهي غارقة في الأضواء، والمشغولة في العمل والحركة.
خانيونس/فلسطين
8/4/2016