الأربعاء 19/10/1444 هـ الموافق 10/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
ابو حسين المواسي وعيد الفصح.... د. حاتم عيد خوري

نشرتُ قبل اسبوعين مقالا بعنوان "وإلّا ساخْجلُ بكم"، تعرضتُ فيه الى قضية فصل موعد الاحتفال بعيد الفصح لدى الارثوذكس والكاثوليك، مستشهدا ومرفِقا تسجيلا لموعظة بالصوت والصورة، القاها مطران الموصل للسريان الارثوذكس مار نيقوديموس، في خيمة المهجرين المسيحيين من العراق. يحتج سيادتُه في موعظته على هذا الانقسام، ويتوجه بصوت واضح وصريح وجريء، إلى كافة المرجعيات العليا في العالم المسيحي، مناشدا اياهم وطالبا منهم بالحرف الواحد: "وحّدوا لنا العيد...إذ من المخزي والعيب جدا ان نكون عبيدا لتقاويم شرقية وغربية...يا لها من مهزلة. نحن في الشرق نعاني من هذين التقويمين، ألا بئس التقويمين....".

عندما قمت بنشر هذا المقال، قررتُ بيني وبين نفسي، أن لا اكتب اكثر عن هذا الموضوع في المستقبل، بإعتباره قد إستوفى حقَّه منيّ ولو من باب "اللهم إشهد اني قد بلّغت". غير ان عشرات التعقيبات التي وصلتني شفويا وخطيا وعبر وسائل الاتصالات المختلفة، في اعقاب نشر هذا المقال، والتي لا استطيع ضميريا وأدَها أو حتى تجاهلها، جعلتني اتراجعُ هذه المرة عن قراري إيّاه. لكني عندما اقف الان امام هذا الكمّ الكبير من التعقيبات التي وصلتني، أدركُ جيدا أنني لا استطيع أن استعرضها جميعا، وبالتالي ساكتفي بذكر عيّنة صغيرة منها. فلقد قال احد المعقبين خطيا: "....اقدّر جرأتك في إسماع صوت الضمير الحيّ لعلّه يدغدغ مشاعرَ واحاسيس اصحابِ الحلِّ والربط....".  وقال آخَر "الكنيسة هي جماعة المؤمنين وتعاني اليوم من غربة تفرضها بعض القيادات الكنسية"، اما المعقب الثالث: "لقد اسمعت لو ناديت حيا/ولكن لا حياة لمن تنادي. ولو نارٌ نفخت بها اضاءت/ ولكن انت تنفخ في رماد" ، والرابع: "سيستمر وضعنا هكذا، طالما نرضى بالرضوخ الاعمى لمن يريدنا قطيعا لا رعية"، وقال الخامس: "هل لمواكب البطاركة الى بيت لحم قبيل عيد الفصح، وما يرافقها سنويا من جاه دنيوي وابّهة، علاقة ٌ في فصل موعد الاحتفال بالعيد بين الكاثوليك والارثوذكس؟"، واكّد السادس ان "التغيير لن ياتي من اعلى الى اسفل إنما بالعكس"، وقال السابع:"إذا القيادات الكنسية لا تتفق على قضية زمنية شكلية، فكيف ستتفق يوما على قضايا عقائدية جوهرية؟"، واوضحَ الثامن: "قرأت البيانين الصادرين عن اجتماعيّ قداسة البابا فرنسيس بالبطريرك المسكوني وببطريرك موسكو الارثوذكسيين، لكني لم اجد أثرا لاي تطرّق الى قضية توحيد الاحتفال بعيدي الفصح والميلاد أي ان هذه القضية لم تكن اصلا على جدول الاعمال في الاجتماعين، ولم يتمّ بحثها "....والتاسع والعاشر الخ.....

هذه التعقيبات وإن كانت تستحقّ جميعُها ردّا مني، إلا أني اتركُها للقراء الكرام ليحدّدوا موقفهم منها وليقولوا رأيهم فيها. لكني مع ذلك، استميح المعقبين والقراءَ عذرا إنْ توقفتُ في هذه العجالة، عند تعقيبٍ واحدٍ منها ، كنتُ قد سمعته من الاستاذ ابو جواد، في امسية اجتماعية لطيفة في فسوطه. الاستاذ ابو جواد معلم متقاعد يهوى المطالعة ويحرص على قراءة كل ما انشر. قال لي ابو جواد انه مثلي تماما، قد هزّتْه موعظة المطران نيقوديموس، فانفعل جدا وتأثر للغاية، لكنه ضحك عندما سمع المطران يقول: "...ويأتينا من يستهزيء بنا ويقول: عيدْكَم بعد ما جا؟ هذا عيدكَم ولّا عيدكم هلي راح يجي؟"، لا لأن هذا الكلام مضحك، بل لان هذه الجملة قد ذكّرت ابا جواد بحكاية "ابو حسين المواسي وعيد الفصح" التي كان يرويها كبارُ السنّ في فسوطه.

ابو حسين المواسي هو علي حسين، بدويٌّ من "قبيلة عرب المواسي" التي كانت قبل نكبة 1948، تتنقل بخيامِها بحثا عن المرعى المناسب، في منطقةٍ معظمها حُرشيّة معروفة باسم الزْويّة والمعاصر، تقع الى الغرب من فسوطه وتشرف على وادي القرن وتطلّ على معليا وترشيحا. كاد اسم علي حسين يتلاشى بعد ولادة بكرِه حسين، إذ اصبح معروفا بإسم ابو حسين المواسي. ولد ابو حسين كما يُعتقد في مطلع القرن الماضي، وعندما بلغ نحو السابعة من عمره اصبح راعيا للسخول'صغار الماعز' في الاراضي المحاذية لمضارب خيامهم، ثم تدرج ليصبح راعيا "مؤهلا"، على امتدار نحو اربعة عقود متتالية، حتى سلَّم العصا الى نجله حسين وتفرّغ للدواوين.

اخذ ابو حسين يتردّد على فسوطه وعلى غيرها من القرى المجاورة، لتسويق ما لديه من حليب ولبن  وجلود الماغز والغنم وما شابه...، كما اخذ يتعرف تدريجيا على عادات اهل فسوطه وتقاليدهم. عرف ابو حسين فيما عرفَه، أنّ عملية قرع ' اي دقّ' جرس الكنيسة بضربات متقطّعة، تُسمى "دقة حُزْن"، وهي بمثابة إعلان عن وفاة احد ابناء البلدة، فيسارع ابو حسين بالذهاب الى بيت الأجر للمشاركة في تشييع الجنازة ولتقديم التعازي، وذلك قناعة منه بأن "المؤاجرة هي أجر يدفعه الله الى المعزِّين". وهكذا عندما وصل ابو حسين كعادته الى فسوطه صباح احد الايام، وكان بالصدفة نهار الجمعة العظيمة، وسمع جرس الكنيسة يدقّ دقّة حُزْن، سأل بطبيعة الحال : "من مات؟" فقيل له: "سيدنا المسيح مات". قال "الله يرحمو" ثم سأل بدهشة: "بس تشيف مات 'اي كيف مات'؟!". اجابوه: "اليهود عذبوه وصلبوه لكنه سيقوم من بين الاموات بعد ثلاثة ايام اي صباح يوم العيد الكبير". فقال: "زين(اي طيّب)، إن شاء الله بقوم بالسلامة".

عندما  وصل ابو حسين الى فسوطه صباح يوم العيد، تأكد أن امنيتَه للسيد المسيح قد تحقّقت بالكامل، ذلك لانه كان يسمع الناس من حوله يتبادلون التهاني ويقولون: "المسيح قام. حقا قام". إنسجم ابو حسين في اجواء العيد وتمتع بمأكولاته التقليدية الشهية وشعر بغبطة كبيرة. لكن هذه الغبطة التي إكتنفتْه ، ما لبثت ان تبدّدت بعد اسبوعين، عندما شاءت الظروف ان يصل الى ترشيحا صباح يوم الجمعة العظيمة لدى الروم الارثوذكس، وان يسمع جرس كنيسة الروم يدقُّ دقّة حُزن، فسأل "من مات؟". قيل له: "اليهود قبضوا على سيدنا المسيح وعذبوه وقتلوه مصلوبا". إحتدّ ابو حسين وقال بدهشة واستغراب شديدين: "كمان مرة!! بس تشيف ما جِفِل 'اي كيف لم يصبح اكثر حذرا'؟ وتشيف قاضَبْ 'اي كيف اقترب منهم ليقبضوا عليه'؟".

هذه الحكاية اللطيفة تجعلني اتساءل مع المطران العراقي العريق مار نيقوديموس: أليس فعلا من "المخزي والعيب جدا ان نكون عبيدا نعاني كميسحيين مشرقيين، من تقاويم شرقية وغربية لا علاقة لها بثوابت الدين المسيحي... يا لها من مهزلة!!". أليس كذلك؟.

[email protected]

8/4/2016

 

 

2016-04-09