بيئة عدم اليقين أو التأكد لدى الغربي قائمة على المجهول أو الغد ولا علاقة لها بما هو قائم بعكس العربي الذي يجهل الأرض التي يقف عليها أو العوامل المؤثرة في البيئة التي يعمل بها فالباحث الفرنسي مثلا يدرك جيدا طبيعة الحكم هناك وان الانتخابات ستجري في موعدها وان مؤشرات استطلاع الرأي تتجه بالمنحى هذا أو ذاك وسواء أكان الباحث سياسيا أو اقتصاديا فهو قادر على التحضير لقراراته الاقتصادية أو السياسية انطلاقا من التقديرات التي بين يديه والتي تعتمد أسس حقيقة وواقعية للتقدير في حين يعيش الباحث في العالم العربي حالة من الاغتراب في قدرته على المعرفة في ظل المتغيرات الهائلة في النشاط الإنساني والمواصلة الإنسانية التي يجد العربي نفسه خارجها في حين يتم توطين الباحث الغربي منسجما مع أداء أمته ومكانتها ودورها يجد العربي نفسه خارج دائرة الفعل ويتحول إلى متلقي سلبي لا حول له ولا قوة فيصبح الشك أداة اغترابه إنسانيا بدل أن يكون سلمه للصعود إلى المكان الذي وصلت إليه الإنسانية وفي زمن بات مفكرو الغرب يتحدثون به عن النهايات في حين لا زلنا نحاول أن نؤسس لبداياتنا المشوهة أصلا عبر قراءة مغلوطة وغريبة للتاريخ الخاص بنا.
الثاني: انضباط حالة الواقع مما يؤهل صاحبه لقبول الشك بحثا عن الأفضل أو تطويرا للواقع نفسه باليات وأدوات ومخارج أكثر قدرة على استشراف غد جديد يؤسس لواقع جديد أكثر حداثة وتطورا ويسر ولذا هناك فرق بين مصالح ورؤى أولئك الذين صاغوا ثورات الأرض الحديثة كالثورة الرقمية وثورة الاتصالات والعلوم والفضاء والكثير الكثير وبين أولئك الذين لا زالوا يتحدثون عن تحريم استخدام مخرجات هذه الثورات ناهيك عن عدم القدرة على تسخيرها لخدمة الواقع الخاص.
أحد من العرب مثلا لم يؤرخ للحداثة عند العرب بالثورة على الاستعمار الأجنبي وحركات الاستقلال العربية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية والتي شكلت انعطافا جديدا في تاريخ العرب وظهور النزعة القومية عند العرب رغم انقسامهم إلى دول وطنية وأقاليم
وغياب القدرة على التأكد في الحال العربي معكوسة وشاملة فلا يجوز الحديث فقط عن غياب القدرة على التأكد في موضوعة الغد بل حتى في موضوعة اليوم فالمقرر في الحال العربي ليسوا العرب لا في مقدراتهم ولا في سياساتهم فالغرب من يقرر سعر النفط مثلا والغرب من يقرر خارطة الحرب والسلام ومن يقرر نتائجها ولا زال يفعل ذلك مع كل ما مضى من قرون وبالتالي فان معيقات المواصلة هنا مختلفة باختلاف الحال وهي:
1- غياب الدور الفاعل الذي يصوغ احتمالات التأكد ومنحنيات وجوده أو عدمه وترك هذا الدور بالمطلق للغرباء يقررون بالنيابة عنا ما يريدون ولمصالحهم مما يلزمنا بان نتوجه بقراراتنا لان تكون بدور المكمل أو الخادم لمصالح الغير لكي يكون من حق هذه القرارات أن تعيش وتحقق بعض النجاح.
2- الفقر وغياب العدل في توزيع الثروات في الوطن العربي وهو ما يحد بقوة من إمكانية رسم وتنفيذ خطط مواصلة قادرة على الحياة فالانقطاع هو السمة الأبرز في الحياة الاقتصادية في المجتمعات العربية وبالتالي في الحياة الاجتماعية والسياسية ذلك ان اقتصاديات بعض البلدان قائمة على الديون العالمية والمنح من بعض الأشقاء والقائمة على المصالح الآنية والشخصية في بعض الأحيان بحيث لا يمكن الارتكاز عليها لبناء سياسات مواصلة إستراتيجية بعيدة المدى, ويكفي ان نشير الى ما أورده تقرير مجموعة البنك الدولي ومؤسسة برايس ووتر هاوس كوبر العالمية ان نسبة من يتحمل الضرائب في إسرائيل مثلا هي 6% للمواطن العادي و 28% للشركات وفي أمريكا 10% للأفراد و27% للشركات بينما نسبة تحمل الأفراد في مصر هي 28,8% للأفراد و 13,2% للشركات.
3- الحروب والنزاعات المتواصلة عبر التاريخ بما فيها الحال العربي المتردي بعد ما اسمي زورا بالربيع العربي ومن قبل النزاعات الإقليمية بحرب الخليج والحرب مع إيران وما تبعهما من تداعيات معروفة بحيث تدهور حال الدول الغنية لتصبح من أفقر الدول واستشرى الفساد بلا حدود في بعض هذه الدول والعراق مثلا ووصل الحال بدول غنية مثل السعودية إلى الاستدانة ودمرت دولة بترولية مثل ليبيا بالكامل وانشغلت دولة بحجم مصر بمشاكلها الداخلية والخارجية بما يضمن استمرار معاناتها لعقود طويلة.
4- التضخم السكاني وغياب الوعي الإنجابي لدى الغالبية العظمى وفوضى توزيع السكان وتركز الغالبية المطلقة في مراكز المدن والطلب المتنامي على الخدمات استهلاكا دون الإنتاج حتى بمعناه الضيق.
5- نقص التقنيات والوعي باستخداماتها وطرق الاستفادة منها ناهيك عن إنتاجها أو حتى القدرة على تطويعها لصالح المجتمع العربي.
6- السلوك الاستهلاكي الطاغي في المجتمعات العربية والذي يفرض على صاحبه دور التابع في كل العملية الإنتاجية بما فيها إنتاج الفكر والسياسة بالضرورة كتابع للإنتاج السلعي.
7- نمط التعليم التلقيني القائم على تغييب الإبداع والابتكار والتميز والمبادرة والقدرة على التفكير الإبداعي لصالح الرضوخ والاكتفاء بدور القابل بالتلقين ولما لهذا من انعكاس على مجمل نواحي الحياة العربية بكل مكوناتها.
7- البيروقراطية الإدارية فقد أورد تقرير ممارسة الأعمال الصادر عن البنك الدولي للعام 2009 ترتيبا لإجراءات منح التراخيص لشؤون أعمال التجارة الخارجية أن ترتيب دولة مثل مصر جاء في المرتبة 165 من حيث سهولة استخراج التراخيص وفي المرتبة 151 في مؤشر تنفيذ العقود التجارية وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن الفرد من دافعي الضرائب يحتاج إلى 700 ساعة عمل لتحضير بياناته الضريبية وقد تم تخفيضها فقط إلى 500 ساعة عمل وهذا وقت كبير جدا ومعيق لنجاح العملية الاقتصادية في أي بلد.
7- انعدام ثقافة المواطنة لدى المواطن العربي وغياب دور المواطن في بناء الدولة عن ثقافة المواطن العربي وتشير دراسة لمجموعة البنك الدولي ومؤسسة برايس ووترهاوس كوبر العالمية عن دفع الضرائب في العام 2008 أن ترتيب مصر في سهولة دفع الضرائب جاء في المرتبة 150 من بين دول العالم في حين يشير نفس التقرير إلى أن مصر خفضت الضرائب على الشركات لتشجيع الاستثمار وجباية الضرائب من في العام 2005 من نسبة 34.5% إلى نسبة 20% وهي أعلى نسبة تخفيض عالمية بالضرائب بين دول العالم.
المواصلة جروح دامية وحلول مطلوبة:
يعيش العالم العربي حالة من التشتت والفوضى تكاد تطال كل مناحي الحياة فقد ابتدأ مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين بحالة من نبش المسكوت عنه في الدول العربية وظهرت الأوضاع الاقتصادية المزرية في تونس والاحتقان المذهبي في مصر واحتدمت الصراعات الطائفية والقومية في العراق وظهرت على السطح الانقسامات الطائفية والسياسية في سوريا واليمن وعاد إلى الواقع الانقسام القبلي في ليبيا وظهر بشكل جلي غياب الدولة المدنية وانعدام الديمقراطية ومبدأ المواطنة في سائر الدول العربية التي تعتمد النظام الجمهوري أساسا للحكم وتشيع بالعلن أنها أنظمة ديمقراطية وان الانتخابات أساس الحكم فيها فقد تم تحطيم هذه المقولات في تونس أولا بإعادة الانتخابات من جديد قبل نهاية ولاية الرئيس وفي مصر باعتقال رئيس الجمهورية المنتخب وإيداعه السجن وتقديمه للمحاكمة وعدم قدرة ليبيا واليمن حتى اليوم على توحيد البلد ولا نظام الحكم والظهور الجنيني لهذه الصراعات في السعودية والأوضاع المشتعلة في البحرين والخوف الدائم من أي تطورات أو انقسامات في سائر البلدان العربية ولا زالت تحت السطح قضايا القومية في الجزائر والمغرب دون أن يقدم لها حلول استباقية حقيقة ويستمر حال شيوع الفوضى في كل مناحي الحياة في البلدان العربية ولذا فلا بديل إذن إن أردنا أن نؤسس لبيئة نظيفة قادرة على احتضان برامج وخطط مواصلة متنامية وناجحة على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من ان نجد حلولا للمعضلات التالية:
1- السوق المشتركة بالبضائع والعمالة:
إن إقامة سوق عربية مشتركة ولو بالحد الأدنى يوفر فرصة ذهبية لاستقرار اقتصادي ولو محدود يؤسس لإمكانية المواصلة والنمو ويساعد في تخفيف الآثار الناجمة عن الأوضاع السياسية السائدة في الوطن العربي والتي تزيد من خطورة واستفحال آثار عدم اليقين في الحالة العربية ذلك أن البلدان العربية التي تعاني من خطر البطالة وحسب تقارير البنك الدولي ومنظمة العمل العربية فان البلدان العربية بحاجة لتوفير 80 إلى 100 ألف فرصة عمل حتى عام 2025 مما يعني ضرورة استحداث 6 ملايين وظيفة جديدة سنويا بغية تجنب تفاقم معدلات البطالة (8) وقد نفلت صحيفة الرياض عن تقارير للبنك الدولي إحصائيات تشير إلى أن عدد العمالة الأجنبية في دول الخليج العربي وحدها بلغت أكثر من 15 مليون وافد وان مجمل المبالغ التي يتم تحويلها للخارج بواسطتهم بلغت حوالي 70 مليار دولار (9) في حين تشير بعض الإحصائيات غالى أن عدد العاطلين عن العمل في العالم العربي وصلت إلى 25 مليون حسبما أورد موقع صوت روسيا الالكتروني (10)
إن وجود خطة إستراتيجية عربية قائمة على المصالح المشتركة لتخطيط الاقتصاد العربي للتأسيس لمستقبل قابل للمواصلة سوف يساهم في توفير الثروات العربية من الاستنزاف الناتج عن التحويلات الضخمة للخارج بسبب العمالة الوافدة ويساهم في الحد من البطالة إلى جانب ما سيوفره من تبعات العمالة الوافدة إلى الوطن العربي في الخدمات الضروري توفيرها لهم من جانب ويساهم في التقليل من الكثير من القضايا الاجتماعية والاحتقان الناجم عن ذلك في أوساط الشباب ويؤسس لبيئة مواصلة أكثر نجاحا وقدرة على النمو وبالتالي سيحد كليا من آثار بيئة القلق وعدم اليقين المتأصلة في الحياة العربية بكل أوجهها.
2- المقدرات الذاتية وتنميتها:
عديد من دول العالم والتي ظلت لعقود تعتبر من دول العالم النامي تمكنت من تطوير أوضاعها الداخلية بشكل لافت ومن خلال قدراتها الذاتية وتعتبر الصين وماليزيا نموذجين بارزين في هذا الشأن في حين ظلت البلدان العربية تحاول الحد من التراجع ولا تجد وسيلة للتقدم ويعزي معظم الباحثين والدارسين للحال العربي ذلك لعدم الاهتمام بتطوير المقدرات الذاتية وعدم الاكتراث بتنميتها وتشير بعض الإحصائيات إلى أن " معدل الإنفاق القومي على البحث العلمي في الدول العربية قاطبة لا يتجاوز 0,2% أما في إسرائيل فهو أكثر من 4,7% وفي أمريكا 2,68% وفي فنلندا 3,51% وتنفق الدول العربية مليارات الدولارات على التسلح وتقوم باستيراد 90% من حاجياتها ومعظمها منتجات يمكن تصنيعها محليا, فلماذا؟ والبحث العلمي يعتبر أقوى مصادر الوجود للدول كلما كان هذا المجال قويا كلما كانت الدولة أقدر على التعامل مع المتغيرات السياسية والاجتماعية فأين الخلل وما الحلول التي قد تساعد في تجاوز هذه الأزمة؟"(11) وهذا يشير إلى مدى انعدام الاهتمام بقدرات وإمكانيات الذات بالمعنى الشمولي عند العرب في حين أن قراءة سريعة للتجربة الماليزية التي حصلت على استقلالها في العام 1957 فقط أي بعد سنوات طويلة من استقلال بعض الدول العربية وتعتبر التجربة الماليزية في جنوب الشرق الآسيوي نموذجا للتنمية متميزا على المستويين الإقليمي والعالمي من خلال إدراك الدور الفاعل الذي قامت به الدولة الماليزية في تخطيط وتنفيذ عملية التنمية بهدف التصدي لمشكلاتها العرقية والاجتماعية, وذلك دون التفريط في قيمها الثقافية والاجتماعية الخاصة, ولقد استطاعت ماليزيا أن تقدم نموذجا تنمويا فريدا يجمع بين أصالة التراث الماليزي وحداثة التكنولوجيا المعاصرة.(12)
3- النظام المؤسسي:
تعيش الغالبية العظمى من البلدان العربية حالة من التخبط وعدم الاستقرار في البناء المؤسسي وبدل المؤسسة والانتقال السلمي للسلطة تسود الشخصنة في كل مكونات المجتمع بدءا من الأسرة وانتهاء بنظام الحكم ورغم المظهر الديمقراطي لبعض الدول العربية وشيوع ظاهرة الانتخابات الرئاسية شكلا إلا أن أحدا من رؤساء هذه الدول لم يجد منافسا حقيقيا وفي الانتخابات الأخيرة في تونس إبان حكم الرئيس زين العابدين بن علي كان بعض المرشحين للرئاسة يدعون في لقاءاتهم الجماهيرية التي من المفترض أن تكون دعاية انتخابية لهم لانتخاب الرئيس بن علي وهو يؤشر إلى أن ذلك كان واحدة من الأسباب التي وصلت بالبلاد إلى الحال الذي وصلت إليه فيما بعد وكذا الأمر في ليبيا.
في خطابه الشهير قبيل النهاية ومن أمام قصره المدمر تساءل الرئيس معمر القذافي عن أولئك الذين كانوا يرقصون أمامه ويعلنون التأييد له قبل يومين أين هم ودعاهم للخروج لاعتقال "الفئران" على حد تعبيره مستغربا لماذا لم يفعلوا ذلك حتى تلك اللحظة وهو استغراب مبرر فمن غير المعقول أن يكون شيوخ وزعماء ووجوه البلد يرقصون مؤيدين للرئيس ثم يتركونه للموت فجأة خلال يومين.
في تعليقها على ما آلت إليه الأمور في إيران بعد الثورة الإسلامية هناك قالت الإمبراطورة فرح زوجة شاه إيران " ما الذي جرى لقد قالوا لنا إن الناس يحبوننا وكنا نرى ذلك حين نلتقيهم لقد كان الأمر غير حقيقي لقد كانوا يكذبون علينا " وهذا هو القول فكل الحاشية كانت كاذبة لأنها لم تكن تمثل مصالح الناس بل مصالحها وكان من مصلحتها إغلاق كل الشبابيك والأبواب على الحاكم حتى لا يرى غيرهم ولا يسمع غيرهم.
الأمر واضح وهو أن العلاقة بين الحاكم والشعب هنا لم تقم يوما على البناء المؤسسي والوضوح ولذا فان العراق وجيشه مثلا وجد نفسه خلال ساعات ينهار أمام ضربات قوات التحالف الغربي وأصابت الصدمة كل الأمة العربية التي ظلت تغني للرئيس صدام طوال سنوات وهو يعلن التحدي لأمريكا وحلفائها.
النظرية القائمة على تاليه الفرد الزعيم بدون تفكير وبدون نقد وبدون توجيه حتى حتما ستكون نتيجتها النهاية فلا يوجد فرد على الأرض معصوم عن الخطأ وهو إن وجد كل من حوله مطبلين ومزمرين ولا يتقنون غير التأييد ولا يوجهون أو يناقشون أو يقدمون النصيحة كأفراد من المثقفين والكتاب أو كمؤسسات كممثلي الشعب في البرلمانات وغيرها بدءا من اصغر مؤسسة وانتهاء بقمة الهرم فان الدمار هو حاصل الأمر(13)
4- العشائرية والعقلية القبلية:
العقلية العربية عقلية عشائرية ثأرية لا فاعلة مؤسسة ومبدعة وحتى في القضايا القومية والوطنية الكبرى ترى اللغة العشائرية الثأرية هي التي تسود ويظهر من اللغة أن الشخص أهم من الوطن وهذا يعود بنا إلى عقلية البداوة وفي أحسن الأحوال التجارة التي ترى في الوطن مصلحة فوطنك حيث عشبك وماءك أو حيث سوقك وهذا يسهل على المرء القبول بتغيير الوطن ويبدو جليا أن لا هجرة عكسية على الإطلاق من الرب إلى الشرق إلا هجرة اليهود إلى فلسطين التي تنتمي أصلا إلى المجتمع الغربي والنظام الغربي .
في الخطاب الفلسطيني مثلا تجد كلمة الثأر حاضرة دائما عند كل مناسبة حتى ليبدو الصراع مع الاحتلال قائم على الفعل ورد الفعل وبعيدا عن الأصل وهو الاحتلال ففي كل مناسبة يسقط فيها شهيد فلسطيني تتبارى الفصائل بكل خطاباتها بالحديث عن الثأر القادم والانتقام والسؤال لم نرى الثأر والانتقام من أصله لان الاحتلال لا زال متواصلا منذ قرن من الزمان وكل ما ينتج من ماسي سببها الأصل وهو الاحتلال حتى ليبدوا أننا غاضبون لقتل فلان أو هدم بيت فلان أكثر من غضبنا لضياع الوطن ويقول حسني عايش في صحيفة الرأي الأردنية " أما العشائرية (Tribalism) فهي عقلية أو اتجاه (سياسي) يسعى إلى تحويل العشيرة إلى نوع من الحزب السياسي في مواجهة العشائر الأخرى، والاحتكام إليها في العلاقات الاجتماعية والسياسية... بهذه العقلية أو التحويلة تصبح العشائرية شكلاً من أشكال الأيديولوجية يُرجع إليها ويُفسر بها كل أمر مثل تشكيل الحكومات، والانتخابات البرلمانية، والبلدية والنقابية...والمقاضاة، والوظائف العامة: المدنية والعسكرية وربما الاستثمارات والأعمال في القطاع الخاص،أي كالأيديولوجيات الأخرى مثل الأيديولوجية القومية (Nationalism) والايدولوجيا الشيوعية (Communism) والأيديولوجية الإسلامية (Islamism) وهكذا عندئذ تصبح كل عشيرة – بالعشائرية – (حزبا) في مواجهة بقية (أجنحة الحزب) العشائر "ً.(14) ولكن فان كل ذلك لا يعني أبدا أن السم فقط هو المكون الوحيد للعشائرية وسنأتي على ذلك في ختام ورقتنا هذه.
5- النظام التعليمي والتربوي:
تعاني نظم التعليم العربية من أسلوب التلقين والحفظ ويغيب عنها كليا نموذج التفكير النقدي والفكر الإبداعي والبحثي وهو ما يعكس نفسه على نمط التفكير العربي والقدرة الإنتاجية وروح الاكتشاف والبحث والقدرة على الإبداع في مواجهة التطور الهائل في المعرفة لدى البشرية ويختزل تقرير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم سلبيات التعليم في العالم العربي " في قضية كبرى ذات أبعاد وتشعبات هي جودة التعليم والتي تتجلى خاصة في ضعف أداء التلاميذ العرب في التقييمات الدولية المقارنة التي تشارك فيها الدول العربية ونخص بالذكر منها دراسة التوجهات العالمية في تحصيل الرياضيات والعلوم TIMSS والبرنامج الدولي لتقييم مكتسبات التلاميذ PISA والدراسة الدولية لقياس مدى تقدم القراءة يف العامل PIRLS. ففي كل هذه الدراسات ويف مختلف دوراتها، مل ترتق نتائج التلاميذ العرب إلى مستوى المعدل العالمي ولم يتجاوز أغلبهم المستويات الدنيا وهو ما جعل الدول العربية المشاركة تحتل المراتب السفلى. وما تجدر ملاحظته هو أن التلاميذ العرب جيدون صعوبات كبرية كلما تعلق الأمر بالتمارين التي تتطلب قدرات ومهارات التحليل والتفكيري وحل المسائل وهي الكفايات التي يحتاجها الأفراد أكثر من غيرها للانخراط في مجتمع المعرفة وتؤهلهم كذلك متطلبات سوق العمل".(15)
6- الاستثمار في القوى البشرية:
يقول ادوارد ليتوك عن اليابان قبل نجاحها أنها " اليابان جزيرة مكتظة بالسكان ذات مساحة اصغر من مساحة كاليفورنيا وتستورد من استهلاكها )100 %( من الألمنيوم) ،و98 %( من النفط) ، و4،98) % من الحديد )و 66,4 % ( من الخشب " (16) وحين سؤل ياماشيما احد الأخصائيين اليابانيين في الإدارة من جامعة كيوتو عن سر نجاح اليابانيين وما وصلوا إليه من تطور على كافة الأصعدة قال " أن الاعتقاد السائد هو أن اليابانيين يعملون أكثر ولكنهم في الحقيقة يعملون أفضل ،أنهم كغيرهم يعملون 43 ساعة في الأسبوع أي 2000 ساعة في العام بينما يعمل الكوريون 3000 ساعة في العام أي بزيادة الثلث، ليست هناك معجزات وخوارق، إن العامل في اليابان يتفوق في تأهيله الثقافي والمهني على زميله في أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ،إن الجامعة والمدرسة هما قوتنا الضاربة وأما الذخيرة فهي الانضباط الذاتي. فال حاجة لتعيني جيش من المراقبين والمفتشين يقضي نصفهم أوقاتهم في حراسة النصف الآخر. (17) والنموذج الياباني كما اشرنا مكرر بأشكال وأنماط تقترب أو تبتعد عنه قليلا كالصين وسنغافورة وماليزيا وفقط تقف الحالة العربية عاجزة حتى اللحظة عن إدراك أهمية الاستثمار في البشر وطاقاتهم وإمكانياتهم باعتبارهم القوة والأداة الوحيدة القادرة على اجتياز الصعاب أيا كانت.
7- إعادة صياغة النموذج العربي:
كل الوقائع تشير إلى أن الحالة العربية حالة بالكاد تكون متواضعة وان العرب لم يتمكنوا من الإمساك بما لديهم من مخزون ثقافي وحضاري فهم منقسمون إلى ثلاثة نماذج متباعدة ومتباينة:
الأول: نموذج يرى في الماضي محض تخلف ويسعى للتعلق بالنموذج الغربي دون سماته ودون خصوصيته متنكرا لكل ما هو قديم دون أن يحاول حتى التفريق بين الغث والسمين.
الثاني: متعلق بالماضي لدرجة الالتصاق ورافضا لكل جديد أيا كان بما في ذلك حتى الحضارات الأخرى التي خضعت لسيطرة العربي كالفرعونية وغيرها ولم يستطع أن يوظف ما في هذه الحضارات من قيم لصالحه كما فعلت العديد من الأمم.
الثالث: وهو النموذج الداعي للتطور مع الاحتفاظ بالسمات الخاصة وهي نماذج نجحت في عديد البلدان كماليزيا والصين وكمبوديا وسنغافورة وهو النموذج الذي يحتاج لدعم أكثر ليرتقي إلى مستوى أن يصبح النموذج الفاعل والمسيطر وهذا يحتاج لتضافر كل الجهود لإنجاحه عمليا.
بالتالي فالعالم العربي بحاجة لنموذج يوحد الجميع مؤمنا أن الفكر الإنساني هو ملك الجميع وان من حق الشعوب والأمم جميعا استخدام نجاحات وإبداعات غيرها على قاعدة أنه فكر إقليمي ولا يجوز للفكر أو الإبداع أو العلم أن يكون حبيسا خلف أسوار العنصرية والشوفينية وان ما أراه جائزا لي فمن حقي استخدامه فهما أي العلم والفكر والإبداع يتساويان مع الماء والهواء والشمس ملك لكل الأحياء على وجه الأرض ولا يجوز احتكارها لأحد أيا كان عند ذلك سنجد أنفسنا مشاركين فاعلين ومؤثرين في الفكر الإنساني بعيدين عن التقوقع وقادرين على صياغة يقيننا أو إدراكه اضعف الإيمان كجزء من يقين البشرية ومستقبلها لا على هامشها.
8- المواطنة والدولة المدنية:
لا بديل إذن عن ترسيخ أسس ومبادئ المواطنة والدولة المدنية في العالم العربي والاعتراف بالأقليات والطوائف والقوميات والمذاهب ومنع سيطرة جهة على الجهات الأخرى بأي حال من الأحوال وترسيخ مبادئ الديمقراطية ليس بأشكالها الخارجية بل بعمق البنية الاجتماعية والاقتصادية أولا لينعكس ذلك على البناء السياسي فليست الانتخابات الشكلية هي الأساس ولا النظام الجمهوري فعديد دول العالم كبريطانيا واسبانيا والسويد وغيرها هي أنظمة ملكية قادرة على الصمود والنجاح وبناء نظم للدولة المدنية الحديثة على قاعدة أنها دولة كل مواطنيها سواسية أمام القانون المدني الذي يساوي الجميع نصا وروحا وسلوكا وتفسيرا ومصادر للتشريع والحكم.
9- إعادة قراءة التاريخ:
على العرب اليوم أن يعيدوا قراءة تاريخهم بروح نقدية ومصارحة حقيقية للذات وان يعيدوا الاعتبار للمكونات التاريخية للمجتمع والاعتراف بما سطوا عليه من حضارات الشعوب والأمم التي سبقتهم ولن يتوقفوا عن حالة التغني الكاذب بالذات البعيدة والغير مثبتة وسرقة ما قدمته لهم الشعوب التي دخلت الإسلام ونسبه إلى أنفسهم فمن حق هذه الشعوب الاحتفاظ بحضاراتها ونسبها إليها حتى لو لم تعد كذلك.
إن الإصرار على التمسك بالماضي والتغني الأجوف بما مضى لن يصنع امة عربية ترى اعتباطا أن من حقها شطب القوميات الأخرى وإذابتها في بطنها ولا يحق لها أن تنسب الإسلام لها فتوحد بين الإسلام والعروبة وتلغي ما هو غير مسلم من العروبة وما هو غير عربي من الإسلام لتصبح امة من وهم تاريخي أجوف لا سيقان له ولا ارض يقف عليها من شدة الإغراق في انتحال ما للآخرين.
في العالم اليوم مثالين صارخين مصطنعان أصلا فكل تاريخ أمريكا لا يزيد عن الخمسة قرون وهي بلد بلا حكايات وتاريخ سوى تاريخ إلغاء امة كاملة والحلول محلها ومع ذلك فهي قادرة اليوم على التقدم على كل الأمم بصناعة تاريخها وثقافتها التي تشبه كشكول الشحاذين واخطر الأمثلة الدولة الأكذوبة والقائمة أصلا على كذبة وهي إسرائيل ويكفي أن نعرف حالنا معها لنرى إلى أين سيقودنا الإصرار على التغني بتاريخ لم نعد نعرفه أصلا.
إن كيان مصطنع مثل دولة الاحتلال ( إسرائيل ) وما يحققه من انجازات رغم وجوده في اخطر بيئة عدم يقين وحجم العداء المحيط بها ومع ذلك استطاعت أن تبني دولة عصرية قوية تقف في وجه محيط من الأعداء بل وتحقق الانتصارات تلو الانتصارات دون أن تجد نفسها حائرة كيف تؤسس للصناعات وصواريخ العرب موجهة عليها في حين يعيش العرب حيرتهم بلا توقف وكأنهم الأصغر وإسرائيل هي المحيط المعادي وليس العكس.
سلمنا للنجاح واليقين:
علينا أن نؤمن أولا أن لا يقين سوى ذاك الذي سيكون حين يكون وفيما عدا ذلك فان الشك والاحتمالات هي اليقين الوحيد الممكن لنا كما لغيرنا مهما تمايزت الظروف وفي سبيل ذلك فان علينا أن نبني سلمنا للنجاح يكون قادرا على خلق حالة من المواصلة أساسها التواصل دون القطع أو الانقطاع بالانتقال إلى الأمام بما لدينا على أن يبدو بحال أفضل كلما صعدنا درجة جديدة للأمام فتجديد الذات دون هدمها هو أساس الثبات كمحفز للانتقال للأمام ودرجات سلمنا الضرورية لذلك هي:
بما تقدم يمكننا أن نتجاوز عقبات الاغتراب والخوف من الآخر والمجهول والرغبة الدائمة بالتقوقع السلبي على الذات وصياغة غد نملكه بأيدينا وبه نجد لنا مقعدا مشاركا للأمام في الحضارة الإنسانية الواحدة فلا بيوت يمكنها اليوم أن تعيش في البحر بعيدا عن يابسة البشر.
الحالة العربية... هناك ما هو ممكن:
رغم أن الباحثين والكتاب العرب وأنا منهم يصرون دائما على تقديم العشائرية والقبلية كواحدة من أسباب التخلف إلا أن علينا أن نعترف أن لا شيء سيء بالمطلق وان النار التي تحرق هي نفسها التي تطبخ وتدفئ والسؤال هو أين وكيف ومتى نستخدمها فالعشائرية في الحالة العربية لها صفات وميزات وقيم تنفرد بها تحمل الكثير من الايجابيات التي قد تشكل رافعة حقيقية للتنمية في الواقع العربي المعاش رغم كل سلبياته فقيم العشيرة العربية والتي يمكن تعداد البعض منها كنموذج مثلا " الضيافة، النظافة، الحياء، العصبية، السب، اللطف، الشجاعة، النبل، احترام المرأة، الشهامة، السخاء، التواضع، المساواة، التسامح، الوفاء، الإخلاص، الصدق والكذب، الحرية، الصبر، الأمانة، الأنفة والاعتزاز، الفراسة، الفخر، القناعة" وهذه القيم جميعها يمكن لها أن تكون أداة العرب في صياغة مجتمع متماسك لا يتنازل عن القيم الايجابية فيه بل يطورها وينميها لصالح تقديس العمل والعطاء وروح الانتماء للجماعة ونجاحاتها في ظل بيئة متماسكة قادرة على ضرب النموذج الوطني بتقاليدها وقيمها الخاصة القابلة للعصرنة والحداثة وهو ما نجحت بتحقيقه دول مثل ماليزيا واليابان دون أن تفقد خصوصيتها الوطنية المتمايزة عن الآخرين.