استيقظت مدينة غزة صباح الأحد 18/4/2004م علي صوت مكبرات الصوت التي انطلقت من المساجد الصادحة بتلاوة القرآن ترحمـًا على روح الشهيد المجاهد و الطبيب الثائر " أسد فلسطين " القائد و المعلم و الرمز الدكتورعبد العزيز الرنتيسي " أبو محمد " قائد حركة المقاومة الأسلامية " حماس " بقطاع غز ة .. فتأكد الأهالي أن ما حدث في مساء الليلة السابقة كان حقيقة وليس حلمـًا ، فقد تمنوا صادقين أن يكون ما حدث لا يغدو كابوسـًا أو حلمـًا مزعجـًا.
ومنذ ساعات الصباح الأولى بدأ السكان يزحفون باتجاه مشفى الشفاء بغزة كي يحاولوا إلقاء نظرة الوداع الأخيرة علي الشهيد القائد في مرثية أخرى تكتب على صفحات الحزن اليومي الفلسطيني ، وفي مشهد حزين اختلطت فيه مشاعر الحزن بالغضب ، وبكى فيه الرجال الرجال.
الاذاعات المحلية بغزة استنفرت بشكل لافت فيما يشبه السباق لتغطية حادث الاغتيال وتفاصيل الجنازة وتداعيات الجريمة .. وكان من الملفت ما بثته صوت الأقصى من كلمات بصوت الشهيد قال فيها مخاطبـًا جماهير الشعب الفلسطيني :
" أقول لكم لأطمئنكم : لو رحل الرنتيسي والزهار وهنية ونزار ريان وسعيد صيام والجميع ، فوالله لن نزداد إلا لُحمة وحبـًا ، فنحن الذين تعانقت أيادينا في هذه الحياة الدنيا على الزناد ".
بعد أن اغتالت يد الغدر الإسرائيلية الشيخ القائد أحمد ياسين يوم الأثنين 22 / 3 / 2004م بايعت حركة حماس القائد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي خليفة له في الداخل ، وقد اغتيل الدكتور الرنتيسي مع اثنين من مرافقيه هما المجاهد أكرم منسي نصار والمجاهد البطل أحمد عبد الله الغرة في غارة جوية إسرائيلية استهدفت سيارته في شارع الجلاء شمال مدينة غزة مساء السبت 17/4/2004م بعد أقل من شهر من توليه قيادة حركة حماس في قطاع غزة .
كانت الصدمة باغتيال شيخ الشهداء الشيخ أحمد ياسين كبيرة لكنها كانت ممزوجة بمعاني الفخار ، إن الله اصطفى الشيخ إليه واتخذه شهيدًا وقد طعن في سنه وحاصرته الأمراض واحتبسه ما أصاب قدميه ورجليه ، فنال فوق شرف التأسيس والعطاء والعمل المتواصل والجهاد والمضاء شرف الخاتمة الكريمة التي لم يكد لأحد في مثل وضعه أن ينالها.
ثم جاءت الصدمة الثانية باغتيال القائد المجاهد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي في جريمة جديدة ضمن مسلسل الإرهاب المنظم والمستمر من قبل الكيان الصهيوني ضد أبناء شعبنا الفلسطيني ، وعملية اغتيال أخرى تقوم بها عصابات القتلة ضد قادتنا ، لتفجعنا بقائد فذ جريء يمضي في أمره بمضاء حازم وكلمة قوية معبرة ونفس شجاعة أبية، فمال الناس إلى صدقه ورأوا فيه الشجاعة في زمان جبن فيه البعض ، ورأوا فيه الإصرار في زمان كثر فيه المتراجعون والفارون ، ورأوا فيه القوة في زمان كثر فيه الضعفاء المتدثرون بأسماء الأقوياء ، ورأوا فيه الصوت الجريء في زمان اختنقت فيه الأصوات أو بحت ، رأوا فيه القائد الحق الذي يستحق هذا الوصف بكل جدارة بعد أن دفع ثمنه الغالي بالتضحية بنفسه وتقديمها بين يدي الله ، ليعلم الناس جميعـًا أن القيادة تعني الثبات والتمسك بالحق والإصرار على حمل الراية مهما تكاثرت الخطوب .
ومع ذلك فلن نبكي شهيدنا " أسد فلسطين "..!!
ولن نندب قدرنا ..!
فهذا هو قدرنا .. قدرنا الفلسطيني ..!
قدر الفلسطينيين أن يقاوموا .. ويقاوموا .. ويجاهدوا .. ويستشهدوا ..!
قدر الفلسطينيين أن يواجهوا ــ لوحدهم ــ هذه الهجمة الصهيونية التي لم يسلم منها الأطفال الرضع والفتية والنساء الحوامل والشيوخ والشباب حتى الحجر والحيوان
و الطير .!
فكل ما في فلسطين استباحه العدو الصهيوني منذ عشرات السنين ، ويستبيحه يوميـًا هذه الأيام ..!
والعالم العربي يصر-ـ اصرارا عجيبـًا ــ على أن خيارهم الإستراتيجي هو خيار السلام ، ليظهروا للعالم بأنهم دواجن سلام أمام ذئاب إسرائيلية اغتصبت الإنسان والأرض والمقدسات الفلسطينية والإسلامية ، وانتهكت الأعراض ، ودنست المقدسات .
هذا الشعار المسخ الذي ابتدعه بعض المنهزمين في أمتنا العربية ، وصدقه كل العرب وتمسكوا به حتى آخر فلسطيني ..!
والعالم الغربي يمارس مؤامرة الصمت والإستهتار واللامبالاة ضد الشعب الفلسطيني ..!
فعلى مدى قرن من الزمان نزف الفلسطينيون من الدماء ما لم ينـزفه شعب من الشعوب..!
وخلال هذه الرحلة الطويلة بين الفلسطيني والدم ، ورغم شلال الدماء الذي سال على أرض فلسطين الذي اختلط بترابـها لينبت شقائق النـعمان المتمثلة في شهدائنا البررة ، فإن عدونا الأزلي والأبدي لا زال مصرا على إبادة كل ما هو فلسطيني في ظل صمت عربي أين منه صمت القبور ..! وأمام عالم منافق لا يحترم إلا القوي وإن كان مجرمـًا وقاتلا ..!
ولا يعترف بالأخلاق والحقوق..!
يقف مع الجلاد ضد الضحية ليشارك في ذبحها ..!
لم ينتظر القاتل هذه المرة عشرون عامـًا ليعلن مسؤوليته على القتل كما فعل في اغتيال القيادات والكوادر الفلسطينية على مدار سنوات الجهاد الفلسطيني، ولكنه خرج مبتهجـًا ليعلن في اليوم نفسه أنه القاتل ..!!
وصمت العالم المتحضر ــ كعادته ــ عندما يكون الدم المراق فلسطينيا ..!!
ولأنه شلال الدم الفلسطيني المتواصل منذ عشرات السنين فعلى العالم أن يلتـزم الصمت .!
ترجل الفارس "أسد فلسطين" عبد العزيز الرنتيسي وهو الذي وقف شامخـًا صامدًا في وجه العدو الصهيوني وكل مؤامرات المتآمرين والعملاء .
كان لا يخشى الإستشهاد في سبيل الله والوطن ، فقد كان يعلم تمامـًا أن لا خيارات أمام الشعب الفلسطيني سوى الفوز باحدى الحسنيين النصر أو الشهادة ، وأدرك تمامـًا أنه " مشروع شهادة " منذ صغره ، وأن درب فلسطين معبد بالدم ، محفوف بالمهج والأرواح ، وعلى هذا الدرب يمضي كل يوم شهيد وتتعاظم التضحيات ، وكلما سقط شهيد حمل الراية من بعده مجاهد يمضي على درب الشهادة ، ففلسطين ملء القلوب ومحط السائرين إلى الحرية والإستقلال .
لقد أدرك عبد العزيز الرنتيسي أن فلسطين طوال عهود التاريخ يحفر أبناؤها خندق التحرير بدمائهم ، ويروون التراب ، ويسقون نبت الجهاد والفداء والنضال ، فشلال الدم الذي يتدفق على الأرض الفلسطينية المقدسة هو الدم الطهور الذي يحفر في الأعماق خندق الإنتصار الكبير .
لقد طلب "أسد فلسطين" الاستشهاد بنفسه ، وعمل له ، وسعى إليه ، فمنحه الله الشهادة ، و هو القائل :
" إن الموت آت لا محالة , بالأباتشى أو بالسرطان أو بأي شيء آخر , ولكنني أرحب بالموت بالأباتشي " .!
هكذا قال الدكتور الرنتيسي قبل استشهاده ، وهكذا عاش بهذا المبدأ ومات بالطريقة التي تمناها إذ قتل بصاروخ انطلق من طائرة أباتشي أمريكية الصنع ..!
نعم .. صدق الله . . فصدقه الله .
لم تختلف نهاية الدكتور عبد العزيز الرنتيسي عن بدايته إلا بمدى ما تختلف مراحل تطور مأساة الإنسان الفلسطيني ..!!
ولا تتصل نهاية الرنتيسي ببدايته إلا بمدى ما تتصل حلقات هذه المراحل ..!!
من هنا لا تكون هذه النهاية قفزة أو تحولا وإنما هي تسلسل طبيعي بكل ما تحمله هذه الكلمة من مآس ..!!
ترجل " أسد فلسطين" الدكتورعبد العزيز الرنتيسي ليلحق بإخوانه وأبنائه ورفاق مسيرته الجهادية شيخ الشهداء الشيخ أحمد ياسين والمهندس إسماعيل أبو شنب والدكتور إبراهيم المقادمة والقادة صلاح شحادة ومحمود أبو هنود وجمال منصور وجمال سليم وصلاح دروزة والشقيقين عماد وعادل عوض الله ومحيي الدين الشريف ويحيى عياش وكمال كحيل ومحمود مرمش وسعيد الحوتري وعز الدين المصري ومحمود القواسمة وناصر جرار، وغيرهم من مئات الاستشهاديين وآلاف الشهداء من القساميين الذين زرعوا مشاعل الحرية والكرامة في ذاكرة الأمة التي لا تـنطفئ ، والذين أدركوا وهم يروون بدمائهم الطاهرة تراب فلسطين الطهور بأن المسافة الموصلة إلى النصر ما زالت بعيدة ، ولكنهم آمنوا كذلك بأن دماءهم الزكية تضيف خطوات واثقة على الدرب السائر في تجاه شرف وعزة وكرامة الأمة . لن تجدي الكلمات في رثاء أسد فلسطين ..
فكل كتابة عنه ستكون ناقصة .. لأن قضيته لم تكتمل بعد .
ولن تجدي الحروف في التعزية .
ولن تجدي العبارات الحزينة في الإسهاب في فلسفة استشهاده .
فقد اختار عبد العزيز الرنتيسي بين التساقط أو السقوط شهيدًا ..
وقد اختار .. !!
عندما اختار " أبو محمد " طريق الجهاد والنضال فقد اختار طريق الشهادة ..!
ولأننا أمة من الشهداء ، وشعب الشهداء ، وكل فلسطيني هو مشروع شهيد ..
علينا أن ندرك أن كل الشعب الفلسطيني مطلوب للقتل عند الإسرائيليين ..!!
على الجميع أن يفهم أنه مطلوب للعدو..!!
أطفالنا .. نساءنا .. شبابنا .. شيوخنا .. قادتنا ..!!
حتى الهواء الفلسطيني مطلوب لعصابات القتلة ..!!
ولن نبكي أسد فلسطين، ولن نبكي شهداءنا..!!
لن نبكيهم لأنهم معنا .. لأنهم فينا .. وسيظلون معنا لأنهم سيظلون فينا .. !!
لذلك نحن لا نرثيهم .. ولا نبكيهم .. ولن نلبس السواد .. ولن نتقبل التعازي .. !!
عزاؤنا هو في الثأر لشهدائنا من قتلتهم .
عزاؤنا هو في مواصلة طريق الجهاد الذي رسمه لنا الرنتيسي وجميع شهداءنا الأبرار.
عزاؤنا في أن لا تذهب دماء عبد العزيز الرنتيسي ودماء جميع الشهداء هدرًا .
عزاؤنا في مجابهة عدونا الأبدي والأزلي متكاتفين متحدين ، لأن أهدافنا واحدة حتى ولو اختلفت فينا السبل .
وليكن دم الشهيد الرنتيسي ودماء الشهداء منارات نهتدي بها في طريقنا إلى الحرية والاستقلال .
حق الانتفاضة ودماء الشهداء علينا ألا نبكي "أسد فلسطين"، وحق الرنتيسي علينا أن نغبطه شرف الاستشهاد، إنما الحقيقة القاسية والبشعة تبقى :
لقد خسر الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية هذا الرجل بإيمانه وإخلاصه وقدرته وجرأته.
لقد خسرنا القائد والمجاهد والرمز والأب والأخ والصديق .
ولسوف نفتقده كثيرًا .. ولسوف نفتقده طويلا .