جدلية السلطة والمعارضة تأخذ في الحالة الفلسطينية سياقا مختلفا عما هو معروف في الأنظمة السياسية المستقرة ، وإن كانت تشترك مع الحالة العربية في بعض سماتها كضعف ثقافة الديمقراطية والاختلاف حول الثوابت والمرجعيات الجامعة وقوة التدخلات الخارجية ، إلا أن علاقة السلطة بالمعارضة في الحالة الفلسطينية أكثر التباسا نظرا لغياب الدولة والسلطة ذات السيادة بسبب الاحتلال ، ونظرا للالتباس والتداخل ما بين مرحلة التحرير الوطني ومرحلة الدولة .
كانت منظمة التحرير ، وخصوصا بعد 1968 ، تقوم على الشراكة السياسية بين مكوناتها وكانت بمثابة النظام السياسي للكل الفلسطيني بصفتها ممثلا شرعيا ووحيدا . صحيح كان في داخلها فصائل تمارس المعارضة لنهج المنظمة إلا أن ذلك لم يصل لدرجة الخروج عن ثوابتها وإستراتيجيتها وفك الشراكة السياسية القائمة . هذا لا يمنع من القول بأنه في بعض المراحل والمنعطفات مارست بعض الفصائل دور المعارضة الجادة والجذرية لقيادة منظمة التحرير وفي بعض الحالات كانت تجمد عضويتها في المنظمة أو تخرج منها .كانت معادلة السلطة والمعارضة آنذاك تقوم على قاعدة أن المنظمة وكل الشعب الفلسطيني معارضة في مواجهة إسرائيل ، وكانت المنظمة تمارس هذه المعارضة من خلال المقاومة بكل أشكالها .
ما بعد توقيع اتفاقية أوسلو وقيام السلطة الوطنية 1994 أصبحت الخارطة السياسية أكثر تعقيدا . في بداية السلطة كان النظام السياسي الرسمي برأسين : منظمة التحرير من جانب والسلطة الوطنية من جانب آخر ، ومع أن الثانية منبثقة عن الأولى إلا أن نطاق صلاحيات السلطة أقتصر على الضفة الغربية وقطاع غزة بينما استمرت المنظمة تمثل – ولو نظريا - كل الشعب الفلسطيني ، بالإضافة إلى هاتين السلطتين ظهرت قوى جديدة من خارج منظمة التحرير – حركة حماس والجهاد الإسلامي وقوى صغيرة أخرى – تلعب دور المعارضة للمنظمة والسلطة ولنهجهما .
لم يقتصر الأمر على ذلك ، فحتى سلطة الحكم الذاتي لم تعد سلطة محل اعتراف الجميع أو تمارس صلاحياتها على الجميع وخصوصا بعد انقلاب حماس عليها يوم الرابع عشر من يونيو 2007 ، وداخل منظمة التحرير نفسها تباعدت الشقة بين مكوناتها حتى أصبحت بعض فصائلها – الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية - أقرب للمعارضة الخارجية مما هي معارضة في إطار ثوابت وإستراتيجية المنظمة ، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل إن حركة فتح العمود الفقري لمنظمة التحرير تعيش حالة أقرب للانقسام حيث جماعة محمد دحلان تلعب دور المعارضة للرئيس ونهجه .
وهكذا فإن مشهدا تراجيديا يكتنف النظام السياسي الفلسطيني . بالرغم من أن مناطق السلطة الفلسطينية ما زالت خاضعة لسلطة الاحتلال وكل القوى السياسية تصنف نفسها كقوى معارضة لسلطة الاحتلال مع تفاوت في درجة معارضتها وعدائها ، إلا انها في غالبيتها تمارس شكلا من السلطة أو تسعى لها في ظل الاحتلال ! ، وما هو متاح من سلطة شكلية باتت منقسمة ما بين سلطة وحكومة حماس في قطاع غزة وسلطة وحكومة منظمة التحرير وفتح في بعض مناطق الضفة الغربية ، بالإضافة إلى سلطة خفية لمراكز قوى من خارج الحزبين الكبيرين تتحكم بالأمور وتوجهها عن بعد ، هذا ناهيك عن قوة سلطة الجهات المانحة ودول الجوار .
ضمن هذا المشهد الملتبس يغيب التوافق على الثوابت والمرجعيات الوطنية ويتم تهميش منظمة التحرير وميثاقها الوطني ، كما تجري عملية تهميش للقانون الأساسي الذي يُفترض أن ينظم العمل السياسي مؤقتا داخل الأراضي المحتلة إلى حين قيام الدولة المستقلة ، و تتموقع حركة حماس كمعارضة للسلطة في الضفة الغربية ، وتتموقع حركة فتح كمعارضة لسلطة حماس في قطاع غزة ، دون أن يمتلك أي من الطرفين سلطة فعلية فيما تحت سيطرتهم من أرض وبشر ، ودون وضوح للبرنامج السياسي لأي منهم ، لا برنامج سلطة ولا برنامج معارضة .
حل هذه الإشكالات والتعارضات أمر ضروري وممكن وخصوصا في ظل وصول جميع الأطراف لطريق مسدود ، والحل يكمن في خارطة طريق لإعادة بناء النظام السياسي تبدأ باستنهاض منظمة التحرير لتستوعب جميع المكونات السياسية والمجتمعية وهو ما تم التوافق عليه سابقا ، مع تغليب التناقض والخلاف الرئيسي مع إسرائيل على التناقضات والخلافات الثانوية الداخلية.