لا أذكر سياقَ الحديث الذي جعلني في حينه، اروي لصديقي فارس القصة الحقيقية التالية التي هزّتني من الاعماق:
كنت قبل نحوعقدين من الزمن، اسكنُ مع اسرتي، في احدى الشقق السبع التي تتكون منها العمارة القائمة على زاوية تقاطع شارعي العجم 'هَبَرْسِم' والكرمة'هَجيفِن' في حيفا، والتي كانت معروفة لي تاريخيا باسم "عمارة دار فرسون"، وهي عمارة حجرٍ ذات اربع طبقات وذات تصميم معماري مميز جَعَلها واحدةً من اجمل الابنية التي لم تطلها يدُ الهدم الاثمة، في "حيفا ما قبل النكبة".
سمعتُ طرقا على باب المدخل الرئيسي لشقتنا. سارعتُ الى فتحه. رأيتُ امامي شابا وسيما في الاربعينات من العمر، مرتديا بذلة رمادية اللون مكتملة بربطة عنق مناسبة، ويحمل في يده خارطة مطوية. بادرَني بالتحية ثم قال لي دونما مقدمات كثيرة: "إسمي جابي فرسون. انا ابن جميل فرسون صاحب هذه العمارة" ثم ما لبث ان قال وكأنه يعتذر "قصدي جميل فرسون الذي كان يمتلك هذه العمارة قبل 1948". فقلت له على الفور وانا افتح له الباب على مصراعيه: "والدك يا عزيزي كان، وما زال في رأيي، يمتلك هذه العمارة. تفضلْ ادخلْ".
رحبتُ بقدومه. فهمتُ منه، بعد تقديم التضييفات، انه من مواليد اواخر الاربعينات، وان والديه توفيا في لبنان، وان بيتهم في بيروت قد راح ضحية قذيفة حارقة في مطلع الحرب الاهلية في لبنان سنة 1975، مما جعله يترك لبنان وينتقل مع اسرته الى قبرص ريثما يتدبر مصيره وما زال هناك حتى الان.
قبيل انتهاء الزيارة، دعَوتُه بعد التنسيق مع الجيران، لزيارة الشقق الاخرى في العمارة، والصعود الى السطح ايضا. كان جابي على امتداد هذه الجولة، منفعلا جدا. تجنّبْتُ النظر في عينينه، لئلا يضعف فيفقد السيطرة على دموعٍ رأيتُها تتزاحم في مآقيه. لكن ما أنْ وصلتُ وايّاه الى سطح العمارة، واصبحنا لوحدنا، حتى احتكت ببعضها غيومُ الانفعال المتراكمةُ في صدره، فأبرقت وارعدت وامطرت، فجاء برقُها تنهيدةً "مدويّة"، ورعدُها "آخًا" طويلةً منبعثة من اعماق اعماقه، ومطرُها دموعا كادت تستدرُّ دموعي انا ايضا. غير ان هذه العاصفة العاطفية التي إجتاحت جابي، ما لبثت ان هدأت إزاء المشهد الرائع الذي بدا امام عينيه: بحرٌ وسهلٌ وجبل في آنٍ واحد.
بحرٌ ازرق جميل حتى وإن اعتقله الانتدابُ البريطاني وتركه قابعا خلف حاجز الميناء ومكبّلا بخطوط السكة الحديدية. وسهلٌ تميز يوما بموارسِه وزيتونه وكرمته وجادة كرمله، وجبلٌ اخضر يعتمر قبة ذهبية ويحتضن حيفا تاركا لبيوتها حرية الاستلقاء على صدره الرحب. بدا جابي مأخوذا بهذا المنظر. تسمّر في مكانه ثم اخذ يدور حول نفسه، تاركا لعينيه، وربما لقلبه، تذويت بل تذويب حيفا في داخله، بمشهدها البانورامي الكامل.
بينما كان جابي مشدوها بتلك المناظر، كنت أمعِنُ النظرَ معجبا باتساع سطح العمارة ونوعية بلاطه وبصمود الحاجز المبني حوله بما في ذلك بطانة الحاجز التي لم تتأكل بفعلِ عوامل الطقس وغيابِ الترميم على امتداد عشرات السنيين، باستثناء تساقط بعض الحجارة الصغيرة، كما كنتُ أتساءل بيني وبين نفسي، عن الطريقة الفضلى التي استطيع بها تقديم مساعدة لجابي، دون ان احرجه او اجرح مشاعره، خصوصا وانه لم يُفصح، ولو تلميحا، عن عوَزٍ ماديّ، كما لم يفاخر بوضعٍ ماديٍّ منتعش، مما جعلني في حيرة من امري. ترددت قليلا، لكني عندما لاحظتُ إختفاءَ مزاجه المعكَّر وعودة هدوئه النفسي، سالتُه عن عمله وعن اسرته وعن الاوضاع بصورة عامة، ثم قلتُ له في معرض الحديث: "انا في خدمتك يا جابي".
رمقني جابي بنظرة لا تخلو من العتب، وكأني أسأتُ فهمَه، قائلا لي: "شكرا لك. الاوضاع مستورة جدا ولله الحمد". ثم اضاف بصوتٍ عادَ ليكون منفعلا من جديد: "كلّ ما اريدُه من هذه العمارة، هو حجَرٌ واحد". سألتُه بمنتهى الاستغراب: "حجر؟! وكيف تحمله معك؟!". فاجابني قائلا وهو يشير بسبابته نحو تلك الحجارة الصغيرة القليلة المتساقطة من بطانة الحاجز: "نعم حجر صغير، اضعه على مكتبي: ألمسُهُ، اراه واشمْشِمُه، فأتحسّس به وطنا باكمله".
27/5/2016