الثلاثاء 11/10/1444 هـ الموافق 02/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الماء البارد 'قصة قصيرة'... بقلم: د. سناء عز الدين عطاري

 نظرت إلى وجهها في المرآة، الكدمات الزرقاء حول عينيها، تحسستها فشعرت بألم شديد. كرهت وجهها، كما تكره نفسها، وأدركت أنها ستحتاج كما في المرات السابقة إلى أسبوع على الأقل لتختفي عن الأنظار حتى تزول تلك الكدمات. صورته لا تغيب عن عينيها وهو يهجم عليها كالوحش الكاسر، جذبها من شعرها .. لكمها بقبضته الفولاذية على وجهها الرقيق.. أصابت قبضته عينها اليسرى، وعندها أحست الدنيا تدور حولها، وأنها لم تعد ترى بها. صرخت ألماً، فركلها بقدمه وكأنها أمام مصارع عتي، سقطت على الأرض وأنينها يستحثه على الضرب أكثر وأكثر، لا شك أنه يشعر بنشوة رجولية لا مثيل لها. استنجدت بوالدتها التي كانت تنظر إلى المشهد وهي فخورة بابنها الذي أصبح رجلاً قادراً على "تربية أخته التي تحتاج إلى كسر رأسها" كما تقول دائماً. استنجدت بها مرة أخرى، فقالت لها: "خليه يربيكي". والصوت الضعيف يقول: "لماذا يربيني يا أمي؟ ماذا فعلت؟ بماذا أخطأت؟" وظلت الضربات والركلات تنهال عليها بلا رحمة حتى غابت عن الوعي. انتفضت بقوة حين سكب الماء البارد على وجهها، وبصعوبة ميزت شبح والدتها وهي فوق رأسها تنهرها " قومي بلاش تبلينا بمصيبة". كانت تتمنى أن تهب لمساعدتها، وأن تحضنها ولو للحظة، أن تقول لها ولو كلمة تخفف عنها ألمها، ولكن ذلك لا يحدث أبداً فيزيد عمق الجرح في نفسها وقلبها. لم تقوَ على المشي فنقلاها إلى غرفتها، تمنت أن تنام ليتوقف تفكيرها وعذابها ولو لحظة، ولكن الألم منعها، فالكدمات في كل جسدها، مدت يدها إلى علبة الدواء المسكن وتناولت حبتين متأملة أن يخف الألم. سمعت صوته الكريه يقول لوالدتها: " ابنتك تنقصها التربية، رأيتها بعيني تتحدث معه، من الآن فصاعداً ممنوع أن تخرج من البيت، تريد أن تشوه سمعتنا بين الناس؟" فجاء صوتها: " والله لأكسر رأسها، المهم ألا تغضب يا حبيبي". "ها .. حبيبي؟"، كم تمنت أن تسمع من والدتها ولو مرة واحدة كلمة " يا حبيبتي"، كم هي بحاجة الآن إلى كلمة حنان تخفف عنها ألمها. ومرة أخرى وصلت إليها الأصوات من خلف الباب " يا حبيبي هل معك 400 شيكل؟ أريد أن أذهب إلى السوق لأشتري بعض الأشياء؟" فأجابها بصوت الكبير القادر: "اطلبي ما تريدين من عيوني". إنه الأجر الذي تتقاضاه في كل مرة تصمت فيها على جريمة ضرب ابنتها، أو بالأحرى تشارك فيها في هذه الجريمة. وهنا أغمضت عينيها، وتمنت ألا تفتحهما أبداً. استيقظت على صوت جرس البيت، إنها ابنة جيرانهم وصديقتها التي ترافقها كل يوم إلى المدرسة، ولكن والدتها اعتذرت لها بحجة أن ابنتها مريضة وأن الطبيب نصحها بالبقاء في البيت لعدة أيام. ذات الكذبة في كل مرة، والألم يزيد. لم يكن هناك ما يستحق الضرب، أخبره أحدهم أنه رأى أخته تتحدث مع ذلك الشاب الذي تقدم مرة لخطبتها ورفضه دون سبب مقنع. دخل البيت مكفهر الوجه، وبدأ بالشتم والصراخ وانتهى بالضرب الوحشي. ومنذ وفاة والدها قبل عامين والحال هو الحال، وحتى لو لم يكن هناك سبب فإنه يفتعله ما بين الحين والآخر ليضربها ويثبت رجولته وأنه هو المسيطر في البيت. في إحدى المرات فقدت الوعي من شدة الضرب، ولم ينجح الماء البارد الذي تسكبه والدتها على رأسها في كل مرة بإيقاظها، فاضطرا إلى نقلها إلى المستشفى، وهناك رأى الطبيب الكدمات تغطي جسمها، فاستدعى الشرطة وبدؤوا بالتحقيق، وعندها أخبرتهم الأم أن ابنتها المسكينة قد سقطت عن الدرج وأنه لولا شقيقها الذي كان عائداً من العمل وأسرع بنقلها لكانت قد ماتت. وبالطبع لم تجرؤ على نفي ما قالته والدتها بل أكدت عليه، وأغلق ملف التحقيق. ومن يومها وهما يستبقيانها في البيت بعد فقرة الضرب مهما كانت حالتها. كم مرة ضربها؟ كم مرة استنجدت ولم ينجدها أحد؟ كم مرة تمنت أن تموت لتضع حداً لعذابها؟ الفكرة تراودها باستمرار، ولكن أي طريقة ستكون أجدى وأسرع في وضع نهاية للمأساة التي تعيشها .دخلت والدتها الغرفة لتطمئن أنها ما زالت تتنفس، وأنه ما زال بإمكانها أن تستمتع بمشاهدتها مرة أخرى وهي تُضرَب وتُهان، وحين اطمأنت خرجت وأغلقت الباب خلفها. وفي الصباح كان الخبر قد ملأ بيوت الحي " يقولون إنها وجدت ميتة"، " سكتة قلبية"، "لا، يقولون انتحرت"، " الله أعلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله". وشوهدت والدتها وابنها مكبلي الأيدي يسيران نحو سيارة الشرطة التي كانت بانتظارهما أمام البيت..

2016-06-15