الخميس 9/10/1445 هـ الموافق 18/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
تلميذ تونسي يعترف أمام الجميع....حاوره الطاهر العبيدي

" مضايا صراع الذاكرة والجدار" هو عنوان كتاب صدر حديثا لمؤلفه

 "مراد العوني العبيدي"، السجين السياسي السابق بتهمة الانتماء لحركة النهضة، والتلميذ الطفل الذي تمّ نموّه البيولوجي في سجون تونس "العهد المبارك"، لتكون صفحات الكتاب حبلى بالوجع بالألم والغضب، وورقات ملطخة بجراحات سجناء الرأي، ومعاناة أهاليهم ووحشية دولة "السابع من نوفمبر"، وإضاءة عن عذابات التلاميذ الأسرى، هذه الشريحىة التي دفعت فاتورة باهضة في ساحات النضال، غير أن الحصاد هو الغبن والتجاهل واللامبالاة، فكان هذا الحوار، حوارا ضد النسيان.   

كتابك الذي نشرته أخيرا تحت عنوان " مضايا  صراع الذاكرة والجدار"، الصادر عن " دار ميارة للنشر والتوزيع " بالقيروان، والذي كان شهادة مالحة، وكالحة وموجعة عن عذابات السجن وقهر السجّان، والمعاملة البشعة لسجناء الرأي، والإنعدام الكلي للأخلاق الإنسانية والقيم المدنية تجاه محبوسين عزّل، مجرّدين من أيّ حماية قانونية، ومحرومين من كل وسائل الوقاية والحماية، ليكونوا فريسة بلا بواكي أمام وحشية جلاّدي "التحوّل المبارك"، فما هي الآثار التي خلفتها لك هذه المصيبة؟

 

بداية  أشكر اهتمامكم بالكتاب الذي ولد حديثا جدا، وأحسب أنه قطع البحار والأجواء ليعانقكم قبل أن يصافح العديد من المتابعين..في الحقيقة الآثار لم تندمل وهي عديدة متعدّدة، تختلف من نزيل إلى آخر حسب سنّه ووضعه الإجتماعي، لأن السجّان وآلته القمعية كانت زاجرة عديمة الأخلاق والإنسانية، مطواعة في يد الجلاّد الأكبر "بن علي" وأعوانه، الذين استعملوا كل الوسائل لتدمير الذات الإنسانية داخل كل فرد يحمل عنوان "الصبغة الخاصة" التي تعني

(الانتماء لحركة النهضة)..ولن تندمل الآثار وستبقى تحفر في الأعماق، لأن شواهدها لن تنمحّي..من كيّ بالسيجارة إلى ضرس مقلوع دون "تخدير"، إلى آثار أظافر، أو مخالب كلب بقيت وشما على الجسد..الآثار ستبقى وتختلف بصماتها من شخص إلى آخر. وهذه المرحلة المؤلمة خلفت العديد من الضحايا، منهم من اختل عقليا، ومنهم من اعتزل الناس، وفيهم من تحوّل إلى عربيد يقارعهم بمثل سلوكهم..لكن تبقى الآثار محبوسة مثل الدماء الفاسدة في مكان الجسد المعطوب (المرضوض)..

 

أمضيت في السجن ست سنوات ونصف، تعرّضت فيها ومن معك إلى شتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، وحملات من المهانة والإذلال المبرمج  وبإيعاز من " دولة 7 نوفمبر"، وبعد إطلاق سراحك خضعت للمراقبة الإدارية طيلة أعوام، فما الفرق بين السجن ووضعية المراقبة الجبرية؟

 

أيام البحث كانت حلقة مُرّة، وكنا ننتظر حلقة السجن علها تكون أرحم لكنها كانت أفضع. وكانت تَرِدُنَا أخبار من غادروا، فكان الخروج لهذه الحلقة الثالثة المعنونة بالمراقبة الإدارية والالتصاق اليومي بالبوليس ومكاتبه، من أفظع الحلقات وأبشعها، لجبرية الإقامة والمنع من العمل، والخضوع للإمضاء طيلة اليوم، والتفقد الليلي، فكانت هذه الحلقة هي حلقة سلخ للجسد وتهديم كلي للمعنويات، لأنك في مواجهة يومية مع لقمة الخبز والعائلة والمجتمع، وأمام إرادة الصراع، إما أن تسقط، وأما أن تستمرّ، وإرادة الاستمرار تتطلب فهما لواقع المراقبة وإرادة العيش رغم إرادة القتل البطيء..سنوات المراقبة هي سنوات يختلط فيها كل شيء متعة أن تقاوم، وعذاب الجوع، وعذاب المشي كل يوم لعشرات "الكيلومترات"من أجل التوقيع في مراكز البوليس، وعذاب سماع  الكلمات النابية والمهينة، وطلب الانتظار ثم الانتظار حتى المساء لتوقع حضورك في دفتر يئن من تراكم المظالم وحين تغادر المخفر، قد تجدهم سبقوك للبيت يبحثون في فراشك وأمتعتك..المراقبة كانت صراع مقيت، ورغبة  يومية في المقاومة، إما أن تنهار وتعلن الولاء والخضوع، أم مواصلة التحدّي والصمود..

 

بعد انتهاء مدة العقوبة وبينما أنت تتجهز للخروج من المعتقل، أعلمتك إدارة السجن بسداد مخالفة بقيمة 100 دينار تونسي ما يساوي ( 50 يورو)، وقد خجلت من طلب هذا المبلغ من عائلتك الفقيرة جدا، والتي تحسّ بالمسؤولية والذنب تجاهها لما حمّلتها إياها من معاناة، فقايضت المائة دينار ب 40 يوما سجن إضافية، فما هو تأثير هذه الحادثة عليك وعلى عائلتك التي تنتظر فرحة اللقاء بك في ذاك اليوم، وهل مثل هذه الوضعيات مستنسخة مع بعض المساجين الآخرين؟

       

مبلغ الخطية(المخالفة)، كان 110 من الدنانير التونسية، أي كان مقدار اليوم 2750 مليم، لكن أمام هذه اللحظة من كثير من اللحظات الموجعة، حيث أن العائلة غير قادرة على سداد هذا المبلغ الزهيد، لأن والدي في ذلك الزمن جرايته 67 دينارا، وإخوتي محاصرين، وممنوعين  من الشغل، بحجة العقاب الجماعي.. لم يبق أمامي من خيار غير البقاء في السجن، لإكمال العقوبة، ففي سجن مثل الذي عرفت تتهافت عليك الآلام والهموم من كل الزوايا، حيث كنت محروما من زيارة العائلة، وتصل مدة الغياب أحيانا إلى قرابة العام وتسعة أشهر، نظرا لوضعية الفقر المدقع التي عليها عائلتي وضيق ذات اليد..وليست حالتي استثناء بين العديد من الإخوة السجناء، فهناك رفقاء الدرب ممن كذلك عجزت عائلاتهم على دفع معلوم المخالفة، فاضطروا إلى مقايضة المبلغ المالي بالسجن،  إلى جانب الخجل والإحساس بالحمل الثقيل تجاه العائلات التي كانت شريكا في هذه المأساة المتعدّدة الألوان والأبعاد..      

 

زجّ بك في السجن وأنت من الأحداث وفي سن مبكرة، ممّا جعلك في بعض صفحات الكتاب  موجوعا جدا، ومسكونا بالحنين والأسى لطفولة سرقت منك، حيث تصوّر بلوعة بعض مشاهد الألعاب الطفولية التي بقيت موشومة في الذاكرة، مما يوحي بأنك تحمّل مصادرة الطفولة الى طرف معين؟


في الحقيقة ما اقترفه " بن علي " تجاه شريحة واسعة من التلاميذ، هو شبيه بالمحرقة وشبيه بقطع أغصان لم تر النور..والمسؤولية هنا مشتركة بين "بن علي" والزعامات السياسة المعارضة لنهج الحكم، والتي وظّفت كل شيء حتى القُصّر في هذه المعركة، والتوظيف هنا لم تراعه الدولة كما لم  تعر اهتماما لأعمار هذه الفئة، بل " تفنن " النظام البوليسي في إقامة محاكمات خيالية لهؤلاء التلاميذ، الذين فاقت سنوات سجنهم أحكام العديد من الزعماء. لكن المؤلم هو تجاهل القيادات لهذه الشريحة من التلاميذ المنتسبين لهم، والاهتمام فقط بطموحاتهم السياسية والظهور في المنابر الإعلامية الدولية، وتركهم يعيشون منفردين أبشع مواجهة دامت قرابة العشرين سنة ضدّ نظام متوحش، وكانت أعمار هؤلاء الضحايا تتراوح بين 12 سنة إلى 20 سنة من إناث وذكور، والمسؤولية يتحملها طرفي النزاع. لهذا فالمراجعة والتقييم ضرورة ملحّة، والاعتذار واجب عيني على الطرفين، وجبر الأضرار المادية والمعنوية ورد الاعتبار لهؤلاء أقل واجب تجاه الذين دفعوا ثمنا باهظا، وضحّوا بأعمارهم وقصف مستقبلهم، وتوزعت دمائهم بين دولة قمعية وسلطة قهرية، وتيار إسلامي أخطأ المعركة، وأخطأ التقدير وأخطأ الإحاطة  بمنتسبيه.. وتغاضى عن نقد وتقييم التجربة...

 

في (الصفحة 77) من الكتاب تطرح بعض الاستفهامات عنونتها من المسؤول؟

حيث تقول:

من المسؤول عن وضع جيل الطلبة والتلاميذ بين فكي الضباع؟!

من هو مقدم القربان من صبايا وأشبال من مقاعد الدراسة ؟

من المسؤول أن تمضي قرار السجن بيديك؟

هل كان قادة التيار مغفلين؟ أم أنهم لا يحسنون صنعا؟

ما المقصود بهذه الأسئلة هل هو اتهام أم تحميل للمسئولية الاخلاقية والسياسية والتاريخية، أم نوعا من الندم؟

 

النضال ضدّ الدكتاتورية هو شرف، وهو قيمة  إنسانية  ليكون المجتمع سليما ومحصّنا ضدّ السقوط من خلال قواه الحيّة. لكن المعارك السياسية التي يغيّب فيها القانون والحقوق تستطيع أن تجرف كيانات غضّة حالمة بالحياة. ومهما كانت التبريرات لايمكن تحميلها عناوين كبرى، وكان بالإمكان في ذلك الوقت عدم محاكمة التلاميذ الذين خرجوا للاحتجاجات، أو انضووا تحت تنظيمات لا يعترف بها "بن علي" لو تمّ احترام القانون، ولو انحاز القضاء إلى العدل ولو وجدت معارضة مستشرفة، لأن قادة التيار الاسلامي استثمروا الجانب الدعوي، لتحشيد كل القوى الغضّة من التلاميذ، لمعركة دامية مع "بن علي" دون رعاية من هؤلاء الزعماء ولا متابعة للتلميذ في المحاكمات أو السجن أو حتى بعد اطلاق سراحهم.. ليتواصل الجحود حتى بعد الثورة. وغابت كل أطر المتابعة والإنصاف التي تعيد لهذا التلميذ حقه في الحياة، لذلك أعتبر قادة التيار الاسلامي مسؤولين مسؤولية أخلاقية وتاريخية تجاه هؤلاء التلاميذ، الذين كانوا في الصف الأول في مواجهة "بن علي" بداية التسعينات، غير أن تضحياتهم قوبلت بالجحود واللامبالاة التامة.. ويبقى النضال ثقافة  لايمكن أن يعتريه الندم، ولكن من حق المناضل أن ينتقد مسار من اتبعهم، وينتقد تجاهلهم لهذه الشريحة طيلة ربع قرن قبل الثورة وبعدها. وهو مايجعل الطرفان الحاكم ومعارضيه في خانة الإجرام، لأنهم لم يتداركوا أمرهم بالاعتذار أو معالجة الجرم، وأبقوا هذا الموضوع طي النسيان، لأنه يدينهم.. وأتحدّى قادة التيارالذي قاد المعركة أن تكون لهم أرقاما رسمية حول هؤلاء الضحايا رغم أنهم حكموا الدولة، أو أن تكون لهم برامج ورؤى عملية من أجل تأطير هؤلاء ورعايتهم لاتمام الدراسة، أو إحاطة اجتماعية،

ما عدى الحرص على الانخراط الشهري للاستثمار المادي لمواصلة المشوار، ومن أجل بيع بطاقات الانخراط، والحصول على أكبر عدد من الأسماء لاستثمارها كارقام في الانتخابات.   

 

أحد الأصدقاء الطلبة من الذين سجنوا مثلك وعاشوا محنة المراقبة الإدارية، يضاف إليهم أعوام التشرّد والمنفى يقول: أن كل الحركات السياسية في الوطن العربي قادتها تحاشوا الزجّ بالتلاميذ في المعارك السياسية باستثناء ما وقع في تونس، فما تقول أنت كتلميذ تعقيبا على هذا القول؟


في الحقيقة إلى اليوم حركة النهضة وبعد خوضها للمؤتمر التاسع والعاشر لم تتطرق بصورة شفافة إلى عملية المراجعة والاعتراف بعديد الأخطاء، وهي في نظري متهمة في عديد النقاط مثلها مثل "بن علي" وبوليسه، لأن التلاميذ كانوا تحت أطر تنظيمية يطلق عليها اسم الاتجاه الإسلامي 'الحركة التلمذية'. وكانت على تواصل يومي مع قيادات النهضة، وهي ملحق من ملاحق التنظيم، الذي يتابع الوافدين ويتابع المسار كاملا، ويعطي إشارات المواجهة وتنظيم المسيرات ضد النظام القائم..فكيف تتنصل النهضة من هذا الجسم بهذه السهولة، "فبن علي" لم يختزل صفة معارض ومناضل عن هذا التلميذ المعتقل، في حين استطاعت حركة النهضة أن تجرّده من كل هذه الصفات، خاصّة  لمن يعارضها في التوجه والمسار، أو يحاول التطرّق للمحاسبة..وهو ما يدعونا اليوم إلى تجريم محاكمة التلاميذ بعناوين سياسية أو اجتماعية.. 

 

السجّان بحبس الكاف "عم خميس" الذي أتيت على ذكر طيبته، والمعروف بحسن معاملته لدى أغلب المساجين السياسيين، الذين مرّوا من هناك وأنا أحد الشهود على طيبة ومعدن هذا الرجل الودود حين كنت نزيلا هناك، يضاف إليه العون "منور النجلاوي" المتخلق والمتعفف اللسان، وماذا عن بقية سجون "العهد الجديد" التي "تنزهت" فيها ألم تصادف أحدا من  السجانين فيه شيء من الرحمة والانسانية؟ 

 

"عم خميس" بقي في الذاكرة لطيبته كما بقي آخرون في الذاكرة  لبأسهم...هناك الطيبون من صنف السجان "عم خميس" وهناك مجرموا حرب اشرارا مثل "منصف" و"غزيل"  و(ميادة) و"بلحسن" وغيرهم.. لكن بقي "عم خميس" فقط في الذاكرة، لأنّه لم يرفع صوته أو يديه، واحترم الانسان فخلد اسمه في قائمة الطيبين.

 

في الصفحة 116 المعنونة: - الإسلاميون بين الحنين لحضن الجماعة والانفتاح على الآخر- نراها ورقة نقدية تمازج فيه الفكري بالسياسيى بالاجتماعي، تترجم طرحا لجملة من الأفكار المتملمة، والرؤى المنتفظة، والأسئلة المتوثبة..

فهل هي تعبيرة ذاتية أم شراكة تيار داخل التيار؟

 

الثورة وحكم الاسلاميين للدولة عرّى الحقيقة والفهم، وكان جليّا عدم الإلمام بالسياسة والثورة لعديد منتسبي النهضة، وما لامسته هو إرادة التقوقع، والرغبة في العودة للمجتمع الدعوي الضيق كانت غالبة على الانفتاح. في الحقيقة كنا ندعوا لثورة أفكار وخيارات داخل النهضة، لكن خيار الصامتين المؤيدين كانت له الغلبة، وهو ما لخّص قبول كل القرارات السياسية وكأنها قرآنا منزّلا دون استشارات داخلية. كنا نذود عن الجسم العام بالصمت نصرة له في لحظات المواجهة، غير هذا لا يمنع من وجود تيار واسع في حركة النهضة لكنه خارجها، يرى تقصيرا في الجانب الاجتماعي الذي يتمتع به البعض بتوصية أو استشارة من مكاتب محلية وجهوية، في حين يحرم منه شقا واسعا لعدم الخضوع، لأن النهضة فيها أضدادا لا يعلمها إلا من خبر العمل الإسلامي، وأضدادها عديدة فيها التنظيم وهو المسيطر، ويتكوّن أغلبه من عائلات لها روابط قرابة  جهوية أو مصاهرة، وفيها الشق الدعوي، والشق الذي يناصر مفهوم الحزب. فنجد مثلا من له سلم تنظيمي دون شهادة علمية  يريد  أن يكون رجل دولة. كما رأينا سطوا تنظيميا بعنوان هيئة تأسيسية جديدة، في حين أن البعض استقال أو تبرأ من النهضة زمن بن علي وزمن المحنة، ووجدناه في المقدمة. وهناك خط ثالث يسعى ويجتهد للتأسيس للاجيال القادمة، لأن القيادة فشلت في إدارة الصراع رغم الوهم الذي يسوّقونه لمنتسبيهم، لأن الصراع ظل إلى اليوم مفتوحا ولم يحسم.

 

الأستاذ "محمد كمال الحوكي"، الذي قدّم لك الكتاب بطريقة مهنية ومتميزة، يستشف من خلال بصماته أنه أحد شركائك في المحرقة، أو أنه من المتعاطفين مع الوجع، أم أنه فاعل خير، أم أنه من الغاضبين على مآلات الصراع...؟


للاشارة فإن محتوى الكتاب كان مقالات على صفحتي، ومنها ما تمّ نشره على بعض مواقع الكترونية.. والكتاب كان حلما لتسليط الضوء على عديد النقاط التي أراها الآن تبرز للواجهة. و"محمد كمال الحوكي" كان الشخص الذي لجأت إليه بكتابي حتى يرى النور، وبحكم أنه شريكا في المحرقة والوجع، ومن المعارضين لمآلات الصراع، اختار طوعا أن يؤطر عملي، ويقوم بتقديم الكتاب، مع العلم أنه نبهني أن وجود اسمه قد يعيق التعاطي مع الكتاب. لكنني أصررت أن يقوم بالتقديم خصوصا أننا نلتقي في العديد من المفاهيم والخيارات والرؤى..

 

أثناء محاكمتك سنة 91، لم تخف اعتزازك بالانتماء أمام القاضي، مضيفا مثلما أعتز بانتسابي لأبي وأمي أعتز بانتمائي للاتجاه الاسلامي النهضة حاليا، وقد تعرّضت في السجن الى مساومات وضغوطات وإغراءات، من أجل التنصل من انتمائك السياسي، وقد رفضت كل العروض، ونراك عشية انتخابات 2014 تقدم استقالتك من حركة النهضة وهي في الحكم وكنت أحد جنودها الأوفياء زمن المحنة فلماذا هذا الموقف وما هو الفرق بين الأمس واليوم؟

 

هذا السؤال يلخص المحنة ويجمّع كل الجراح. نعم كنت مناضلا شرسا، أحمل النهضة أو الاتجاه الإسلامي في كفّي ووجداني، وكنت أرى أن هذا الجسم بما له من ترابط وأخوّة وتضامن قد يؤهله أن يكون بديلا اجتماعيا وسياسيا للدولة. لقد قلت للقاضي أنني أعتزّ بإنتمائي للنهضة مثل انتمائي لأمّي وأبي، ما جعل الأستاذ "نجيب حسني" المحامي المدافع عن قضيتي، يعقب أنه ليس لديه قول بعد قولي. وحرصت أن يبقى انتمائي نقيّا إلى سنة 2014 حين قدمت استقالتي من حركة النهضة، لأسباب عديدة، منها الحقوقي ومنها السياسي ومنها الاجتماعي، إضافة لرفضي لمنطق التنكر الواضح لأهداف ومطالب الثورة، والسقوط في مربع  الصفقات. فكان الخروج دون الرجوع عبر مراسلات رسمية وجهت لمؤسساتها. ويبقى خروجي سنة 2014  مشرّفا لي لأنني غادرت حركة النهضة وهي في الحكم وليست مطاردة، والمؤسف أن أرى اليوم البعض ممن غادروها وهي مطاردة يتبوءون المقاعد الأمامية..

 

المصالحة الاقتصادية - التسامح السياسي - العفو الجماعي -طي صفحة الماضي- التسامي عن الأحقاد-عدم الرسوب في مربعات الماضي.. فكيف ينظر مراد التلميذ السجين السابق الى مثل هذه الشعارات؟

 

 في بداية انطلاق الثورة عندما كنت في مجلس حماية الثورة بمدينة "السرس" سنة 2011، وهو ائتلاف متكونا من أحزاب ومنظمات مختلقة التوجهات والمشارب، سئلت حول رأيي في قضية المحاسبة، فكانت إجابتي هي عدم توريث الانتقام للأجيال القادمة، لكن مع محاسبة الجلاد والواشي وكل الفاسدين، ومع منعهم من العودة لمهامهم القيادية في الدولة.. لكن  ما نراه اليوم أننا نفاوض الجلاد ونعلي قيمته، في حين أن المناضل يجرّم في الإعلام كل يوم..وهو ما يجعلنا أمام نكسة في المسار الذي بشّرت به الثورة. وما يقع اليوم هو توافقات لا يمكن أن تؤسس للحرية، ولايمكن أن تدفن الأحقاد.لأن توافقات اليوم هي حماية مصالح لوبيات المال والنفوذ، لا تنفع البلد والشعب لتبقى الأوضاع على حافة الانفجارالاجتماعي والسياسي..وتظل مربّعات الماضي مخيفة ومخفية لأنها لم تعالج، بل وقع طمسها وتجاهلها، وأعيد شكل إخراجها في ثياب مرقّعة تحت العديد من المسميات والعناوين..حيث لم يقع تأسيس مفهوم الوئام، ولم نلحظ ندم شرذمة "بن علي".. وتبقى الدولة في نظري هشّة لا تحكمها القوانين، بل تحكمها مصالح مادية وصفقات سياسية، وطبقة مستفيدة على حساب الشعب والبلد..

----------------------------

ملاحظة

* إن كان مؤلف الكتاب يحمل نفس لقبي فذاك من باب الصدفة، حيث لا قرابة لي بالسيد مراد العوني العبيدي، ولا معرفة سابقة بيننا.

 

*تحيّة شكر خاص إلى الصديق العزيز "منصف بوسحاقي" الذي جلب انتباهي لهذا الكتاب.. إلى هذا الأخ الودود، صاحب العقل المستنير والحس الوطني المتقدم، وصاحب التجربة النضالية المتعدّدة الأهوال، حيث اعتقل وهو طالب في العشرين من العمر، ليقضي ثلاث سنوات ونصف في السجن، ليتوفي والده وهو وراء القضبان، وبعد خروجه من السجن خضع مدّة 8 سنوات للمراقبة الإدارية. وقد تمكن من الحصول على ديبلوم مهندس صوت وهو في الاختفاء، كما استطاع الافلات من المراقبة الجبرية، لينتقل الى المنفى الباريسي، ليواصل ومن معه من الأحرار المقاومة المدنية إلى أن بزغت شمس الحرية.  ومع كل ما مرّ به فهو الآن أستاذ رياصيات في أحد المعاهد الباريسية. ومثله مثل شرفاء الأمة وشرفاء الوطن، الذين لا شك سينصفهم التاريخ يوما ما، حيث تعامت عن جهودهم وعطاءاتهم الثورة التونسية، هذه الثورة التي اختطفتها معاول سياسيين مقاولين، وطعنها إعلام منتهي الصلاحية وبلا رصيد، من آخر  ابتكاراته المنخفظة توضيع وتحقير النشيد الوطني، رمز المقاومة للمستعمر وعنوان الوفاء لشهداء الوطن، عبر تلحينه وعزفه للنشيد الوطني " من خلال آلة المزود" 'الدف والمزمار'، كما ظهر في بعض الفضائيات التونسية على مسمع ومرأى من "محللي آخر زمان"

2016-06-19