جوزيف غطاس كرم*
كتاب “مضايا صراع الذاكرة والجدار” بإمضاء"مراد العوني العبيدي"الذي دوّن فيه بعض الصور الصادمة حول فصول التعذيب التي تلقاها في مختلف السجون، خلال فترة حكم الجنرال" بن علي" الذي كان "مراد" واحداً من ضحايا نظامه الاستبدادي.
صور تستبق الكلام
يرسم المؤلف صورة لواقع السجون التونسيّة المطبوعة بالوحشية والقسوة والتعذيب،ورغم أنّ معظم أساليب التعذيب في السجون التونسية باتت معروفة لدى المتتبعين لأوضاع الحريات وحقوق الإنسان في تونس، إلا أن ما جاء في هذا الكتاب تبدو مخيفة أكثر. فالسجّانون كانوا ينتهكون أعراض السجناء، ويكيلون لهم الضربات والركلات التي لا تـُعدّ ولا تحصى، ويمنعون عنهم الصلاة، ويحرمونهم من النوم، من أشعة الشمس، من الضوء، ويتركونهم عرضة للعطش والجوع لساعات طويلة.
التفوق على واقع الإحباط
بالرغم من تلك العذابات، يخبرنا "مراد" أنّ السجين التونسي كان صلب الإرادة، ذكياً، حاول أن يستغل ذكاءه للتغلب على سجّانه الأميّ الذي لا يفهم سوى لغة العضلات، والمزوّد من مرؤوسيه بأعتى وسائل التعذيب وأقساها.
فقد استطاع عدد من السجناء الاستفادة من بعضهم البعض بحكم تنوّع اختصاصاتهم بين العلمي والمعرفي والديني ضمن نقاشات وراء عيون السجّان الذي يصادر حتى الأنفاس، إلا أن "مراد" لم ينس في ظل كل هذه الظروف المؤلمة، أن بعض السجّانين بشر مهما بلغت درجات فضاعاتهم،
سجّان يحمل في داخله إنسان
لم يكتب"مراد" فقط عن السجّانين الذين يمقتون صلواته، بل كتب أيضاً عن أولئك الذين بكوا لدى انتهاء عملهم، ومغادرتهم المعتقل مؤكدين على صداقتهم لبعض السجناء، وقد تطرق في بعض الصفحات على إبراز معاناة الإنسان في تونس سجيناً كان أم سجّاناً، نتيجة الفقر والحرمان، وغياب الوعي المحفز على التغيير، في حين يبدو بعض السجّانين منحازين لخدمة اللصوص والأثرياء ومتنكرين للذين ظلموا، إلا أن منهم من كان يحسّ بمعاناة المساجين.
ضريبة المواقف المبدئية
بعد خروجه من السجن، سرد لنا حكايته مع الناشط الحقوقي"الأسعد الجوهري" والضغوطات الأمنية التي تلقاها لتوقيع شهادة زور ضدّه من أجل توريطه، غير أنّه رفض رغم ما قاساه بسبب هذا الموقف، ثمّ نقل لنا بعض مشاهداته حول مختلف السجون المؤذية والمدمرة معنوياً وجسدياً للمعتقلين السياسيين.
الاستهتار بالمقدس وعي أم عدم انتباه
هذا وتتراءى لنا بين إحدى صفحات كتاب "مضايا...صراع الذاكرة والجدار" سخرية لاذعة بعنوان "الهروب إلى القلم" والتي نطقت بما يلي:
" الكتابة هي إفراغ ما فينا من أعباء تمزقنا..."،ص.9. ويتابع في مكان آخر:" ...لا تصدقوا أيها الأطفال فكلها أساطير، وأحجيات مثال قصة باب غدر...وليّكم، إمامكم...لم يكن نبياً أو صوفياً متعبداً، إنّه "كاهن نصراني"، خدعكم بالأمنيات، فنسيتم غلق أبوابكم وقلتم حارسنا سيدي الميزوني "Charles Maison" لا يخون ويوفي النذر.."ص.12.
أسئلة لا تروم السكون
هنا أتساءل إذا كانت "الكتابة هي إفراغ ما فينا من أعباء تمزقنا..."، ص.12. حسب قول صاحب الكتاب"، فليس من الضروري أن تتخطى هذه الكتابة قداسة المسلمات الثابتة للأديان التوحيدية، والمتجسّدة بالله الخالق، القادر، الآمر والناهي، وأن لا تكون هذه الكتابة نوعاً من السموم التي تفتك بالقارئ، وتبعده عن أخيه المواطن من أبناء عالمنا العربي؟ا...
ماذا تعني هذه العبارة "هذا كاهن نصراني خدعكم بالأمنيات"؟أ...ص.12.
ماذا لو كتب مواطن آخر هذا إمام مسلم خدعكم بالأمنيات ؟ا...
"سيدي الميزوني" من منظور المرويات
أولاً، "سيدي الميزوني" أو"شارل ميزون" لم يكن كاهناً نصرانياً يخدع العباد بالأمنيات؟ا...، بل كان جاسوساً فرنسياً أعتنق الدين الإسلامي نفاقاً عن طريق التصوّف، تماماً كما فعل الإمبراطور "نابليون" عندما احتل مصر، وأراد التأثير على أهلها المسلمين البسطاء عن طريق التصوّف.
وللإضاءة على هذا "الجاسوس"، من المفيد العودة إلى الوثائق الرسمية التي تؤكد أن "شارل ميزون" كان في مدينة "الكاف" قبل الإستعمار الفرنسي، وكتغطية على أعماله الجاسوسية، أصبح شيخاً صوفياً عُرف ببركاته بين الأهالي.
"شارل ميزون" الوجه الخفي للاحتلال.
لمّا كان جنود فرنسا على أبواب المدينة، استنجد الأهالي بشيخهم لأنهم يعتقدون أنّه بإمكانه ببركاته وتقواه دفع الغزاة دونما حاجة للقتال، فخرج الشّيخ "شارل ميزون" على رأس الأهالي وصعد على تلّة، ومن على صهوة جواده أومأ للجيش الفرنسي أن يتراجع فرجع العسكر هارباً وهي نوعاً من المسرحية باتفاق بين الطرفين! فبُهت الأهالي وأقاموا له الولائم والحضرات، ولم يكن للأهالي أمرٌ بعد ذلك إلاّ واستشاروا فيه شيخهم هذا.
الاحتلال يعبر الاذهان قبل الأوطان
بعد مدّة أعاد الجيش الفرنسي تقدُّمه نحو المدينة، فخرج لهم الشيخ، ومن على صهوة جواده، من أعلى التلّة أومأ للجيش أن يتقدّم ويدخل بسلام! فما كان من الأهالي إلاّ القبول، على ما أقدم عليه "شارل ميزون" ما دام هو شيخهم صاحب الكرامات وهم مريدوه، وعند مماته أقاموا له ضريحاً أسموه ضريح "سيدي الميزوني".
حين يغيب الوعي تنمو الخرافة
تتواتر قصة ثانية تقول إن هذا الولي الصالح" المزيف" الذي يحج إليه الصوفيون ويطوفون بقبره كان يملك ضيعة كبيرة جداً وعنده خدم وعبيد، وكان عنده كلب، والمعروف عند "الكافية" أن "الميزوني" هو نوع من الكلاب أصحاب الأرجل القصيرة جداً، و كان هذا "الولي" ضمن مفهوم أهل المدينة، يدلل هذا الكلب بشكل كبير، فلما مات الكلب، قام الخدم والعبيد بدفن الكلب، وذلك لحالة عيش الرخاء الذي يتمتع بها هذا الحيوان نظراً لثراء مالكه، وعملوا له مقاماً من باب الاستهزاء، وسموه مقام "سيدي الميزوني"، ولمّا مات ذلك الجيل بقي في عقول الناس أن ذلك المقام هو مقام لولي صالح فصاروا يستنجدون به لتحقيق أمنياتهم، يذبحون له النذر، ويطوفون بقبره في المناسبات.
ضريح يرقد فيه بشر أم حيوان
بعد سنين طويلة في الغربة، عاد أحد خدّام "الميزوني" إلى "الكاف"، وسمع أن الناس يتهافتون على زيارة ضريح "سيدي الميزوني" للتبرك به، فسأل من يكون هذا "الميزوني" ، فأخذوه إلى مقامه الذي شارك هو في بنائه، عندها، كشف لهم النقاب عن قصة "الميزوني" الشهيرة التي صارت أضحوكة الزمان.
تعالوا الى كلمة سواء
شخصيّاً، كإنسان مؤمن بربّ العالمين، وكمواطن من عالم عربي كان مهد الحضارة الإنسانية، ومهد الأديان السماوية التي تدعو العباد إلى كلمة سواء، يحزنني جداً قراءة عبارات استهزائيه ومسيئة بحق أبناء الأديان الأخرى.
وفي بعض الفصول عاد، ونثر مثل هذه العبارات: " كافر، نبوءة عيسى بعودته من جديد"، مضيفا: "وفي نفس الوقت يأتي رهبان الإعلام محذّراً من الهزيمة والتقسيم ويذكّرنا بأيام التّتار والصليبيين ليوغل في هزيمتنا قبل أن نبدأ". ص.98.
ألا يكفي عالمنا العربي ما أصابه من بعض الكتّاب من دعاة الفتنة الذين لا يعيشون العصر، ولا ينهلون إلا من الكتب الصفراء، ولا يستمدون رأيهم إلا من الأموات ؟ا...
طبيعي جداً أن لا يفهم واحد منهم أي شيء عن المواطنة كأساس للتعايش بين أبناء الوطن الواحد ممن اختلفت ثقافتهم وعقيدتهم.
كتّاب الكراهية وفقهاء الفتنة
فلماذا هذا الاستهزاء بالمفردات المسيحية "هذا كاهن نصراني، خدعكم بالأمنيات"؟أ...ص.12.
ولماذا هذا الاستكبار، وهذه القسوة في وصف "الكاهن النصراني" بأنّه يخدع العباد؟ا..
أم أن هذه العبارات هي ملحقة بالأدعية التي تتردد على المنابر، والتي تبدأ بالجملة الشهيرة «اللهم عليك باليهود والنصارى» لتستمر في الرجاء بترمل نسائهم، وتيتم أولادهم، وجعل أموالهم غنيمة للمسلمين؟
هذا مع العلم، أنه قد جاء في صحيح مسلم: «قيل يا رسول الله: أدعُ على المشركين، فقال: إني لم أبعث لعَّاناً، وإنما بعثت رحمة".
أعتقد شخصيّاً أن نشر مثل تلك العبارات والأدعية سببها هم كتّاب الكراهية، وفقهاء الفتنة، وأدعياء الوصاية على الدين وعلى المتدينين، الذين غادروا مفهوم الدين الإسلامي الحقيقي منذ زمن بعيد.
أبو ذر الغفاري ثائر أم منحاز؟
تستنجد بعض سطور الكتاب بالقول:
"سلوا أبا ذر لماذا غادرت الحضر؟، كنت في زمن النبي وتغادر؟؟...كنت في زمن الصحابة وتفر؟ سلوه ألف مرّة، فقصة الصحراء لغز ليوم الناس هذا".ص.12.
ويبدو أن ألغاز الصحراء قد ساقت بعض الكتبة إلى سوء الفهم وانحراف التأويل لنصوص القرآن والسنّة والصحيحة، كما جرّتهم إلى الانغلاق، وأرجو أن لا يكون "صاحب الكتاب" من بين هؤلاء الكتبة، كما أرجو أن تكون عباراته هذه قد سقطت سهواً في نصوصه، وأدعوه إلى قراءة هذه الآية الكريمة، كي تستقيم عباراته في الكتابات المقبلة.
ورد في الآية الكريمة "سورة المائدة الجزء السابع"82 ـ86".
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.
الكتابة الواعية تساهم في صناعة الفرد
أتمنى في مستقبل الأيام، أن يتراءى للمؤلف، ولغيره من الكتّاب العرب، المفهوم الصحيح لهذه الآية الكريمة، ليتكرّم، ويجتهد في نشر مفردات وعبارات تحث قراء لغة الضاد على المحبة والاحترام والتعايش، وليساهم في إنشاء وبناء وصناعة وعي فردي وجمعي من أجل تعايش سلمي إيجابي مستدام، بين جميع الأديان والأعراق المتواجدة في عالمنا العربي، خاصة، في هذه الأيام العصيبة.
*كاتب لبناني
عضو بالمركز الدولي للتواصل الإنساني بباريس