الخميس 3/6/1446 هـ الموافق 05/12/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
وكان عرس في الجليل... جواد بولس

في كل نيسان يستقيظ الجليل على ميعاده مع الفرح. فنيسان ينكش الشوق في مطارحنا ويبدد أجنحة الأرق السوداء، إنه مُطلق الأمنيات والموقد لنار ولائم  المحبة والتآلف. في الربيع تغزو مواسم الأعراس ساحات بلداتنا وقاعات الأفراح تصبح، لستة أشهر متتالية، عناوين و"مرابط" لآلاف البشر. 

كفرياسيف، قريتي الجليلية تعيش في مواسم الزواج المتكررة حياة غير اعتيادية، فعن لياليها يغيب النعاس وبين أنسجة حلكتها تنفلش الضوضاء وتنفرج فوضى، حتى إذا دنت ساعة التعب من جفونك همزتها زغرودة سابحة تنسرب إلى فراشك من هناك.. من بعيد وقريب وتنبئك كيف يذوب قلب أم انتظرت حلم ابنتها وتمنّت هاتيك اللحظة حين تكون فيها هي سيدة الزمن، أم العروس وكل التفاصيل بعد ذلك عندها شمم. إنها ليالي الجليل البيضاء يسهر الناس فيها على صوتين حتى الثمالة والوجع. 

كل قرية تزوج على طريقتها. الفوارق بينها كثيرة ومرد ذلك لأسباب عديدة، لكننا في كفرياسيف وبعض أخواتها نسعى، على طريقتنا، لقهر الموت والدوس على الملل بالفرح أولًا، وتلقف السعادة، في الحياة الدنيا، بعشقنا للموسيقى وللنسل يتوالد على أهداب الوتر وغنج النايات وذرية تكبر في كوخ يشبه كوخ ابن زحلة، سقائفه أكباش حبق "والريح عم يصفر فوق منو صفير.. وتخزّق بهالليل منجيرة قصب"، فنحن، رغم غدر الزمن ومكائد الخبثاء، ما زلنا نحب جليلنا "الما في متلو متيل"، ونصون قرية الشعراء ومنارة الأدب مثلما صانها الآباء والأجداد منذ توافد إليها ابن المثلث راشد حسين وصحبه وهو "حاملًا همًا في خاطري ضوضاء".

كلنا نتأهب للتحرك. زفة "هيثم" حفيد جبران وابن أدهم، ستكون في قاعة "الماس" في عكا. المدعوون، كما جرت العادة، هم من الأقارب والأصحاب والجيران وبعض أصدقاء العائلة من خارج القرية، وأولئك يصِلون مبكرين وليس كالكفارسة المحترفين في مط آذان الوقت حتى احمرار شحمته. ضمم الورد تزين مدخل القاعة وفضاءها، الطاولات مكسوة بالأبيض ومثلها كراسي الضيوف. في الجو عجقة غير مرئية، سوى  أنني، لهنيهة،  لاحظت رتلًا من الملائكة الباسمين يحرسون الزوايا العليا، وجوه بعضهم اكتست حمرة صهباء.

 توجهت نحو المنصة لأحيي أعضاء فرقة "الأحلام" الموسيقية وقبل أن أعانق مطربها تخيلت طيفًا يتوسط بهو القاعة وبقي هناك للحظة، وقعت عيناي على وجهه، فشعرت بحبور ووداعة سكنتني كطفل ينام بعد الرضاعة. 

حضر معظم المدعويين. تناسب عددهم مع ما توقعناه فسادت بيننا راحة وطمأنيية تحولت مع أول معزوفة وأغنية إلى هدير من النطنطات ألتي على حافة الضياع. بدأ الأهل بالنزول إلى الساحة . في وسطها برز رجل سبعيني، شعره بلون ياسمينة بلدية، بياضها أجمل من بياض بنت الكرمة حين يخالطها الماء، وجههه مدور، في وسطه شارب يشهد على شباب لم يولِّ، وخدان من بعيد تحسبهما بلون المنتور الشقي. ضحكته لا تنقطع وتخفي بعض أخاديد العمر وجناه. يمد يديه في الفضاء وكأنه يريد أن يلتقط لكل مدعوة ومدعو نجمة أو قمرًا. يميل يمنة فتتعلق يسراها على المدى ويحط يسراه فترقص اختها بدون تعب. 

بعد دقائق تضيق ساحة الرقص بالمشاركين ويفيض الفرح. يتقدم نحوي صديقنا الحيفاوي إلياس ويسألني مستفضلًا إن كان ذلك الشيخ عمي فقلت: كأنه، فهو مثل عمي أو ربما أكثر. إنه أبو الراجح محمد، جار العمر، فبيت والدي كان ظهره محروسًا ببيته، وصدره ملفوفًا ببيت المصطفى. كان من العسير أن أعرّفه على من كان يرقص معنا، فالجليل الذي كان يعرفه صديقي ويحبه مثلنا دار من حولنا. 

السبت صباحًا أفيق على صوت محام صديق يحدثني من القدس ويخبرني أنه وبعض الأكاديميين الناشطين في مجموعة مؤسسات مدنية قرروا إصدار بيان يشجبون فيه العنف الكلامي الآخذ بالتفشي في وسائل التواصل الاجتماعي بيننا وما استلحقه ذلك من اعتداءات وأعمال عنف ضد البعض ومواجهة نشاطات رياضية وتربوية وفنية في العديد من القرى والمدن العربية. سينادي البيان إلى احترام الآخر وحرياته الأساسية وفي طليعتها حرية الرأي والتعبير والإبداع والديانة وما إلى ذلك. 

باركت الخطوة وأدليت برأيي حول ما أتوقعه من النص ومن الزملاء المثقفين والأكاديميين لا سيما ونحن نلحظ في الآونة الأخيرة غيابهم التام والتجاءهم إلى خيمة الصمت وأروقة العجز القاتل. هذا على الرغم مما شهدناه في مواقعنا من حملات تكفير وهجوم على بعض الكتاب والصحافيين والفنانين والناشطين بسبب ما يؤمنون به وما كتبوه من مواقف وآراء ومقالات.

في الليل وصلنا إلى بيت ابن البلد هاشم الحج، أبو الورد. تبين أنه لم يكن يعلم عندما عين ميعاد زفة بكره بعرس هيثمنا. 

شباب بوجوه تملؤها سمرة ناعمة وبترحاب كريم يستقبلون الضيوف ويرافقونهم حتى مقاعدهم المعدة. الموسيقى تصدح وتُرقص الشجر والقمر وتستفزنا فنرقص مع هاشم وأولاده والكثير من المرافقين. يحيطوننا بزنانير من دفء جليلي أصيل واحترام وحب لم تقو عليه برودة الظلام ولا سطوة الظلاميين. رفعوا هاشم وأولاده على الأكتاف فرأيته يمسح دموع عينيه من بين بسمة تتسلل ويبسط يديه إلى السماء، كأنه يريد أن يمسك غيمة ويلتقط تناهيد الآباء. 

بعد جولة من تعب جاء وجلس إلى جانبي . بادرته معتذرًا أنني لن أستطيع حضور حفله غدًا لتضاربه مع ميعاد حفلنا، فقال ولسانه يقطر عسلًا: "معليش هيك أحلى، إخْوة وِتْجْوَّزو بيوم واحد". فقلت لجلسائي على الطاولة هذه هي كفرياسف إن حكت والجليل إن صاح وغنى.

في الغد لم أستلم من صديقي نص البيان المنتظر حتى كان المساء وكنا نعد أنفسنا للذهاب إلى الكنسية لاتمام مراسم الإكليل، فوصلني نص بيان مرسل من أصدقائي. قرأته وذهلت. كان عبارة عن نص إنشائي عار من أي موقف واضح وصريح. نص توفيقي سطحي لا يمنع من أن يوقع عليه حتى العنصري أو التكفيري أو المفتن. كان هذا نص العاجزين. 

هاتفت اثنين من المبادرين للفكرة وطالبتهما أن لا يضعا توقيعي على مثل هذه الوثيقة فهي ليست أكثر من نص تقليدي يصلح كي يتلى من على منابر وجهاء وقادة قبائل العرب. 

شرح لي صديقاي كيف تعاملت جمهرة الأكاديميين مع المشروع والفكرة وكيف أجهضت فذلكة المثقفين إمكانية وضع نص مقبول : مداخلات بعضهم ومناكفات آخرين ومزايدات الحالمين منعت ولادة الوثيقة التي كانت قد تكون حجر أساس لسور يجب أن يبنيه أهل البلاد ليصير سدًا يمنع وقوع الطامة الكبرى وما ينتظر من يؤمن منهم أن مولاه عقله. 

أنهينا الإكليل وعدنا إلى  البيت. على الشرفات وقف الجيران يحيون ويباركون وفي رأسي ينقر مطلع قصيدة ابن المثلث يوم جاء كفر ياسيف قبل ستة عقود، في زمن الحكم العسكري الإسرائيلي، وصدح متمنيًا "أليوم جئت وكلنا سجناء/ فمتى أجيء وكلنا طلقاء".. وقلت سنصير طلقاء عندما يتحرر العاجزون من خوفهم وقرشهم، وبقيت فرحًا لأننا زوجٰنا اليوم أخوين في الجليل: هيثم البولس وورد الحاج.

2016-07-22