يعتبر الحج الركن المرتبط أساسا بجغرافية معينة. فإذا كانت الشهادة والصلاة والصوم والزكاة غير خاضعة لهذا الإكراه الجغرافي، بل يمكن أن تمارس شعائرها في أي رقعة جغرافية؛ فإن هذا يعني بأنها تتجاوز الفضاءات والحدود، وبهذا تساهم إلى حد بعيد في انتشار الإسلام في كل ربوع الكون بسهولة.
طبقا للقرآن، عُرف الحج قبل مجيئ الإسلام بآلاف السنين: زمن إبراهيم، الذي كان مُظطرا إلى إخراج إسماعيل وأمه هاجر من بيته بأمر من الله: "إلى حرمي وأمني وأول بقعة خلقتها من أرضي وهي مكة". ترك هاجر وابنها لمصيرهما، بعيدا عن مسقط رأسيهما دون زاد ولا متاع ولا ماء ولا مأوى، وقفل راجعا عند سارة، قائلا: "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ". كان إبراهيم يزورهما مرة مرة، وعندما أصبح إسماعيل رجلا، أمر الله إبراهيم أن يبني البيت الحرام، في البقعة حيث أنزلت على آدم القبة. ونستشف من قصة هذا البناء بأن التصميم كان من الله ذاته، الذي أرسل بهذا التصميم مع جبريل، وكانت القواعد من الجنة. استخرج إبراهيم الحجر الأسود من المكان الذي دله الله عليه، ووضعه حيث يوجد الآن. وعند إنهاء البناء دعى إبراهيل ربه: "رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ...".
استمر الحج إلى مكة حتى في عز الوثنية وعبادة الأصنام، قبل أن يطهرها الرسول (ص) منها، ويُفرض الحج كما نعرفه الآن منذ الحجة الأولى للرسول محمد. أصبحت مكة إذن رمز الحج، بكل ما يحمله هذا الرمز من معاني ودلالات روحية وإيمانية للمسلم أينما كان.
إذا استثنينا الدلالة السيميائية العميقة للحج كنتيجة لغيرة سارة واضطهادها لهاجر وابنها، ورضوخ إبراهيم لضغط سارة، وعللنا كل سيناريو القصة بإرادة الله، فإن الثابت هو أن الحج كان يحمل في طياته منذ فرضه بُعدا سياسيا أيضا. فهدم الأصنام من طرف النبي (ص)، لم يكن فقط لتثبيت وحدانية الله، بل "استعراضا" لقوة المسلمين وقدرتهم على التحدي وإجلاء كل "الآلهة" الوثنية من قلب الكعبة، وإفساح المجال فيها لعبادة الله الواحد الأحد. وقد عرفت مكة والكعبة أحداث مختلة في تاريخها بعد وفاة النبي، وهي أحداث سياسية في أغلبها. ففي شهر ذي الحجة 63 هجرية، قرر مسلم بن عقبة المري الذي كان بالمدينة شن الحرب ضد عبد الله بن الزبير، الذي كان بمكة. توفي الأول في الطريق فخلفه الحصين بن نمير السكوني، واستمر القتال بينهما إلى سنة 64 هجرية. وفي ربيع الأول من هذا العام قذف البيت بالمنجنيق وأحرق بالنار. وهاجم القرامطة عام 930 مكة وقت الحج، وحملوا معهم الحجر الأسود إلى هجر في الإحساء. ولم يرجع إلى مكة إلا بعد 15 سنة من الحروب الدامية، في عهد الخليفة الفاطمي أبو طاهر إسماعيل المنصور بالله.
أما فيما يخص تسييس الحج، فقد ادعت فرنسا، عام 1865، بأن الحج هو سبب في نقل وباء الكوليرا إلى القارة الأوروبية، وطبقت منفردة على الجزائريين فكرة "الحجز" لمكافحة الأوبئة، وهي فكرة نوقشت عام 1866 بالمؤتمر الثالث للصحة للدول الإستعمارية بإستنبول. وبهذا لم يعد للجزائريين الحق لا في السفر ولا في الحج. بعدها أقامت السلطات الإستعمارية عام 81م، مركزين صحيين: جنوب جدة وسيناء، مرغمة الحجاج القادمين من أسيا والهند بالمرور من جدة. أما الحجاج القادمون من الشمال، فكان يُحجز عليهم في سيناء ولا يُسمح لهم بالعودة إلى ديارهم بعد انتهاء الحج إلا بعد مضي مدة طويلة.
كف سفر الحجاج المغاربة لسنوات خوفا من الغزو النابليوني لمصر ما بين (1798-1802م)، ولما استأنف سنة 1903 هوجمت قافلة الحجاج المغاربة من طرف أتباع الوهابيين ونهبت. توقف على إثر ذلك الحج، لأن المغرب الرسمي كان يرفض المذهب الوهابي أنذاك، لكونه في نظره يصطدم بأهم المعتقدات الشعبية المتعلقة بمكانة الأولياء والصالحين لدى المغاربة. وانضم المئات من المغاربة إلى جيش محمد علي المصري الذي كلف بمحاربة الوهابيين، إلى أن أقنع السلطان مولاي سليمان العلوي العلماء المغاربة بضرورة استئناف الحج وفتح باب الحوار مع الأمير سعود بن عبد العزيز، بدعوته في رسائل عديدة إلى عدم تكفير العوام، وبأن يسلك أتباعه طريقة التسامح واحترام اختلاف المذاهب والآراء.
عندما منع الشريف حسين أهل نجد من الحج، لم يتقبلوا الأمر، وبالخصوص الإخوان منهم. وعند ترأس الملك عبد العزيز في يونيو 1924 مؤتمر الرياض الذي حضره أعيان نجد، حصل على فتوى شرعية للدخول في حرب مع الشريف لضمان آداء الحج. وكان حماس الإخوان للمشاركة في هذه الحرب كبيرة جدا، ذلك أنهم أرسلوا رسائل إلى معتمدي الدول وقناصلها في جدة، يخبرونهم بدخولهم إلى مكة. رد كل من قنصل إيطاليا وإنجلترا ونائب قنصل فرنسا ووكيل قنصل هولندا ووكيل قنصل الشاه بما محتواه أنهم محايدون اتجاه هذه الحرب.
تؤكد هذه الإطلالة السريعة على أن الحج في بعده السياسي حاضر بقوة، وقد يكون هذا البعد أهم بعد له. ولا يفاجئنا التراشق الكلامي الحالي بين إيران وآل سعود، لأنه كان مرتقبا، نتيجة ما حصل السنة الماضية للحجيج الإيراني بالخصوص. يتمظهر الإستغلال السياسي الواضح المعالم للسعودية لحق الإيرانيين واليمنيين في الحج في منعهم -بخلق عقبات إدارية- لدخول السعودية. في حين تهاجم إيران، حكومة وشعبا آل سعود علنا وعالميا، ملسقة لهم كل صفات الشياطين. وفي زحمة غليان هذا التصعيد الخطابي والإعلامي بين البلدين، يتلذذ العالم المسلم باتهام طرف للطرف الآخر بالكفر والزندقة والخروج من الإسلام.
لكن من خرج بالفعل من الإسلام؟ وهل بقي فرض من فروض الإسلام لم يُدنس؟ فضبط شخوخ "الإسلام" يضاجعون "شيخات" الإسلام في الأماكن العمومية أو حتى في المساجد في علاقات خارج الزواج في المغرب مثلا، قد يكون آخر درج في سلم انحطاط المسلمين، الذين لم يعوا بعد بأن الإسلام لا يُختزل في مذهب وحيد، بل قوته في تعدد مذاهبه وفرقه، على اعتبار أن التعددية المذهبية هي ظاهرة صحية في دين ديناميكي، نشيط؛ طالما أن هذه التعددية لا تؤدي إلى الإقتتال والدعوة إلى الفرقة الناجية وهلاك كل الفرق الأخرى.
آل سعود وأئمة إيران يتقاتلون على حطام الدنيا واقتسام النفوذ في العالم المسلم، هاتكين عرض المسلمين وحقهم في الحياة الكريمة، باسم الإسلام. فأي إسلام هذا يدعون؟ ألا يعتبرون، بمثابرتهم اليومية على تفتيت الأمة المسلمة (والحج هو الركن المهم في وحدتهم) كفرة؟ ألا يستغلون جهل الأغلبية الساحقة للمسلمين بدينهم لقيادتهم كقرابين، يُضحى بها لتلبية رغبة نرجسية هدامة للطرفين؟ أيحق لنا كمسلمين متنورين أن نغض الطرف على الجرائم التي تقودها هاتين الدولتين في العالم المسلم؟ ألا يتشوق السني الوهابي إلى دم الشيعي والعكس صحيح، ويحصدان معا أرواح ملايين المسلمين، تلبية لهذا الحقد الأبدي بينهما؟
على كل مسلم حقيقي، إذا كان هناك مسلمون حقيقيون حتى، التبرأ من الشيعة والسنة،من القاعدة وداعش، ومن كل من يفتي من المسلمين، للدفاع عن إيمانه بالواحد الأوحد. ففي زمن لم يعد يُجدي فيه التمنى بتقدم المسلمين، يستوجب على كل مسلم حقيقي الخروج من الإسلام والدخول في السلام، فما جاء به محمد قد ضاع بعد موته بدقائق معدودات، لتصبح رسالته للإنسانية أيديولوجية سياسية، استغلها البشر منذ عهد أول خليفة، نُصب قهرا على المسلمين، لخدمة شرذمة من قاتلي الإسلام في مهده. فالنبي (ص) قد مات، والله الواحد الأوحد لن يموت.