يعتبر "الرمز" من المواضيع المهمة في السيمياء، إذا لم يكن أهمها على الإطلاق. والرمز ليس اختزالا بل تركيزا محكما ومدروسا لفكرة أو أيديولوجية أو منهج. يستعمل بصفة مكثفة في الحملات الإشهارية على الخصوص وفي الدعاية السياسية والدينية إلخ. والرمز هو تعبير طبقي محض: للنخبة رموزها وللعامة رموزها. كما أنه لا يخلو من التعبير عن الأسس النفسية والمبادئ التربوية للفئة التي تؤمن بالرمز وتستعمله وتدافع عنه. ويجب أن يفهم المسح السيميائي الذي نعنيه هنا في مضمونه العام كجرد تقديمي وليس كتحليل عميق لهذه الرموز، لأن هذا التحليل يتطلب دراسة علمية رزينة وليس مقالا صحفيا مبسطا.
إذا تمعنا رموز الأحزاب السياسية المغربية وقمنا بمسح سيميائي مركز لها، فإننا نجد مستويات خمسة على الأقل:
1. أحزاب الضوء أو النور: المصباح، الشمعة، الشعلة، الشمس، القمر.
2. أحزاب الأشياء: السيارة (حزبين)، الزورق، الطائرة، المحراث، الجرار، الساعة، الباب، الميزان، المفتاح، الخنجر، الإبريق، الكتاب، حنفية الماء، بيت بدوي، ظرف بريدي.
3. أحزاب "الحيوانات": (أتمنى ألا يفهم هذا سلبيا): الحصان، النحلة، الجمل، الغزالة، الأسد، الحمامة، الفيل، الدلفين.
4. أحزاب النباتات: الوردة، الزيتون، النخلة، السنبلة، التفاحة.
5. أحزاب الأعضاء الجسدية: اليد (عند ثلاثة أحزاب)، العين، النصوف العلوي للجسد.
ما يجب التأكيد عليه منذ البداية هو أن الرمز لا يملك في جوهره دلالة قارة وثابتة، بل يمكن أن يستعمل في دلالات مختلفة محكومة بطبيعة المضمون ويمكن أن يعبر عن تناقضات مضامينية لا حصر لها. ونلمس هذا بوضوح في رموز أحزابنا السياسية. نجد مثلا استعمال الضوء كرمز، سواء أكان هذا الضوء فعلي كالشمعة والمصباح أو استعاري كالقمر والشمس والشعلة، عند أحزاب لا يجمعها أيديولوجيا أي شيء يذكر، بل قد تكون متناقضة وتنتمي إما لأقصى اليمين أو لأقصى اليسار. ونفس الشيء يمكن أن يقال بخصوص الرموز الأخرى. علاوة على هذا، فإن الضوء الأرضي قد يوحي بأن الأحزاب ملتسقة بأرض الواقع، في حين أن الضوء العلوي، قد يرمز إلى الإبتعاد الكلي عن الواقع. ويمثل الضوء كرمز مشكلا حقيقيا، فقد يعني العمل على إضاءة الواقع أو التهديد بالرجوع به إلى الظلام. أما ضوء الشمس، فقد يعني ضوء الحقيقة أو التهديد بالحرق. هناك أيضا تراتبية فيما يخص إحالة رمز الضوء، فالمصباح أقوى من الشمعة، والشمس أقوى من القمر.
اللجوء إلى الترميز للحزب بحيوان ما هو إلا محاولة طوطيمية محضة. فالرغبة ليكون الحزب قويا (الأسد، الفيل) أو صبورا (الجمل) أو جميلا ووديعا (الغزالة، الحمامة، الدلفين) أو حرونا (الحصان) أو شغالا (النحلة)، تتمظهر كرسالة أولى. لكن عندما يقوم المشاهد (المواطن) بعملية تداعي الأفكار في مخيلته، فإنه يجد نفسه مثلا أمام حيوان مفترس لا يعرف لا الرحمة ولا الشفقة أو آخر قد يدكه دكا كالجرار. وإذا تحالف الجرار والفيل، فإن الجمل الرابض، على الرغم من صبره، سيطحن.
الترميز للحزب بشيئ يوحي بالطريقة التي يتمثل بها الحزب نفسه أولا وناخبه ثانيا. توحي كل الرموز إلى أدوات تستعمل يوميا إما مهنيا أو شخصيا. فالميزان مثلا قد يوحي بالقطاع المهني الذي يزاوله المنتمون للحزب (التجارة) أو إلى التصلب في المواقف، بما أن كفتا الميزان لا توحيان بالحركة، التي تعني التدبير والمرونة. أما الجرار فإنه، في مقابل المحراث البسيط، يرمز إلى عينة من الفلاحة الكبار، لا يتعلق الأمر بجرار عادي، بل بآخر صيحة من الجرارات، لا يمكن للناخب (الفلاح البسيط) إلا الحلم به في نومه والتفرج عليه من بعيد في الواقع. إذا اكتفينا بهذين المثالين، فإننا نخلص إلى كون استعمال الأشياء كرمز للحزب يقود، شعوريا أو لاشعوريا، إلى هوة سحيقة بين الحزب والمواطن.
مقابل هذا نجد رمز النباتات من الرموز الرومانسية التي لا تجد لها أي مطابقة في الواقع. فقد يكون الإرتباط بالوردة مثلا ارتباطا أيديولوجيا محضا، ذا بعد عالمي. لكن بقدر ما تثير الوردة في نفوسنا نوعا من البهجة، بقدر ما تذكرنا بالشوك والجروح، وهذا ما يفقدها قوتها السيميائية العميقة. أما السنبلة، وبما أنها "رافعة الرأس"، فقد توحي بأن المرء لا يعول عليها، لأن "ملئى السنابل تنحني على مهل". لكن إذا ربطناها بالرمز السابق لهذا الحزب (الخنجر)، وإذا افترضنا بأنها تتمة لرسالته، فقد نقبلها فارغة، دورها الأساسي هو ملئ واحتلال موقع في قطعة شطرنج السياسة في المغرب.
يعتبر الرجوع إلى أعضاء الجسد كرمز لحزب ما من السذاجات في سوق التسويق السياسي. فاليد مثلا، إذا لم تكن مفتوحة، لا تؤدي إلا وظائف سيميائية سلبية في عمومها. أما العين، فقد تعني التفرج على الأحداث، مراقبتها عن بعد، دون إمكانية العمل، أي أنها توحي سيكو-سيميائيا بقلة الحيلة.
إذا أردنا تصنيف أحزابنا من خلال رموزها و فئات الشعب التي تريد الوصول لها فإننا نجد من جديد مجموعات مختلفة، أهمها أحزاب البوادي وأحزاب الحواضر. وهذا تصنيف نسبي، لأن كل الأحزاب تأسست في الحواضر، على اعتبار أن مفهوم الحزب في حد ذاته هو مفهوم عصري حضري. المقصود ليس سكان القرى أو سكان المدن فقط، بل ذوبان البادية في الحاضرة على طول أحزمة المدن الكبرى. الرمز هو تعبير عن الشعور بالإنتماء إلى مجموعة معينة تقتسم معاشات وتصورات و مصائر إلخ مشتركة. لا غرابة إذن في كثرة الأحزاب المغربية التي تحاول من خلال رموزها جلب ليس فقط ساكنة البادية، بل بدويي المدينة كذلك.
لا يسمح لنا المقام هنا بتدقيق التحليل و الذهاب إلى أبعد من هذا المسح السريع لرموز أحزابنا ومحاولة ربط الرمز بأيديولوجية الحزب. ما يجب التأكيد عليه في هذه الخلاصة هو أن ضعف صورة الأحزاب راجع إلى سببين على الأقل: التآكل السيميائي للرموز المستعملة وجوفائية مضمونها الأيديولوجي من جهة أخرى. والنتيجة هي نفور الناخب من الأحزاب. والتحدي الذي يواجه كل حزب مغربي هو إثبات أن له قاعدة شعبية يتكلم باسمها ويعمل من أجلها. جل الأحزاب المغربية هي أحزاب نخبوية مكونة من بعض الشخصيات التي فرضت نفسها بكريزما أو بقوة ومجموعة من موظفي الأحزاب. قاعدة الحزب لم تعد مشكلة انطلاقا من البنية العريضة لفئة اجتماعية معينة: "الفلاحة"، "الحرفيين"، "العمال"، "الموظفين" إلخ، بل ممن يستفيد مباشرة من "خيرات" أو "صدقات" و"هبات" الحزب للإرتزاق وضمان القوت اليومي. وعندما يربط المواطن هذا الأمر "بالماركتين" السياسي لأي حزب حزب، وبالخصوص على مستوى الرمز، فإن النفور يكون هو النتيجة الحتمية. إذا لم تنجح الأحزاب في تسويق سياسي لمضامين برامجها عن طريق تحديث وعصرنة رموزها Logos وشعاراتها Slogans، فإن هذه الهوة المليئة بعدم الثقة بينها وبين من ترغب في أصواتهم ستبقى قائمة. فلا يمكن التعويل على حزب لم يستطع بعد عصرنة ذاته من الداخل وتطوير قدراته الإقناعية بمساعدة أدواة "الماركتين" الحديث، لكي يطور البلد.