الخميس 16/10/1445 هـ الموافق 25/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
أبعد من مجرد صفقة غاز

القدس المحتلة - عندما كانت غزة تحرق بالصواريخ في صيف 2014، كان كيري يقوم بجولاته بين تل أبيب وعمان، وقد نجحت جولات كيري هذه - على عكس كل جولاته السابقة واللاحقة - بتوقيع مذكرة تفاهم تلخص اتفاقًا أوليًا يتم بموجبة استيراد الأردن للغاز الإسرائيلي المستخرج من آبار الغاز الموجودة على السواحل الفلسطينية التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية، وبرغم نفي الأردن آنذاك أخبار التسريبات عن الصفقة، وبرغم التظاهرات الاحتجاجية وعرائض بعض النواب التي طالبت بإلغاء صفقة العار؛ فقد أعلن أول أمس رسميًا عن التوقيع الرسمي على صفقة الغاز بقيمة عشرة مليارات دولار.

الحكومة الأردنية تسوق الكثير من المبررات الاقتصادية لتوقيع الصفقة، منها الجدوى الاقتصادية، وتحذر من البدائل القاسية في حال لم توقع الصفقة في تهديد للأردنيين بأن حكومتهم في حال لم تحصل على الغاز الإسرائيلي اللازم لتشغيل محطات الكهرباء؛ سوف تضطر إلى خيارات قاسية منها فصل الكهرباء ثماني ساعات يوميًا، وزيادة قيمة فاتورة الكهرباء، وكأن الاتفاقية هي اتفاق اقتصادي بامتياز وليس له مضامين سياسية، حيث ستبقى الأردن تقوم بمسؤولياتها تجاه القدس والقضية الفلسطينية والتصدي للسياسات الإسرائيلية التوسعية واليمينية ...الخ من هذه الديباجة المشروخة والممجوجة، والتي باتت مجرد كلام للخداع والتنفيس.

وبمناسبة الحديث عن الجدوى الاقتصادية والبدائل فإن شارون واجه هذا السؤال في العام 2002 عندما كان رئيسًا للحكومة الإسرائيلية، ومورست علية ضغوط كبيرة من قبل شركة "بريتش غاز" ومن قبل الحكومة البريطانية التي كان يرأسها توني بلير، الذي كتب لشارون أكثر من عشر رسائل يحثه على شراء الغاز الذي ستستخرجه شركة "بريتش غاز" من حوض مارينا الواقع قرب ساحل مدينة غزة بأسعار زهيدة جدًا، فأصر شارون على رفض العرض لأن بعض المال سيذهب للفلسطينيين، وأكد ان كفة الاعتبارات السياسية والأمنية هي الأهم من أي جدوى اقتصادية مهما عظمت قيمة الجدوى.

الجدوى الأردنية هي توفير بضع مئات ملايين الدولارات، هذا بحسب تقديرات ربما مبالغ فيها من قبل الحكومة الأردنية، كما ان دولًا عربية عديدة تصدر الغاز، أي ان خيارات الأردن في استيراد الغاز متوفرة وليست مرهونة فقط بالغاز الإسرائيلي. استخدام الجدوى كمبرر هو أمر مضلل، واستخدام العرب للجدوى عادة لا يتم في قضايا مريحة، فلو كانت الجدوى مبدئًا في سياساتهم وتعاملاتهم وتوجهاتهم فلماذا أصبحت دولًا فاشلة؟، ولكان من الجدوى نشر وتعزيز الديمقراطية والتعددية وثقافة التسامح وتعزيز الشفافية والرقابة الإدارية وفتح الحدود لتنقل الأفراد والبضائع وإلغاء تأشيرات الدخول، لكن الجدوى على الطريقة العربية لا تستخدم إلا للتغطية على ممارسة الرذيلة السياسية وتبريرها.

الجدوى السياسية والاقتصادية الحقيقية هي لإسرائيل، فالاتفاقية حوّلت إسرائيل لأول مرة في تاريخها إلى دولة مصدرة للغاز، بدون الاستثمار الأردني الكبير كانت شركات الغاز الإسرائيلية ستواجه أزمة كبيرة فيما يتعلق بتطوير آبار الغاز، حيث ان المستثمرين يرفضون ضخ أموالهم في استثمار آبار الغاز قبل أن تتوفر ضمانات بتصدير وبيع ما يتم استخراجه، فبعد اكتشاف مصر لآبار غاز مصرية - مما جعلها لم تعد أحد الأسواق الهامة للغاز الإسرائيلي - تراجع الاهتمام بتطوير آبار الغاز الإسرائيلية، وهو ما دفع إسرائيل للدفع تجاه أولوية مد خط الأنبوب إلى الأراضي التركية لضمان فتح أسواق لصادرات الغاز. السوق الأردنية مهمة جدًا لشركات الغاز الإسرائيلية، حيث تجعل من الاستثمار في تطوير الآبار واستخراج الغاز جدوى اقتصادية عالية وتشجع الآخرين أيضًا على شرائه.

أهمية الاتفاقية الموقعة مع الأردن يلخصها الاحتفاء الإسرائيلي الكبير بتوقيع الاتفاقية، ويعبر عنها المدير العام لشركة "ديلك للتنقيب وافنير"، يوسي آفو، حيث أعلن ان "توقيع اتفاقية التصدير من حقل لفيتان إلى شركة الكهرباء الأردنية يشكل يومًا تاريخيًا، ويرسخ حقل لفيتان كمركز هام في خريطة الطاقة الإقليمية. إن إمداد الأردن بالغاز الطبيعي سيسمح لجيراننا في الأردن - كما للمواطنين في إسرائيل - بالتمتع بطاقة ناجعة، نقية ورخيصة، سوف تسهم في ازدهار الاقتصاد في إسرائيل والأردن، وتساعد في توثيق العلاقات والتعاون. إن شراكة لفيتان ستواصل التقدم بجهد لإبرام اتفاقيات توريد غاز أخرى خصوصًا لمصر، تركيا والسلطة الفلسطينية".

وأعلن وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتس أن "توقيع الاتفاق مع الأردن يشكل إنجازًا قوميًا فائق الأهمية، إنه معلم طريق هام لتعزيز العلاقات والتعاون الاستراتيجي بين إسرائيل والأردن والمنطقة بأسرها. وينبغي لمعارضي خطة الغاز أن يطلبوا الصفح من شعب إسرائيل في يوم الغفران المقبل، ولو أن حملة التضليل الهاذية التي قادوها نجحت لخسرت إسرائيل إحدى ذخائرها الاستراتيجية الأهم. إن خطة الغاز تثبت نفسها، كما قلت طوال الوقت، وستقود إلى تطوير سريع لحقل لفيتان. هذه لحظة تاريخية تحولت فيها إسرائيل لأول مرة إلى مصدرة طاقة وغاز طبيعي. ولا ريب عندي أن اتفاقيات أخرى مع دول أخرى ستأتي، ومعها اكتشافات غاز أخرى".

وبارك المدير الإقليمي لشركة "نوبل إنيرجي" إسرائيل بيني زومر الاتفاق مع الأردن، وقال إن شركته "ستواصل تطوير مشروع لفيتان، وهذا حدث تاريخي بسبب دوره الهائل في تطوير صناعة الغاز والنفط في إسرائيل. إن أثر ذلك إيجابي على الاقتصاد، البيئة وأمن الطاقة في إسرائيل، والأهم تعزيز العلاقات مع الدول المجاورة. نوبل إنيرجي فخورة بأن تكون شريكة لدولة إسرائيل ومواطنيها في تطوير صناعة الغاز والنفط، وهي تتوقع توسيع هذه المسارات عن طريق توسيع السوق المحلي، وأيضًا التصدير للدول المجاورة".

المسألة أبعد من كونها مجرد جدوى اقتصاديه وتنمية، فالاتفاقية سياسية بامتياز، وهي تؤكد عمق علاقة التعاون والشراكة بين الدولتين، فالأردن - للأسف الشديد - يؤسس ويبني ويقيم علاقاته مع إسرائيل وكأنها دولة جارة طبيعية وليست عدوًا محتلًا للقدس وللأراضي الفلسطينية التي احتلها بالقوة عندما كانت تخضع للسيطرة الأردنية، ليس هذا فحسب؛ بل ان الأردن يبدي تعاونًا غير مسبوق مع أكثر الحكومات تطرفًا وتنكرًا للحقوق الفلسطينية وتمسكًا بالاحتلال وتسعى جاهدة لتهويد ما تبقي من القدس وتغيير الوضع القائم في الأقصى، وكأن الأردن هنا يقدم جائزه كبرى لحكومة نتنياهو، الذي يفاخر من على منبر الأمم المتحدة ان كثيرًا من العرب لم يعودوا يرون في إسرائيل عدوًا لهم، ويبحثون معها عن شراكات تساعد على تنمية واستقرار الإقليم.

وفي اللحظة التي تتعاظم فيها المطالبات الدولية بمقاطعة إسرائيل وعقابها على جرائمها؛ يبدي الأردن ودول عربية أخرى انفتاحًا غير مسبوق على إسرائيل، مستغلًا ما أصاب المجتمع العربي من انقسام وتفسخ وتراجع جراء ما يعيشه من اصطفاف طائفي وصراعات وحروب داخلية لفرض التطبيع مع إسرائيل كأمر واقع.

اتفاقية الغاز بين إسرائيل والأردن ليست منقطعة الجذور عن سياقات العلاقات الثنائية بين الطرفين، والتي وصلت إلى حد تماهي المصالح الأمنية والسياسية، ورفع درجة التعاون والتنسيق في المجالات الحيوية وإقامة المشاريع الكبرى والمجالات الأمنية، حيث كان - ولا زال - استقرار الأردن بالنسبة لإسرائيل يشكل مصلحة عليا وكنزًا استراتيجيًا، حتى ان الكاتب الإسرائيلي رؤوبين باركو اعتبر ضمان إسرائيل وحمايتها لاستقرار الأردن يعتبر أحد الاعتبارات التي تجعل أمريكا تقدم مساعداتها السخية لإسرائيل.

إن ما يثير الدهشة والاستغراب هو ذلك الصمت الكبير الشعبي العربي والفلسطيني والفصائلي، وكأن استيراد الغاز من إسرائيل وفتح وتشجيع العلاقات الاقتصادية معها بات أمرًا طبيعيًا، وهو ما سيشجع على المزيد والمزيد من التقارب والتطبيع. القوى والفصائل الفلسطينية مطالبة، على وجه الخصوص كضمير حارس ومدافع عن مصالح الأمة في وجه هذه الريح العاتية المستبدة والمستهترة بثوابتنا وقيمنا وقضيتنا وبدماء شهدائنا، بألا تخشى في قول الحق لومة لائم ولا مصادرة مغانم.

سما

2016-09-29