فصام سوري
قصة قصيرة
نقطة الصفر
ابتسامةً عَريضة مَلأتْ سُحنة َوجههِ الضئيل وألقتْ بإشراقةٍ صَادقة لا مكانَ للرياءِ فيها حينَ نَهَضَ صديقي الذي تعرفتُ عليه ِمُؤخراً من مَكاَنهِ و عاد ليُحَسِّنَ من وضعيةَ جُلوسهِ مُسنِداً مِرفقَهُ اليمين عَلى حَافةِ الجدارِ الاسمنتي المُلاصِقِ لِكُرسيِّه بتثاقلٍ واضحٍ و كأنَّه يَستَعدُّ لِسَردِ حكايةٍ طويلة ٍو يُريدني أَنْ أَنصتَ إليهِ باهتمامْ .
اسمعْ يا صاحبي.... قالَها بَعدَ أنْ أخرجَ من جيب سترتهِ الرماديةِ قداحةً صغيرة ًعارَكها بابهامِ َيدهِ اليُمنى مراتً عديدةً حتى أَخرجَ من فوهتها شُعلة ضعيفةً بالكادِ أوقدتْ سيجارتهُ...... ثُمَّ عَاد َو أَردفَ قائلاً :
لقدْ عانيتُ أكثرَ منْ أيّ مخلوق ٍعلى وجهِ الأرضِ لدرجة أنني فقدت رغبة الاختلاط مع الآخرين و أصبحت لا أَتذوق من طعم الحياةِ سوى مرّها و كأنني خلقتُ للألمِ و المعاناة .
لكنني ... هدأت .....
فكرت.....
وأخيراً قررت خَوضَ معركةِ الخُروجِ مما أنا فيه .....وبالفعل نجحتُ في تخطي كلّ ذلك ....وأعلنتُ من يومها المُصالحةَ مع نفسي مُتجاوزاً جُدرانَ الحُزنِ......رافِضاً الاستسلامَ لرهبةَ الَموتِ و خشيته ..... مُصمماً على العودة إلى الحياةِ والقبول بقسمتي و ها آنذا أتمسكُ بتلابيبها محاولاً عَدم هدرِ ما تبقي من أيام َعمري دون أن َتغمرني نشوة الاستمتاعِ بعيشِ تفاصليها مع علمي المسبق بأنني لن أعيشها بسعادة مطلقةٍ!.
تحت الصفر
لا أعرفُ صَراحَة ًمن أينَ أبدأُ ...
الأحداثُ المؤلمةُ تَتاَلى منذُ زمنٍ بِسُرعةٍ جُنونية ٍ, أتأملُ بصمتٍ مظاهِرَ الدمارِ و أَرى أخبارَ الوَفياتِ مَخطوطةً في كلِّ بُقعةٍ مِنَ المدينة ِ المنكوبةِ و أنا في حالةِ خمولٍ أقربُ إلى البَلاَدَة و فُقدان الشعور . حيثُ لم يَعُدْ هناك وجع ٌيُؤلمني و لا مأساةً ُيمكنُ لها أنْ تَهزَّ مَشاعري فأنا في دوامةَ حُزني أدورُ فيها و أَدور دونَ تَوقفْ. لم أحرك ساكناً ولا يَزال الهمُّ يتابع نموه الاخطبوطي يوماً بعد الآخر و يعشعش في قلبي لأكثرِ من أربعة أعوام, و لكي أكون دقيقاً أقول منذ ذلكَ اليومِ الكئيبِ الذي فقدت فيه التواصلُ مع عائلتي التي انقطعت أخبارها في مياه المتوسط . من يومها لم تمر عليّ لحظة صمت واحدة ......
أستقبل زيارة من الملائكة ......
أستضيف جمعاً من الشياطين .....
يقيمون معي .....
يوشوشون في أذني همساً حيناً و صراخاً يكاد يمزق غشاء أذني أحياناً أخرى .....أهم ما في الأمر أنهم لم يتركوني وحيداً أبداً بَعضهمْ قالوا بأن أطفالي يَتَراكضونَ في رَوضَةٍ من رياضِ الجنة مليئة بأزهار الياسمين لكن آخرون و هم أكثر غلبة أخبروني بأن الحيتان قد ابتلعت أجسادهم الطرية و انا أميل إلى تصديق الادعاء الأخير لأن ذلك تَهيأَ لي أيضا و مراراً في كوابيس ٍ ثقيلةٍ لا تنتهي في نومي كما في صحوتي..... كلُّ شَيٍ تَوقَفَ مِن حينها و أنَا أَنتظرُ و أَنتظرْ و لإصراري المتكرر على أصدقائي من الملائكة و رجائي منهم أن يرفقونَ بيَ و يأخذونَ بيدي و يقودونني إلى حيث تواجدهم فالتقي أخيراً بهمْ و أتخلصُ من رقودي في هذا البيت و قد فقدت كل رغبة في الاستمرار في الحياة حتى انني لا أغادر فراشي و قد استفلحَ الترهل في جَسدي و بتُّ أرى شَخْصَاً آخراً كلَّما نَظرتُ إلى المرآة ِ فقد نصحوني بالسير في خطاهم . و لذلك سوف أبدأ في الانطلاق باتجاههم بدل الاستمرار في جَلد نفسي لأنني وافقت على سفرهم خلاصاً من الأوضاع التي لم تعد تطاق في طول البلاد وعرضها, و بما أنني كنتُ مُتابعاً رحيلهم فقد قررتُ أخيرأ السيرَ على خُطاهمْ و احتساب الوقتِ بالدقائقِ و الثواني من أولِّ خطوة لرحلتهم البائسة تلك و رُكُوبِهم البَحر و سَوفَ أنزلُ خِلسَةً في وسط المياه الوفيرة و أبحثُ عَنهم. هذا ما كانَ و لا يزالُ يجولُ في خاطري منذُ ذلكَ اليومِ المشؤوم. وكانَ آخرُ لقاء جَمَعَني بِهمْ هو في الجانب الغربي من ذلك المعبر اليتيم حيث بقيت معهم ثلاث أيام بلياليها حتى تمكنوا من المغادرة في قارب صغير ... لوحوا لي بأياديهم مودعين و أنا أنظر إليهم يعبرون إلى الجانب الآخر من النهر !
فَرَمَزْ حسين
2016-09-30
ستوكهولم
stockholm-sham.blogspot.com
.