الخميس 16/10/1445 هـ الموافق 25/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
'الهيصا' الإنتخابية المغربية من منظور سبيلا...د. حميد لشهب

عندما ينقب المرء في نصوص المفكر العربي محمد سبيلا، وبالخصوص تلك التي تُعنى بفكرنا السياسي، فإنه يلمس ترسانة من المفاهيم "اخترعها" لوصف واقعنا السياسي وصفا دقيقا. كفيلسوف ومنظر سياسي، لم يقتصر - في استعماله لهذه المفاهيم- على الوصف، بل تعداه إلى مستوى التحليل ومحاولة بناء فهم تركيبي للممارسة السياسية في العالم العربي عموما والمغرب الأقصى بالخصوص. وتتأسس محاولات البناء المذكورة عنده على فهم شامل للحداثة، ومداهمتها لواقعنا في شموليته وحدوده ومحدوديته؛ رابطا الكل بالنتائج المباشرة والغير المباشرة "لتطورنا" المجتمعي والفردي، في مرحلة مخاض - نقول عنها انتقالية- تتميز أساسا باختلاط المعايير وتشابك القيم وانغماسها في تناقضات لا حصر لها؛ يُخيل للمرء بأنها تقود إلى المجهول. إلا أن هذا ما يجعل منها قوة إيجابية، تعمل في الأساس على تطويع مجتمع تقليدي لولوج عتبات الحداثة.

 

ما المقصود بمصطلح "الهيصة الإنتخابية" وما هي المفاهيم الأخرى التي نعثر عليها عند سبيلا في تحليلاته للحملات الإنتخابية المغربية وللممارسة السياسية في هذا البلد؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال "الساذج" بالسهولة المُتصورة، لأن المصطلح غير بريئ سيميائيا، يحيل ليس فقط إلى مضامين مختلفة، بل إلى معان عديدة: ففي معجم تاج العروس وكذا في لسان العرب، يقال بأنه "العنف بالشيئ" و"دق العنق"، وتخلص الطير من محتوى أمعائه (الهيض)، وهذا المعنى نجده عند قبائل غياثة المغربية، حيث يتم تعميمه على البشر كذلك. أما في العامية المصرية فتعني الكلمة نوعا من الفوضى، مزيج من الكوميديا والإباحة و"جدعنة الرجالة"، كما يُقال.

 

من ميزات طريقة كتابة سبيلا هي تركيز condensation معاني مصطلحاته، دون اختزالها، بل تركها تسبح في عالم أفكار، يلعب فيه تداعي الأفكار دورا ملفتا للنظر. نجد كل هذه المعاني مجتمعة في نص "المال "الحرام" لسبيلا، في كتابه "زمن العولمة". ولا يمكن فهم "تطويعه" لهذا المصطلح، بل اكتشافه له في الواقع السياسي المغربي، إلا إذا ربطناه بنصوص أخرى في نفس الكتاب، نقتصر على أهمها: "في صراع النخب"، "التعدد والتكاثر"، "حول مسألة "المشروع المجتمعي"، "هل لدينا نقاش عمومي؟". بقدر ما تتشابك هذه المواضيع في فكر سبيلا السياسي، بقدر ما تتكامل ويُكمل بعضها البعض، راسما بذلك تنظيرا للفكر السياسي المغربي، وبالخصوص المرتبط بأداة من أدوات "اللعبة الديمقراطية"، ونعني الدعاية الإنتخابية. كيف تسقط الأحزاب المشاركة في أية انتخابات بالمغرب في "الهيصة"، وما هي الميكانيزمات الأيديو- فكرية التي توظفها "للاستحواذ" على صوت الناخب"؟

 

كطبيب فيلسوف، يحاول تشخيص الأمراض التي تفتك بالممارسة السياسية في المغرب، يتمحص سبيلا كيف تُستغل مفاهيم دينية وتحدث انزلاقات سيميائية في معناها، لتوظف أيديولوجيا. فمصطلح "المال الحرام" هو عينة حقيقية على تمثل السياسي المغربي لذكاء الناخب، أي استغلال سذاجته الدينية. ويتسائل سبيلا في هذا الإطار: "ما هو هذا المال "الحرام" الذي يتحدثون عنه، ويتبرؤون منه، ويلجأ إلى المقولة الدينة "الحرام" لإدانته؟ هل هو المال المكتسب من الحرام أو المال المصروف في الحرام؟ هل الحرام هنا في المصدر أم في المال؟ ولماذا لا يذكر المال (الأكبر منه) المخصص لشراء الترشيحات والتزكيات؟". وكفيلسوف متمرس، متسلحا ببعض "الدهاء" في هدم ما وراء الأوهام، يضع سبيلا الأصبع على الداء، المتمثل في التقديم الضمني للسياسة كبديل للدين، على اعتبارها في "عُرف" السياسي أقدس من الدين. بهذه الطريقة إذن يتم استيلاء السياسة على الدين وإعلان وصايتها عليها.

 

يفرض الصراع السياسي إذن، بل لنقل التسابق على نصيب من السلطة ولو كان ضعيفا، قبول - بل العمل بـ - أمور لا تخطر على بال، يضيف سبيلا: "وهو صراع يستعمل فيه كل شيئ، بما في ذلك استعمال السحر والبخور والفقهاء وأبطال الرياضة وممثلي الزوايا ... بل أحيانا تسخير السكارى ومحترفي الجريمة والمخدرات ...". كل هذا يدخل إذن، في التنقيب العميق لسبيلا، في إطار إفساد وتزييف الحياة السياسية عامة؛ وبالتالي يصبح موضوع التقديس في السياسة هو "الإفساد والفساد"، حتى ليمكن الوصول إلى معادلة "غير أخلاقية": العمل السياسي يساوي الفساد"، وهو حكم، إن سلمنا به كحكم قطعي، نسقط في حتمية لا تسمح لنا من فتح آفاق جديدة للتحليل ولـ "إصلاح" العملية السياسية.

 

من بين الطابوهات التي يعري عليها سبيلا في إطار "تفتيته" "للهيصات" الإنتخابية، هناك موضوع "المشروع المجتمعي"، الذي أصبح إلى حدود بعيدة شعار أغلبية الأحزاب السياسية، إن لم نقل كلها. يعري سبيلا عن "رومانسية" هذا المصطلح، بل خداعه، وإيهامه بأنه يشبه أي مشروع اقتصادي أو تقني، يكفي لتحقيقه تغيير "قطع غيار"المجتمع. وتصبح الخدعة كذبة سياسية، عندما نكتشف مع سبيلا بأن هذا "المشروع: لن ينجح إلا بـ " ... تحويل الإنسان وتغيير نفسيته وسلوكه وضوابطه وعلاقاته مع الآخرين وهي بنيان أنثروبولوجية قارة، وليس وصفات جاهزة يستطيع أي "مشروع مجتمعي" مزعوم زحزحتها". هناك إذن مزايدات خطيرة، يتحدث المرء عن "مشروع" في الوقت الذي يقصد فيه "ترقيعات" وإعادة طلاء الجدران. فالمشروع المجتمعي الحقيقي، الذي يحتاجه المجتمع المغربي هو الإستثمار في الإنسان بضمان تعليمه وتأهيله المهني والثقافي والإجتماعي وتطبيبه وتقديم قسط من الثقافة معقول إلخ. ولهذا الموضوع علاقة وثيقة بتسائل سبيلا في موضوع وموضع آخر: "هل لدينا نقاش عمومي؟"، وكأن لسان حاله يقول بأن المشروع المجتمعي رهين، إضافة إلى ما سبق من بناء الإنسان المغربي، إلى إشراك هذا الأخير في التعبير عن وجهة نظره في القضايا الكبرى للمجتمع، كسلوك و"عادة" تفرضها الممارسة الديمقراطية. تأتي تساؤلات سبيلا في هذا الموضوع على الأخضر واليابس بالتذكير بأننا، وفي غياب مشاركة المواطن في النقاش، لا نعرف من الديمقراطية إلا القشور: "نعرف أننا في أول الطريق، وأن لنا شكليات ديمقراطية ونصوصا ديمقراطية، لكن هل لدينا ممارسة ديمقراطية؟". فالنقاشات السياسية تُحتكر عموما من طرف الأحزاب والتنظيمات السياسية، بل تصبح "حروبا سياسية مقنَّعة"، تُلعب في الساحة العمومية أمام أعين المواطن، وتستعمل فيها أرذل الطرق للمس بـ "الخصم"، لتكون الغائبة الكبيرة هي المصلحة العامة: "نلاحظ بأن كل فصيل سياسي في مجتمعنا يشتهي جثة الآخر، وكأنه لا يمكن أن يجتاز مكانه إلا على أنقاض الآخر". وهذا بالضبط ما نلاحظه في فترات الحملات الإنتخابية. لإقصاء المواطن من النقاش الذي يهمه علاقة وطيدة إذن بتمثل النخبة السياسية لذاتها وللشعب، وهذا ما نلمسه في نص سبيلا: "في صراع النخب". فصراع النخب وارد وصحي إن بقي في حدود صحية، لكن عندما يتعدى هذه الحدود، فإن الأمر يتغير جذريا، وهذا ما نلمسه في فئة الساسة المغاربة: "فالنخبة السياسية مثلا (سواء كانت في موقع السلطة أو في المعارضة) تميل إلى توليد مشاعر ورؤى تجعلها هي النخبة القائدة والرائدة والمتحكمة في مصير المجتمع وفي مصائر النخب الأخرى ... بل إن النخبة السياسية تميل إلى إعطاء الإنطباع بأنها البديل الموضوعي لكل النخب الأخرى". من طبيعة الحال، لا يمكن أن نتصور بأن النخب الأخرى تبقى مكتوفة الأيدي، بل تحاول بدورها التموقع وفرض ذاتها بأية طريقة كانت. يدغدغ سبيلا هنا، ما لا يكون في حسبان اللاوعي المغربي، أي كون التمدد الأخطبوطي للنخبة السياسية يؤكد بأنها لا تعمل على تدبير وتسيير الشأن العام بإشاراك كل الفاعلين والفئات وحتى الشعب ذاته، بل تموت حبا في إنتاج الصراع الطائفي (النخبوي) داخل المجتمع، بادعائها بأنها هي النخبة "المختارة"، الرائدة، المفضلة إلخ. وقد يكون هذا التمثل الخاطئ لهذه الفئة سببا من بين أسباب "تفريخ" أحزاب سياسية عديدة في المغرب، ذلك أن هذه الكثرة لا تعبر فقط، أو بالضرورة، على "تقدم" الديمقراطية المغربية، بقدر ما تعبر من جهة على اللهث وراء السلطة بأي ثمن كان وبانعدام الحوار والتعاون بين الأحزاب، لبناء تكثلات حزبية تنصهر في حزب واحد، لتصبح الساحة السياسية صحية: يمين، وسط، يسار. على العكس من ذلك، وفي حمى وعمى التسابق على كراسي السلطة، لا تجد الأحزاب السياسية أي حرج في التحالف مع أحزاب تتناقض معها أيديولوجيا وثقافيا ومرجعيا.

 

كانت هذه إطلالة سريعة ومقتضبة على جملة من القضايا السياسية في فكر سبيلا، تذكرنا بمسؤوليتنا الثقافية والمجتمعية ونحن على أبواب انتخابات تشريعية جديدة بالمغرب. فخيوط الحملات الإنتخابية معقدة للغاية، نكتفي في غالب الأحيان بـ "وعي" قشورها، ولا ننتبه إلى الجذور التاريخية والثقافية والأيديولوجية لفهمها وربطها بالواقع الفعلي للناس. نجحت النخبة السياسية بالمغرب في إقراف المواطن من السياسية، وهذا الإقراف مرغوب فيه، إن على وعي أو دون وعي، ليستفرد السياسي بأخذ القرارات وفرضها على المواطن. والمطلوب من المثقف أن يعري على مواطن الخلل، وألا يسقط هو نفسه إما في اللامبالات بالشأن العام في أحسن الظروف، أو القرف من السياسة والعمل من أجل الصالح العام في أسوء الأحوال. على المفكر المتنور بالخصوص مساعدة الجماهير العريضة، ليس بالقول فقط، بل بالعمل في الميدان من أجل تحمل مسؤوليتها أمام ضميرها وأمام مصلحتها الفردية والجماعية. فـ "الهيصة" الإنتخابية مؤسسة من بين ما هي مؤسسة عليه على استعمال المال "الحرام"، على الرغم من أن الملك قد نهى عنه، -قد نقول أن هذا المال أقوى من الملك أثناء الحملات الإنتخابية-، وعلى تجبر وعجرفة النخبة السياسية وتغييبها للمواطن، وبالتالي لمصالحه من "مشاريعها المجتمعية" وتسابقها فيما بينها على مصالحها ومراكزها وأوكارها دون مراعات لا تاريخية ولا دينية ولا أخلاقية، ما دامت تعتبر نفسها أقدس من الدين نفسه.

2016-10-03