الأربعاء 8/10/1445 هـ الموافق 17/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الأقوياء لا يبكون....مجد مالك خضر

 كان الناس قد رحلوا من المقبرة، ولم يبقَ فيها إلا أنا وأبي لم أتوقف عن البكاء منذُ الأمس، وكانت الدموع تنهمرُ من عيوني بصمتٍ أمام قبرِ أُمي التي رحلتْ عن حياتي، وتركتني وحيدةً أواجه الحياة بمفردي، جلس أبي على الأرضِ ونظر لعيوني مباشرةً، ومسح بيديه الدمعات التي تساقطت منهما، وقال: لا تحزني على أمكِ فقد ارتاحتْ من ألم المرض، وكوني فتاةً قوية... وتذكري دائمًا أنْ الأقوياءَ لا يبكون.

مضت الأيام مسرعة بعد وفاةِ أُمي، وكانت ذكراها هي الشيء الوحيد الذي يرافقني في حياتي، وعندما وصلتُ للثانيةِ عشر من عمري كان أبي يقولُ لي دائمًا، لقد أصبحتِ فتاةً كبيرة، ويجبُ أنْ تعتمدي على نفسكِ حتى تكون أمكِ راضيةً عنكِ، كانت كلماته تمنحني قليلًا من الأمل الذي رحل مع رحيل أميّ.

في يومٍ من الأيام أخذني أبيّ لزيارة عائلةٍ، وقال بأنه سيعرفني على سيدةٍ جميلةٍ تحبُ الأطفال، ووصلنا إلى بيتِ تلك العائلة، واستقبلنا رجلٌ عجوزٌ طلب منا الجلوس في غرفةِ الضيوف، وبعد دقائقٍ قليلة شاهدنا سيدةً تحملُ أكوابًا من الشاي تتجهُ نحونا، ونظرتَ لي بنظرةٍ لطيفةٍ مع ابتسامةٍ رقيقةٍ، وكانت هذه ابتسامتها الأولى لي، والتي لم تتكرر إلا بعد وقتٍ طويل جدًا، فقال أبي: ما رأيكِ بها؟ ستكون أُمكِ و... قاطعته بغضبٍ وبدء الدمعُ يتجمعُ في عيني، وقلتُ بصوتٍ مرتفعٍ: هي ليست أميّ.. لي أمٌ واحدةٌ فقط، وانتهى ذلك اليوم على غير المتوقع، وكان الغضبُ من تصرفي هذا يعلو وجوه الجميع.

تزوج أبي تلك السيدة وأصبحت زوجةً له، وأمًا لي كما أراد أبي تسميتها، وكانت تظهرُ تعاطفاً معي أمامه، ولكن بعد خروجه من المنزل تصرخُ بوجهي، وتكيلُ عليَّ الشتائم بسببٍ ودون سبب، وصارتْ كلّما تجدُ الفُرصةً مناسبةً تقذفُ بي خارج المنزل، وتتركني تحت أشعة الشمس، وأمطار الشتاء وفي كل مرةٍ يسألها أبي عني، تقولُ له: (بنتك بدها تظلّ تطلع برا البيت شوف طريقة تربيها فيها أنا تعبتْ منها)، وفي كل مرةٍ تخبره هذا الكلام يصرخُ في وجهي، ويضربني، وكانت سعيدةً بأسلوبه القاسي معي، حتى رُزقتْ بأختيّ تلك الفتاة الصغيرة الجميلة، والتي غيرت الكثير من الأحداث، ولكن معاملة زوجة أبي لي لم تتغير.

كانت تمنعني من الاقتراب من أختيّ الصغيرة، أو حتى مجرد النظر لها وكانت تقولُ دائمًا أخلاقكِ، وتربيتك غير المؤدبة يجب ألا تنتقلا لابنتي، وهي ليست أُختكِ، وظلّتْ علاقتي مع زوجة أبي على هذا المنوال، وكبرتُ مع مرور السنوات ولم تتغير تصرفاتها معي، وكانت أختي الصغيرة تحاولُ اللعب معي دائمًا، ولكنها كانت تخافُ من غضب أمها، وصراخها المستمر عندما تأمرها بالابتعادِ عنيّ.

وفي يومٍ من الأيام كنتُ أذاكرُ دروسي في غرفتي، وكانت زوجة أبي في المطبخ تعد الطعام، ولاحظتُ وقوف أختي الصغيرة بجانبي.. أرادتْ أن أُشاهدَ لعبتها الجميلة، وعندما كنتُ أبتسمُ مع أختي، سمعتُ صوت زوجة أبي تصرخُ أثناء وقوفها على بابِ غرفتيّ وتقول: أنتِ لن ترتاحي حتى تخربي أخلاق ابنتيّ، وطلبت من أختي الصغيرة مغادرة الغرفة، وأكملتْ كلامها لي، وقالت: عقابًا لكِ أنتِ محرومةٌ من تناول طعام الغداء معنا، وسوف تأكلين طعامك في غرفتكِ وحدكِ.

عندما عادت زوجة أبي إلى المطبخ كانت قد تركت مقلاةً مليئةً بالزيت على النار، وكان زيتها يغلي ولم تنتبه لها؛ وعندما أرادت أخذَ ملعقة من فوق الغاز وقعت المقلاة مما أدى إلى انتشارِ الزيت على وجهها، ويديها وصارتْ تصرخُ من الألم، وكانت تلك المرة الأولى منذُ وقتٍ طويلٍ جدًا تنادي فيه باسميّ، بعد أن كانت تستخدمُ لمناداةِ أبشع، وأثقل الشتائم، والألقاب السيئة.

خرجتُ من غرفتي مسرعةً ووجدتُ زوجة أبي تجلس على الأرض، وتصرخُ من شدةِ الألم، والزيتُ الحارق ما زال يغطي يديها، ووجهها.. نظرتْ لي بضعفٍ شديد، لم تكن هكذا من قبل ضعيفةً وتحتاجُ المساعدة مني، وقمتُ بغسل يديها، ووجهها بماءٍ باردٍ، ومن ثم أحضرتُ ثلجًا حتى يخفف عليها ألم الحروق.. كانت تبكي بصوتٍ منخفض، وكأنها تريدُ أن تخفي انكسارها أمامي، وعندها ابتسمتْ لي لثاني مرةٍ في حياتها، ولكن كان بكاؤها من الألم يغلبها أحياناً، فقلتُ لها: عندما توفيت أمي كنتُ أبكي مثلكِ، ولكن قال لي أبي جُملةً طلب مني تذكرها دائمًا، فتوقفي عن البكاء؛ لأن الأقوياء لا يبكون.

مجد مالك خضر

2016-10-04