الثلاثاء 11/10/1444 هـ الموافق 02/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
أمُّ الإثنين'الجزء الاول'....د. حاتم عيد خوري

إنتهزت سميرة فرصة غياب والدتها، فتوجّهت الى المختبر الطبيّ لإستلام نتائج الفحص الذي كانت، قبل ايام قليلة، قد أجرتْه سرًّا هناك. عندما قال لها الطبيب المسؤول الذي لم يكن يعرفها: "مبروك، انتِ حامل"، كادت تصرخ: "بس انا مش متزوجة". لكنّها تمالكت نفسها لتقول له: "شكرا"، ولتغادر المختبر على عجل، مطلقةً العنان لدموعٍ غزيرة إنهمرت من مآقيها. غير أنّ خشيتها من افتضاح أمرها، جعلتْها تمسح دموعها بسرعة، وتستعين بنظارتها الشمسية الغامقة لإخفاء إحمرار عينيها.

عادت سميرة مسرعةً الى البيت. حمدت الله أنّ والدتها لم ترجع بعد. هاتفت مروان خطيبها وشريكها في فعلتها، طالبة منه الحضور لامر خطير. أثار طلبُها شكوكَ مروان، فحضر للتوّ ليجدَها غارقةً في دموعها. لكن هيهات لتلك الدموع أنْ تُطفىء النار المشتعلة في قلبها، او أنْ تمحو الغلطة، أو الجريمة على حد تعبيرها، التي ارتكبتْها بحقِ نفسِها وبحق والدتها المحبَّة المتفانية التي اولتْها كاملَ ثقتها، والتي رأت بها الاملَ الوحيدَ الذي تعيش من اجله، بعدما ترمّلت في سنٍّ مبكرة فقرّرت ان تكرّس كلَّ حياتها، لتربية إبنتها وحيدتها سميرة.  أدرك مروان دقّة الموقف، كما ادرك ان تبادل الاتهامات لن يجديهما نفعا، فاكّد لسميرة أنه يتحمل المسؤولية كاملة، وأنه يحبّها ولن يتخلى عنها، وبالتالي سيعمل على تقديم موعد العرس بحجة إستدعائه للعمل خارج البلاد. حديثُه هذا هدّأ من روع سميرة، فوافقت أن تُبقي أمر حَبَلِها سرًّا بينهما وان لا تُفشيه حتى لوالدتها.

تمّت مراسيمُ العرس في اجواء بهيجة. كادت ام سميرة تطير فرحا بهذه المناسبة السعيدة التي تطلعت اليها طيلة حياتها. كانت دموع الفرح تتساقط من عينيها مدرارا، سيما اثناء طلعة العروس. لقد إنهالت العروس على يديّ أمّها تقبيلا، وبدت كأنها تغسلهما بدموعها. ظنّت امُّ سميرة وظنّ معها آخرون، أنّ سميرة توقِّعُ بدموعِها تلك شهادةَ تقديرها لوالدتها وحُبّها لها وتعلّقها بها. لكنهم لم يدركوا أنّ دموع سميرة كانت ايضا مدادا صنَعتْه من قطراتِ ندمٍ حارق واعتذارٍ أخرس،  لتكتبَ به صكَّ طلبِ غفرانٍ من والدتها.

سافر العروسان لشهر عسلٍ قصير، لكنَّ شهرهما  بات مُطعَّما بعلقمٍ افرزَهُ سؤالٌ مِلحاحٌ فرضَ نفسَه على سميرة، فاضحت تتساءل في كل لحظة: "هل يمكنها الاستمرار في إخفاء هذا السر الرهيب عن والدتها؟ والى متى؟". لفد وجدت سميرة جوابا قاطعا عن سؤالها هذا، عندما تذكرت المثلَ القرويَّ المعروف "ثلاثة اشياء لا يمكن إخفاؤها: الحُبّ والحَبَل والركوب على الجَمل"، فعزمت أمرها على إفشاء السرّ لوالدتها، مهما كان مؤلما، سيما وان سميرة كانت تتوسم بوالدتها رباطة الجأش وحكمة الشيوخ وعزيمة الشباب وحسن التصرف. ومع ذلك، فلقد وقع الخبر على ام سميرة وقوع الصاعقة. كادت تفقد إتزانها المعهود، وتخرج عن عادتها واسلوب تربيتها، فتلجأ الى العنف وتنهال على ابنتها ضربا. لكنها سرعان ما تمالكت نفسها، عندما تذكرت ان العنفَ تصرفٌ حيوانيّ مرفوضٌ مبداً وممارسةً، فضلا عن كونه لا  يُجدي نفعا، كما تذكرتْ ايضا ان مروان ابا الجنين قد اصبح زوجا شرعيا لابنتها. كتمتْ امُّ سميرة غضَبَها الشديد وهي تردد "غُلب وسُترة ولا غُلب وفضيحة" و "خلّيها في القلب تجرح ولا تطلع برّه وتفضخ"، لكنها ما لبثت أنْ تابعت حوارَها الذاتي، قائلة بألمِ المغلوبِ على أمره: "بَسْ يا حسرتي، من وين السترة؟!!". إذ كيف يمكن التستر على فضيحةِ ولادةِ طفلٍ متكامل بعد أقلّ من سبعة اشهر من زواج والديه، سيما أمام الجارات والعمّات والخالات والصديقات "اللدودات"؟ اليست هذه هي الفضيحة بعينها؟

هامت امّ سميرة في افكارها تبحث عن حل للخروج من هذه الورطة الصعبة المحرجة. رفضت فكرة الاجهاض، معتبرة إيّاها جريمةَ قتلٍ منافيةً لكل القيم والمباديء والاخلاق، فضلا عن إسقاطاتها السلبية على صحة إبنتها وقدرتها على الإنجاب مستقبلا. إنّ قضية صحة سميرة وسعادتها، أعادت امَّ سميرة الى عقلانيتها واتزانها، باعتبار هذه القضية خطًّا احمر لا يمكن تجاوزه مهما كانت الظروف، فتحركت من جديد مشاعرُ الامومة  في قلب أم سميرة، وتدفقت عواطفُها دموعا جرفت ما تراكم في صدرها مِن غضبٍ واستنكار وعتاب، وامتدَّ ساعداها بصورة عفوية لإحتضان إبنتها وكفكفةِ دموعها وتخفيف لوعتها والتشاور معها ومع زوجها مروان. إتفق الثلاثة على حلٍّ إقتضى إستشارةَ الست وداد العاملة الاجتماعية، المعروفة بإنسانيتها ولطفها ومهنيتها وعمق السرّ لديها، ممّا جعل الناسَ يثقون بها ويأتمنونها على أسرارهم.

تجنّدت الست وداد كعادتها، لهذه المهمة ايضا، بينما أخذت امُّ سميرة تمهد الطريق لتنفيذ خطة الحلّ بصورة عملية، مستهلِّةً ذلك بمفاجئة تقديم "سدر" كنافة لتضييف جاراتها اللواتي لبّين دعوتَها وحضرن الى بيتها في زيارةٍ تندرجُ في إطار الصباحيّات الدورية التي تجمِّعُ نسوةَ الحي بين فينة واخرى. إنتظرت امُّ سميرة بفارغ الصبر سؤالا عن سبب تقديم الكنافة، فابتسمت على عرض فمها، لتخبرهم ان ابنتها "سميرة حامل ما شاء الله، منذ نهاية الشهر الاول لزواجها"، كما لم تنسَ ايضا ان تحدثهم عن "السعادة" الغامرة التي اكتنفتها عندما سمعت بهذا الخبر المفرح. كان هذا هو "البيان" الاول الذي اصدرته امُّ سميرة بهذا الصدد. اما "البيان" الثاني فلقد كان في إطار صباحية اخرى عُقدت في بيت ام مرزوق، حيث بدت على وجه ام سميرة علاماتُ القلق التي افتعلتها تمهيدا لتصريحها بان "سميرة حبيبتي، تجابه صعوبات في حملها". تتالت "البيانات" الكاذبة المضخَّمة بنسبة طردية مع نمو بطن سميرة، وكل منها يشير الى تأزم جديد إضافي مزعومٍ في وضعها.... وهكذا عندما اكتملت فترة الحمل ونُقلت سميرة الى مستشفى بَعيدٍ كانت قد اختارته لها الست وداد العاملة الاجتماعية ، حيث ولدت بالسلامة ابنا معافى، كانت الاجواء في القرية مهيّأةً لاستقبال خبر إجهاض سميرة اي تماما كما خطّطت والدتُها. هذا "الإنجاز" الذي حققته ام سميرة بالتعاون مع الست وداد وبموافقة الوالدين سميرة ومروان، فَقَدَ قيمتَه نهائيا في عين سميرة،  حينما حانَ موعد دفع الثمن الباهظ جدا جدا، وهو تسليم المولود للست وداد كي تنقله الى العائلة التي تبنّتْه رسميا وقانونيا، وحضرت الى المستشفى لإستلامه.

طلبت سميرة إحضارَ الطفل اليها كي تُرضعَه للمرة الاخيرة. تناولتْه من يد الممرضة بيدين مرتجفتين. تأملتْه مليّا فلاحظت الشامة (الوحمة كما يسميها البعض) المتربعة فوق طرف حاجبه الايمن. سحرتْها سحنتُه. حضنتْه بكل جوارحها. أذابتْها حركةُ شفتيه وكأنه يبتسم لها. هزّتْها حتى الاعماق نظرتُه الناعسة، فبدا كأنه يعاتبها قائلا لها: "أتتنازلين عني يا امي؟! أتتركيني فعلا؟!!". شعرت وكأن سيفا يخترق قلبها.انفجرت باكيةً فأبْكت كلَّ من حولها، سيما عندما سمعوها تولول ناحبةً: "يمّا حبيبي"، معلنةً  انها لن تتنازل عنه ولن تتركه رغم كل الاتفاقيات الموقّعة ومهما كان الثمن.

ويبقى السؤال:"هل إستطاعت سميرة تحقيق مطلبها والاحتفاظ بإبنها؟". ساتحدثُ عن هذا في الاسبوع القادم.

[email protected]/10/2016)

2016-10-13