إنهم يطفئون الشمس
انتفض جسده النحيل حين نادى مقدم الحفل اسمه كصاحب المركز الأول في مسابقة القصة القصيرة عن قصة " الحب في الزمن الخطأ" . تعثرت قدمه ؛ كاد أن يسقط وهو يصعد لتسلم شهادة التقدير ؛ التصفيق الحاد كاد أن يصم أذنه ؛ حيا الحضور بانحناءة ؛ وهو لا يكاد يرى من " فلاشات الكاميرات ". ود لو تحمله الريح ليعود لزوجته ؛ دخل الشقة وهو ينادي وعيناه تجوب الأرجاء ؛ تأكد من عدم وجودها ؛ ألقى بجسده على كرسي بالصالة ؛ وجد على " الطرابيزة" رسالة : " أنا عند أبي ؛ حين تشعر أن لك بيت وزوجة وابنة سأعود " . حملق قليلا بشهادة التقدير ؛ غادر شقته لصومعته التي يقضي بها جل وقته؛ محل صغير لإصلاح أجهزة الكمبيوتر ؛ فتح جهازه الخاص بدأ يرد على التهنئات والتعليقات التي تبارك هذا الفوز المستحق ؛فجأة ترك " الماوس " ؛ ألقى بنظارة القراءة على المكتب الصغير؛ جال ببصره في أرجاء المحل ؛ تعثر بجثث لأجهزة قديمة تركها أصحابها من سنوات فلم يعودوا بحاجة لها؛ فجوال صيني يغنيهم عنها. عاد لشقته مثقلا بهمومه ؛ الأيام رتيبة والقلم لم يعد يطاوعه ؛ غلبه الشوق لرؤية ابنته ؛ دق الجرس فتح حموه . - عايز إيه؟ - أشوف بنتي. - أنت فاكر إن الأب هو اللي خلف؟ الأب هو اللي ربى ؛ اسمع يا بني : أنا جوّزتك بنتي لأن المرحوم والدك صديق عمري هو اللي طلبها ؛ كنت آمل فيك خيرا ؛ مهندس كمبيوتر والمستقبل في انتظارك ! وأنت خيّبت نفسك ؛ كفى بالمرء عارا أن يضيّع من يعول . على السلم عاودته فكرة الانتحار ؛ إن كنت لم أستطع العيش كما أريد ؛ يجب أن أموت كما أريد ؛ لن أقطع شريان دمي ؛ أكره الدماء ؛ ولن أتناول ُسماً أكره التلوي والألم ؛ رصاصة واحدة تنهي هذا العبث ؛ سأقترض ثمن المسدس من أخي ؛ قال لي تاجر السلاح الشهر الماضي: أن أصغر مسدس بثلاثة آلاف . في محل صغير لبيع الأدوات الكهربائية استقبله أخوه بحفاوة وترحيب قطعهما زبون يسأل عن سعر الدولار اليوم . يا باشا لك بأعلى سعر ؛ فتح مخزنا للأسلاك الكهربائية ؛ أخرج منه آلاف الجنيهات ؛ قام الرجل بِعَدّها ؛ ابتسم وترك الدولارات وانصرف . تعرف يا فهمي من هذا؟ لا. إنه سائق مدير البنك ؛ كل زبائني الذين يغيرون العملة عندي موظفو بنوك . معقول ؟ والله ، دا موضوع يطول شرحه ؛ نسيت أبارك لك على شهادة التقدير ؛ أنا مدين لقصتك بسعادتي يا فهمي. قصتي أنا ؟ نعم؛ فيوم قمت بنشرها على صفحتك أعجبني تعليق صديقة لك ؛ طلبت صداقتها ؛ تنوعت المحادثات بيننا ؛ عرفت أنها سورية مات زوجها وتريد القدوم لمصر وتحتاج لرجل يتزوجها من أجل الإقامة ؛ تزوجتها واستأجرت لها شقة وفتحت لها محل للأدوات الكهربائية ؛ كم هي رائعة في تغيير العملات وجلب الزبائن . فهمي ، أما زالت زوجتك ترفض العودة؟ نعم . رحم الله والدك ؛ أتذكر حين سألنا ما إعراب " وكان أبوهما صالحا" ؟ كنت بالصف الأول الإعدادي وفريدة بالصف السادس وأنت بالرابع ؛ وعجزنا عن إعرابها وأعربتها أنت إعرابا بهر أباك؟ أما زال الضمير في كلمة " أبوهما في محل جر؟ هههههههههههه ! لا. لقد أصبحت كل الضمائر يا فايز في محل رفع . أتذكر يا فهمي حين أعطانا والدنا نسخة من رواية " ماجدولين" على أن نعود له بعد يومين وقد قام كل منا بإعداد ملخص ما فهمه ؛ لذتُ بالصمت أنا وأختك وجلست أنت تروي " تحت ظلال الزيزفون " وكيف أبدع المنفلوطي في الترجمة ؟يومها احتضنك أبوك وقال: سيكون لك شأن عظيم , ليته يعودليرى... وقف فهمي فجأة وهو يقول بصوت متقطع : رحم الله أبي . ممكن تسلفني ثلاثة آلاف جنيه؟ حاضر تفضل. وضعها بجيبه ؛ حين صار على بعد خطوات ناداه أخوه : فهمي هذه ليست سلفة بل هدية مني لك .
" كنت أتمنى أن أرى ابنتي قبل أن أموت" ؛ تحسس النقود وهو بين الحزن والسعادة طرق باب تاجر السلاح ؛ لقد جهزت لك المبلغ ؛ تناول النقود؛ عدّها ؛ردها له قائلا : دا كان زمان الدولار ارتفع وأصغر مسدس النهارده بستة آلاف .
ألقى جسده بأول حافلة بالطريق ؛ ضحك عاليا: حتى الموت أضحى غاليا؟؟ طال وقوف الحافلة ؛ يبدو أن هناك شيء !
السيارات مكدسة ؛ الشارع لا موضع به لقدم ؛ لجنة مرور وعدد لا حصر له من الجنود يفرضون طوقا أمنيا ويفتشون الناس والسيارات تفتيشا ذاتيا ؛ تيقن أن الانتظار سيطول ؛ ترجّل ؛ قارب الزحام أن يتحول لفوضى وسخط ؛ والعميد يجلس على طاولة عليها كوب من الشاي وجوال وجهاز لاسيلكي وسلاحه الميري وبيده جوال آخر يتحدث فيه بصوت عالٍ تاركا لعساكره مهمة التفتيش .
لمعت الفكرة برأسه ؛ انقض على السلاح ؛ أخرجه من جرابه بخفة وقبل أن يصوبه لرأسه اخترق الرصاص جسده من كل صوب ؛ طاشت الرصاصة من يده وهو يسقط مضرجا بدمه؛ مرت بجوار كتف العميد؛ أسقطت النسر والنجوم النحاسية ؛ سارع الواقفون بالتقاطها ووضعها على كتف العميد وهم يهتفون له ؛ ومراسلو الصحف يلتقطون له الصور وهو يضع بيادته فوق الجسد النحيل ويشير للناس بعلامة النصر وهم يهتفون بسقوط الإرهاب .