السبت 15/10/1444 هـ الموافق 06/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
مات ولم يمت .....د.حاتم عيد خوري

شهدت السنةُ الحاليةُ ذكرى مرور ثلاثين سنة على وفاة الدكتور سامي مرعي(1940-1986) من عرعره. لن أتحدث الان عن سامي الشخصية التربوية اللامعة والمفكر المبدع والمحاضر المفوّه والعَلَم الاجتماعي المميَّز، إنما عن سامي الانسان الصديق.

تعارفنا في مطلع الستّينات عندما كنّا طالبين في الجامعة العبرية في القدس، يدرسان في كليتين مختلفتين. إلتقينا فقط في إطار الاجتماعات التي كان الطلاب العرب يعقدونها بين حين وآخر. بقيت معرفتُنا ببعضنا رسميةً سطحية ثم ما لبثت ان تحولت الى صداقةٍ عشيةَ إنهاء كلٍّ منّا دراستَه لِلَّقلب الجامعي الاول. هذا التحوّل لم يحدث تدريجيا، إنّما كان طفرةً أملتْها ظروفٌ شخصيةٌ طارئة مؤلمة.

لقد حدث هذا في صيف 1964، وبالذات أثناء تقدمي لامتحانات ألبكالوريوس (B.Sc) في موضوع علم الحياة(البيولوجيا)، إذ تُوفيت شقيقتي في حادث مروع. كانت رحمها الله في مقتبل العمر وأمّا لطفلين أصغرهما رضيعة. هزّني الحادث من الاعماق وكاد يضعضع قوةَ إصراري، ولو مرحليا، على متابعة المشوار الدراسي...

عدتُ الى القدس حزينا كسيرَ الخاطر مُتعَبا  أعيشُ غربتين: غربةَ بُعدٍ جغرافيّ عن الاهل في فسوطه وغربةً نفسيةً عن الدراسة، ناهيك عن إمتحاناتٍ نهائيةٍ مصيرية. وهنا أطلّ سامي وكان أولَ طالبٍ عربي يأتي اليّ معزِّيا متعاطفا داعما. كبُر سامي في عينيّ ثم ما لبث أن تعمْلق وانا اسمعُه يقول لي: "شِدّ حيلك يا حاتم، مدارسنا العربية تنتظرك". لم يقصد سامي قطعا مجاملتي او الإطراء الشخصي، إنما كان يشير بهذا الى اهمية موضوع البيولوجيا وضرورة تربعه من خلالي، باعتباري أول طالب عربي يدرس هذا الموضوع، على خارطة التعليم العربي في بلادنا. وهكذا وإن كان سامي يقدّر الفرد، إلا انّ بُعد نظرِه جعل إهتمامَه لا يقف عند الفرد بل يتخطاه الى مصلحة المجموع.

لقد اضحت زيارةُ التعزيةِ تلك، بجوهرِها الانساني وبمراميها التربوية التعليمية الانتمائية، حجرَ الزاوية في صرح صداقتنا والخطوةَ الاولى في المشوار الطويل الذي مشيناه سوية على امتداد ستة عشر عاما متواصلا. عمِلْنا سوية في الكلية العربية للتربية(دار المعلمين العرب آنذاك) في حيفا. سكنّا في ذات الغرفة في دار المعلمين، مدةَ سنتين متواصلتين. تبادلنا الآراء، تناقشنا في الافكار، تقاسمنا المسرّاتِ والمتاعبَ، وتهادت بنا سيارة سامي الصغيرة(فيات 850) في بحر العزوبية الممتد بين القدس وحيفا وعكا والناصرة وعرعره وفسوطه، لترسو ونرسو معها على شاطيء الأمان في عكا اولا، وفي حيفا ثانيا، حيث ترجّل كلٌّ منا ليجد نصفَه الثاني...النصفَ المكمّل....

وهكذا اصبح الاثنان اربعة، وبالدعائم الاربع زادت علاقتُنا اتزانا وثبوتا واستمرارية رغما عن "المتوسط" بطوله و"الاطلنطي" بعرضه، وذلك خلال تواجد سامي في الولايات المتحدة الامريكية، لإعداد رسالة الدكتوراة، وفيما بعد ايضا لمهمات اكاديمية اخرى. فحلَّت الكلمةُ المكتوبةُ مكانَ الكلمة المسموعة واصبحت الرسائلُ الخطّيّة جسرا ممتدا فوق كمٍّ كبيرٍ من خطوط الطول، واضحت الكتابة امرا مفروغا منه. تبادلنا الرسائل بانتظام، كنتُ احتفظ برسائله فتجمّعت لديّ باقةٌ كبيرةٌ منها  وما زلت أحتفظ بها كنزا ثمينا. ففي احدى تلك الرسائل كتب يقول: "...أتعلمُ ان مدارسنا في قرانا الحبيبة تمتاز عن مدارس امريكية كثيرة حتى في أحياء غنية؟ يبدو انّ كثرة الحِيل التربوية وآلية العلاقات الانسانية والتكنولوجيا اللانسانية قد غزت الصف..." (17/11/1968).

إن سامي بمدى ما ثمَّن دورَ الآلة عاليا وبمدى ما اولى من إهتمامٍ بالتعليم التكنولوجي، تنظيرا من خلال ابحاثه التربوية وممارسةً من خلال دعمه لصندوق تطوير التعليم التكنولوجي في الوسط العربي، اراد ان لا تصبح علاقاتُنا الانسانيةُ آليّةً باردةً وانسانيتُنا تكنولوجيةً جافةً وعواطفُنا مقيَّدةً ومعتقلة، فيكتب الي بتاريخ 5 اكتوبر1971 : "...ثرتُ على العاطفة، ولكن ثورتي سرعان ما هدأت وتلاشت لانني لست من مقدّسي العقل وحده وافضِّل ان اكون عاطفيا محبّا لمن احبُّ من الناس، على ان اكون عقلانيا غير محبٍّ لأحدٍ بل ميت العاطفة".

أجل، وعندما يحبُّ سامي يصبح محبّا ويرقى بالصداقة الى اسمى معانيها. فالصداقة عون: "وكعادتنا فنحن نعين أحدنا الاخر في الحصول على من نحب..."(15 اكتوبر 1969).والصداقة عطاء لا يستلزم الشكر: "اردتُ ان اشكرك ولكن صوتا عميقا شق طريقه من اعماقي قائلا لم تتعودوا – يا هؤلاء - ان يشكر احدُكم الاخر. قلتُ آمين وحبست نفسي عن الشكر لابقيه في اعماقي"(14 حزيران 1969)، والصداقة أخوّة: "اخي الذي لم تلده امي، بل ولدته أمٌّ ثانية لي"(5 اكتوبر 1971). وقد تتجاوز الصداقة حدود الاخوّة لتصبح جزءا من الذات: "أطلتُ عليك بالحديث عن نفسي. لكن لمن اتحدث عن نفسي إن لم اتحدث عنها لجزئها الآخر" (2 شباط 1970). ويلتزم سامي بهذا المبدأ فيحدّثُ بعضًا من نفسه عن نفسه، بصراحةٍ تبلغ حدَّ التواضع، والادلة على ذلك كثيرة، واكتفي باثنين منها:

"بعد أن اسميتُ ابني الصغير سامي، كتب الي يوم 20 ايار 1977: "...ثق باخوّتنا انني احسستُ انه اصبح لاسمي معنى آخر، له امتداد، له جوهر اضافي ولكنه ليس ثانويا...ألم يكفك واحد ليثقل على عواطفك ومشاركتك الوجدانية...".
"...فلا تقلق يا اخي عليّ. الان لا وجع راس ولا وجع امتحانات، فكل شيء انتهى ما عدا الدفاع الشفوي عن الاطروحة...وقد اوقع رسالتي القادمة اليك بادئا باللقب ...ولكن لعن الله كل الالقاب فهي جميعا لا تساوي كلمة: اخوك سامي مرعي"(17 آب 1970).

لقد كان نجاح سامي بالنسبة لي أمرا متوقَّعا، إذ فضلا عن طاقاته العقلية والفكرية كان يؤمن بالعمل الجاد الدؤوب: "دائما أقول لنفسي: الكتاب الكتاب – النجاح النجاح وطبعا ابذلُ قصارى جهدي لاصل لهدفي...والباقي على الله"(2 شباط 1970). كذلك، خاطب سامي نفسَه من خلالي قائلا: "المهم أنك يجب ان تبرهن انك تستحق السفر والاغتراب، لنفسِك اولا ولأهلك واصدقائك ثانيا – ولكن ولا يهمك – إحنا الفلاحين"(22 تشرين الاول 1968). إن سامي وإن لم يعرف الفلاحة ممارسة فلقد عرفها انتماء. الفلاحة ارض والارض هي جذورنا في ارضنا، الجذور هي صمود والصمود مدعاة للاعتزاز.

ما أن انهى سامي دراستَه للدكتوراة  في جامعة وسكنسين حتى إستلمَ دعوةً من المعهد الوطني العالمي للبحث العلمي في البرازيل وبالتنسيق مع الجامعة، يدعونه لان يخدم فترة من الزمن، مستشارا كبيرا  للبحث العلمي التربوي السيكولوجي، فكتب الي بتاريخ 5/10/1971 : "كنتُ قد قلتُ لك انني قد اسافر الى البرازيل وفعلا ساسافر في شهر 11 / 1970 وسامكث هناك حتى شهر حزيران 1971 ولكن الاهل في عرعره راحوا يتخبطون في ظنون ومخاوف لا ارى لها مبررا بالمرة...واغلب الظن انهم يخافون ان ابقى هناك وان لا اعود الى الوطن...غريبٌ امرهم... كأنهم لا يعرفون انني لو وضعوا مليون دولار في شمالي والامريكيتين في يميني لما بقيتُ هنا لان خرائطهم جوفاء لا تقبل عرعره وفسوطه ان تكونا مسجلتين فيها...اين التين والزيتون وأين الاهل والاخوة والاصدقاء واين التراب ذو الرائحة التي لا تُستبدل باي شيء...". اجل يا سامي، التراب ذو الرائحة التي لا تُسْتبْدل بأي شيء سيما وقد اصبحتَ يا عزيزي جزءا لا يتجزأ من هذا التراب.

العودة والوطن لدى سامي تعبيران متكاملان، فالوطن لن يكون إلا بالعائدين اليه والمقيمين فيه. إن العودة لن تكون عودة، إن لم تكن للوطن، والعودة للوطن ينبغي ان تكون فاعلةً تجسّدُ تفاعلَ العائد مع قضايا ابناء وطنه: "وتسألني يا حاتم عن العودة ولست ادري متى ساعود، وكل الذي ادريه هو انني ساعود الى هناك الى الضيعتين(عرعره وفسوطه) وساضمُّ أهلَهما الى صدري..... وسنلتقي وسنتحدث...وستتخذ نفسيتي التئاما في صمودك وقلقي متنفَّسا في نكتتك"(7 آب 1969)..

نعم لقد احبَّ سامي النكتة وتميَّز بتذوقها والتفاعل معهىا. ان النكتة التي كان سامي يطرب لها، لا بل "يفرقع" حسب تعبيره، هي النكتة "الملثمة" او بعبارة اخرى الرمزية الهادفة التي تاتي في سياق مناسب لتؤدي رسالة معينة، مثلا: سمعت سامي يبدي تحفظا من(بل يهاجم) بعض العاملين العرب في مجال التربية والتعليم الذين يهملون واجباتِهم ويستخفّون بمهنتهم ويقولون في ذات الوقت، بان هناك سياسة تجهيل مرسومة، في حين يصبحون هم انفسهم اداةً لتنفيذ هذه السياسة. وعندما احتدم الجدلُ مع احدهم، قرّر سامي ان يتّخذ من النكتة متنفسا، فمالَ نحوي وقال: "إحكيلو بحياة ابوك قصة فهيم والدكتور". هذه القصة كنّا قد سمعناها سوية  في صيف 1978 وذلك في سهرة عائلية شملت ايضا المرحوم الدكتور موسى كريني وصديقا مهندسا متزوجا من طبيبة تعمل في صندوق المرضى(كوبات حوليم). القصة رواها المهندس مداعبةً لزوجته. وها انا اروي الان تلك القصة تحية لروحيّ سامي وموسى، مع الاعتذار الشديد لاطباء صندوق المرضى:

أتى فهيم الى عيادة صندوق المرضى. عاينَه الطبيبُ واخبره ان وضعَه الصحيّ صعب جدا وأنه سيموت خلال شهر واحد. إرتعد فهيم خوفا وغادر العيادة متوجّها الى طبيب خاص حيث فُحص وعولج بسهولة. وتشاء الظروف ان يخرج فهيم، وقد استردَّ عافيتَه تماما، للتنزه في حديقة عامة. وهناك التقى بطبيب صندوق المرضى إيّاه. ذُهل الاثنان سيما الطبيب، ودار بينها الحوار التالي:

الطبيب: ألست انت فهيم؟

فهيم: نعم يا دكتور.

الطبيب: وبعدك طيّب؟!

فهيم: لا، انا ميت يا دكتور

الطبيب(باستغراب شديد): ميت!!

فهيم: نعم يا دكتور، أنا ميت وأعيش في العالم الآخر.

الطبيب: كيف الوضع في العالم الآخَر؟

فهيم(بهدوء): العالم الآخر يا دكتور مقسَّم الى قطاعات مختلفة باختلاف المهن. فهناك قطاع للمهندسين  وقطاع للمعلمين وقطاع للنجارين وقطاع للأطباء وهلمجرا...

الطبيب: وكيف المعيشة في كل قطاع؟

فهيم: المعيشة في جميع القطاعات ممتعة باستثناء قطاع الاطباء حيث يلاقون صنوف العذاب: إبرٌ تخزُّ جلودَهم، ومقصاتٌ وسكاكين تقطّع اوصالَهم وادويةٌ تحرق احشاءهم و...و...

الطبيب(مرعوبا ومتوسلا): وحياتك يا فهيم، دبّرها...

فهيم(يربِّت على كتف الطبيب قائلا): "ولا يهمك يا دكتور، انتَ في العالم الاخر "مش" مُسجَّل طبيب، انتَ مُسجَّل كندرجي".                                           

 يبدو لي الان، وانا استعيد هذه النكتة، انني اسمع سامي واراه واتذكرُه، اسمعُه يقهقه عاليا وأراه يقول لنا: "أنا لا استخفّ بمهنةٍ معينة، إنما انا استخفّ قطعا بكل من يتعامل مع مهنته باستخفاف..." واتذكرُه كعادتي، لانه في ذاكرتي حيٌّ لم يمت.

  [email protected]

 

 

2016-11-11