الإثنين 10/4/1446 هـ الموافق 14/10/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
'سوريون’ ..'خليل صويلح... ورّاق الحبّ في هذا الجحيم' ...بقلم هاني نديم

"سوريون" عمود يكتبه للوسط اليوم الزميل الاعلامي هاني نديم :

كمدخلٍ نحو ما أريد؛ أن تقول: خليل صويلح، فهذا الاسم يسحب وراءه المشهد الثقافي السوري برمته، فهو اختزال كل معطى من معطيات ما يجري على سوريا من حراك ثقافي، خاصة لنا نحن الذين نعيش في الخارج، إذ كان خليل مزاري وما زال، لمراجعة ما يجري والامتلاء بتلك الروح السورية للغاية. 

خليل صويلح، الشاعر والروائي والصحفي والإنسان، الكبير في كل ماذكرت، أحد أهم الأسماء المؤثرة في المشهد الثقافي السوري والعربي اليوم، القادم من الجزيرة السورية موشوماً بمواويلها، نحو دمشق التي.. والتي!

من وشم الجزيرة لوسم الشام

إنها رحلةٌ مغرية بالسؤال عنها، ماذا جرى بتلك المسافة، وكيف يصف صويلح تلك الرحلة، يقول: "في لحظة ما، ستفتش عن درب آخر/ كانت مغامرة أن أغادر قرية طينية على ضفاف الخابور بحثاً عن معنى آخر يتعلّق بالكتابة، أو بوهم الكتابة. شخصٌ خجولٌ مثلي لن يجد عزاءً إلا بالكتابة، لكنني في لحظات وحشة ما، أقول لنفسي لماذا قطعت ألف كيلو متراً وراء السراب؟ ثم أصحو من هذا المنام على سحر دمشق وعذاباتها، من دون أن أنظر إلى الخلف، حتى أنني استيقظت متأخراً على كتابة نص المكان الأول في روايتي"سيأتيك الغزال"، فيما كتبت بقية روايتي عن شوارع دمشق وألغازها".

 

أعرف خليل صويلح منذ ما يقارب العشرين عاماً، أكاد أحفظ كل حرف قاله لي خلالها!، فهو قليل الكلام وكأنه يختزنه لنراه صباح اليوم التالي في مقال أو قصيدة أو تحقيق، سألته: هل أنت انطوائي؟ هل أنت متحفظ - شيئاً ما -  كما يتراءى لي إزاء المشهد الثقافي والمثقفين؟، ويجب إجابةً أعرفها بصياغته التي تفاجئني دوماً: "انطوائي؟ ربما، لنقل إنني خجول ولا أحب الإدعاء. متراسي الصلب هو الكتابة كحياة مشتهاة لا أجدها في شفويات اليومي".

 

جدلية الصحافة والأدب، الديالكتيك الذي لا ينتهي، يضع له صويلح حدّاً حاداً وحاسماً، فهو مُنتج في الطرفين بتوازنٍ قل نظيره، سألته: تعمل بالصحافة، هل هذا يجعلك أكثر قرباً من إبداعك أم لا؟ كيف ترى تجربتك الصحافية الآن بعد كل هذا التراكم؟، فيجيبني: "أفادتني الصحافة في ترميم نصي الإبداعي، على عكس ما يقوله آخرون. ستجد روافد كثيرة اقتحمت نصي بسبب عملي في الصحافة الثقافية/ المشهدية على نحو خاص في صوغ الجملة الأدبية، واستثمار الكثافة والاختزال والضربة الشعرية المباغتة في تصحيح مسار الإيقاع السردي. عملي في الصحافة الثقافية وضعني في قلب المطبخ الثقافي وأسراره، كما أهداني خصوماً، من دون أن أفقد مهابة المجابهة ولو فكرت بكتابة ما شهدته خلال ثلاثة عقود لحدثت فضائح كثيرة".

مرةً واحدةً رأيت فيها خليل صويلح غاضباً، لم يشتم ولم يصرخ أو يتغير لونه، كانت ملامحه من أصلها تحمل عنه عناء ذلك!.. أشعل سيجارته وصمت لم يتغير شيء في "اللوكيشن" هذا المشهد في بالي عاش معي طويلاً أتداوله بيني وبين نفسي لأحب خليل أكثر. 

السرد بأظفاره المتوحشة

من الشعر للرواية للصحافة بقوالبها المتعددة إلى السيناريو، كتب خليل صويلح ثلاث مجموعات شعرية والعديد من الروايات ومئات الحوارات والمراجعات والتحقيقات، كما كتب للسينما فيلماً روائياً يتيماً أخرجه حاتم علي منذ عقدين، سألته: كيف تصف تجربتك مع السيناريو وهل ستعيد الكرّة؟ فيجيب: "لم أعد تجربة كتابة السيناريو رغم اشتباكي المباشر مع المطبخ السينمائي، فقد عملت لسنوات في مجلة"الحياة السينمائية". الآن أن قارئ نصوص في مؤسسة الإنتاج التلفزيوني في دمشق، وربما لفرط ضحالة تلك النصوص، قررت خوض تجربة كتابة مسلسل درامي من خندق مضاد، ولا أعلم هل سأنهي هذا المسلسل أم أنني سأضجر في منتصف الطريق.

 

خليل صويلح ووراءه منجزه الكبير، والمستمر في بنيانه بشكل شبه يومي هل فاته شيءٌ وهل يندم على شيء، ماذا يرى حينما يلتفت وراءه؟، يقول: "لا أندم كثيراً، لذلك لا التفت إلى الوراء بخسارة"، وقفزت داخلي حسرتي إذ أرى أن الرواية خطفت الشعر من بين يدي خليل الذي يحدث بصدري زلازل من سطرين، فكنت مضطراً لسؤاله: بدأت بالشعر وانتقلت للرواية؟ هل يعني لك هذا شيء؟ هل تركت الشعر حقا؟، فأجاب: "أظن أنني لم أغادر الشعر يوماً، لكنه اتخذ مسارب جديدة في صلب النص السردي، بإمكانك أن تقع على هذه النبرة في رواياتي من دون عناء، كنت أكتب نصوصاً شعرية خاطفة، الآن تبني تلك النصوص أعشاشها في أشجار السرد.

الشقيّ في جنة البرابرة

يقف خليل اليوم وحيداً أو يكاد في دمشقه التي أصبح جزءاً هائلاً منها وأصبحت كلّه، يقول في إحدى كتاباته التي انشغلت مؤخراً في هذه التغريبة الجوانية: "كأن الصوت هو آخر ما تبقّى من الحواس. صوت الطائرات، صوت القذائف، عويل سيارات الإسعاف، أصوات الأمهات البعيدات. صوت النرد في المقهى، 'مقهى الروضة'، آخر عناوين بريدي اليومي. نادل المقهى يخبرني همساً بأنه قرر أن يهاجر أيضاً. لم يبق أحد تقريباً. لكننا، حول طاولة الرخام الحزينة، نحاول ترميم ما تبقى من أصوات، أو استعادة أصواتنا التي خطفها الآخرون بالتصفيق الحاد، وبنبرة التخوين، وبمعجم النفاق. يسألني أحدهم بدهشة: ألم تغادر البلاد بعد؟ أهزّ رأسي بالنفي. من جهته، ينبغي لشخص مثلي، لديه بقايا نزق بدوي، وخشم مرفوع في مواجهة الكرامة الجماعية المهدورة، أن يغادر البلاد التي لم تعد تشبهه. لكنني أحبّ البلد، كما ينبغي لشخص مثلي أن يحب البلد، بصرف النظر عمّا فعله ويفعله الآخرون. لست ألمانياً يا فتى، وليس لدي جذور في بلاد الغال، كما إنني لست مدرّباً على عبارة طال عمركأوصحّلسانك. أشبه نفسي فقط، بكامل أخطائي وخطاياي. لست من المهاجرين، كما أنني لست من الأنصار. لا أجيد ركوب الخيل. تعلمتُ السباحة في نهر الخابور قبل أن يجفّ. أما حصتي من الرماية، فهي أن أكون دريئة لسهام الرماة. هنا، وفي ما وراء البحار، غير عابئ بعدد الطعنات. أقول بما يشبه الدفاع عن النفس: ولكنني أحبُّ البلد، هذا المرض الخبيث الذي لا شفاء منه. كفّوا عبثاً، واتركوا لنا هذا التراب، لا تخلطوه بزرنيخ البغضاء".

 

قلت له: لم تخرج من سوريا.. لماذا "تحديداً" لم تخرج؟، مرةً أخرى، كنت أعرف الجواب تماماً إلا أنني أريد صياغتهالتي جاءت كالآتي: "لطالما ذهبت إلى جهة الخسارة في كل محطات حياتي. ما اعتبره الآخرون ربحاً محققاً في اقتناص فرصة الهجرة، جعلني اتمسك أكثر في عدم المغادرة. ينبغي أن يكون السؤال لماذا يهاجر مثقفٌ ما في لحظة كالتي نعيش. كأنك تخون نصك في وضح النهار، ثم إنني لا استطيع هجران دمشق كسبب شخصي في المقام الاول. لا تغويني أوروبا، فنصّي الإبداعي أو الصحافي لا ينمو إلا في مشتل البلاد رغم رعب ما يحدث. لست بطلاً، ولست ذيلاً لأحد، لذلك لم أغادر البلد".

"ورّاق الحب" تلك الرواية التي نالت ما نالت من شهرة، أراها وبشكل شخصي أنها ظلمت رغم فوزها بجائزة عربية كبرى، هل يرى خليل صويلح هذا؟ يقول: "كانت وراق الحب روايتي الأولى بعد ثلاث مجموعات شعرية، وتالياً كانت رهاناً على كتابة مختلفة وإلا لماذا أغادر مقعدي الشعري؟ جوبهت الرواية نقدياً من بعض الروائيين لأنها لا تشبه ما يُكتب، لكن هذا الأمر لم يحبطني، على العكس تماماً، فقد أرشدني إلى صواب ما أفعل سردياً. الآن ينظر إليها القرّاء بشغف، خصوصاً بعد أن أعادتها جائزة نجيب محفوظ إلى الضوء بعد سبع سنوات على صدور نسختها الأولى. لا أحس بالغبن لأنني أراهن على ما أكتبه لاحقاً، فأنا انظر إلى أي نص انجزته قبلاً كنوع من صورة قديمة في ألبوم، فيما تتجه طاقتي إلى قلق النص اللاحق". رغم ما قاله خليل ما زال في نفسي شيء من مظلومية وراق الحب، قرأتها خمس مرات وأكاد أحفظها كما أحفظ ملامح جاري. إنها رواية فريدة، متوارية رغم حضورها.

 

السينما داخل السينما، الكتابة داخل الكتابة

مثل هذا، لدّي في نفسي شيء تجاه الرواية السورية برمتها، لا أستطيع تحديد ريبتي إزاء بنيان الرواية السورية الفني والتراكمي. لا أعلم إن كانت ريبة من أصله! ثمة "رضا منقوص" داخلي كلما أكملت روايةً سورية باستثناء أعمال معدودة، أو لعلي -والله أعلم - مأخوذاً بالشعر السوري الضخم حد ابتلاع الرواية والروائيين وتشويه ذائقتي السردية، سألت خليل هذا بشكل موارب: هل هنالك رواية حقيقية بسوريا؟ عفوا لهذا السؤال! برأيك، ما هي الروايات السورية الأكمل بالنسبة لك؟، أجاب: "لا توجد رواية مكتملة. هناك روايات سورية لا روائيين. بمعنى أنه قد يكتب حنا مينه في بداياته رواية مهمة ثم يجهضها في أعمال لاحقة، وهكذا بالنسبة لهاني الراهب وممدوح عزام وفواز حداد، وروزا ياسين حسن. أسوأ ما يحصل اليوم بالنسبة للرواية السورية هي أنها تعمل في منطقة الثأر أكثر منها مدوّنة أدبية. وهذا ما أحاول أن أتحاشاه!".

 

بالنسبة لي كمشتغل في اللغة، أفضل القاموس المحيط! ذلك لأن الفيروز أبادي لا يكتفي بشرح الكلمة وحسب بل ويدخل في فقهها التركيبي وأشهر ما يجب معرفته، فعلى سبيل المثال في زمخشر لا يكتفي أن يقول: ﻛﺴﻔﺮﺟﻞ: بلدة ﺑﻨﻮﺍﺣﻲ ﺧﻮﺍﺭﺯﻡ،إلا أنه يضيف: ﺍﺟﺘﺎﺯ ﺑﻬﺎ ﺍﻋﺮﺍﺑﻲ ﻓﺴﺎﻝﻋﻦ ﺍﺳﻤﻬﺎ ﻭﺍﺳﻢ ﻛﺒﻴﺮﻫﺎ،ﻓﻘﻴﻞ: ﺯﻣﺨﺸﺮ،ﻭكبيرها ﺍﻟﺮﺩﺍﺩ،ﻓﻘﺎﻝ: ﻻﺧﻴﺮﻓﻲ"ﺷﺮ"ﻭ"ﺭﺩّ"! هكذا يفعل خليل صويلح تماماً داخل رواياته،  بوراق الحب وجنة البرابرة التي يقحم فيها الكثير من القصص المتقاطعة بحرفية دهشة، كما فعل بكتاب البديري الحلاق، الذي وقع بالصدفة بين يدي محققه أحمد عبدالكريم فنشره تحت عنوان "حوادث دمشق اليومية"، وذلك عندما لفَّ له بائع التوابل في أحد محلات دمشق القديمة بضاعة اشتراها بورقة من مخطوطة الكتاب الأصلي، فتنبه لها عبدالكريم واشترى كل المخطوط وحققه، يحشو ضويلح هذه الرواية في عبّ رواية أخرى ثم يطرزها بأخرى فتقرأها كلها معاً لتخرج بنص جديد مرعب في تناصه وإسقاطاته.

 

في كف الله

يقدم صويلح روايته الأخيرة جنة البرابرة بعبارة لامارتين الشهيرة: "دمشق واحدة من تلك المدن التي كتبتها يد الله على الأرض"..هذه إجابة أخرى عن سبب بقائه في دمشق المنهكة اليوم. كلما رأيت خليل يمشي في الطريق أو يجلس في الروضة أو يمسّي علينا بمقال أو مجاز أو يد.. أبتسم وكأني أعرف أين كان وإلى أين يمضي، إلى أين يا خليل؟ يقول: "لا طريق مفتوحاً في بلاد تعيش حرباً ضارية. أحاول ألا أقع في حفرة أو خندق... أن أنجو كي أروي".

 

نعم يا صديقي أفهمك دون شك، كما قلتَ لعبلة في "دع عنك لومي": "عبلة .. أكتب لك من بلادٍ مظلمة، دون أن يكون الجو ليلا" إلا أنني أراك مضيئاً يا صديقي وقنديلاً هائلاً استدل به. يا صديقي الذي كتب عن الكل وحاور الجميع وتتبع آثار الجيد منهم والرديء، يا ورّاق الحب في هذا الجحيم الشاسع والممتد..

دمت لنا خليل صويلح.

 

2016-11-21