بين الجسر وضبابية اللغة وريح التيه العاتية وموسيقى الرصّاص ، تنبجس على طريق الحكايا شخوص شاحبة ، باهتة ، موغلة في أرض الخراب . وجوه سراب مثلها كمثل لوحة زيتية منسيّة معلّقة على جدار متآكل تحتسي الغياب . جثث / أحياء تعيش في ثنايا النصّ برد الهزيمة وظلمة الخراب وسراب الأحلام ، توهم صباحاتها الكئيبة بالنوافذ ، والنوافذ كزبد بحر من الدمّ على شاطئ صخريّ مقفر ، أو كما الدور والأحياء تعانق صمتها ، وتلتحف رعبها ، وأبوابها المهشّمة تتطلع من ثقب الخوف إلى غراب يراقص صوت الرصاص المموسق على حافة الأشلاء والجثث المبثوثة على ضفاف لحية غادرة وعمامة جرداء .
قصص تتناسل كما العبرات من سحيق الذاكرة الجريحة والأمنيات المعطّبة ، ترسم بلغة شعرية تليق بحجم الفاجعة عوالم تتأرجح بين الخياليّ والمرجعيّ . لغة بديعة الصياغة تطلّ تارة على مدارات رعب فردية ، وطورا تمرّ على جراحات جماعية ، تكتب قصّة موت يفترش أحلام الصبايا ولعب الأطفال وسكينة المدائن المنذورة للكلاب السائبة ، وتكتب بماء الذعر نحيب قوارب الموت وأشواك المنفى ، وموت المتنبي على أبواب خيام الغربة ، وتكسّر أمنيات الشباب في مقاهي الأحلام الجريحة ، وعسر الولادة . مناخات القصص تدور أحداثها حول أحزانها دوران الأسى حول ظلماته ، مسرحها العراق مجازا ، وخشبتها المكان النفسي واقعا ، في كهوفه تقدّ النصوص على اختلاف مواضيعها بلغة ترسم لحظات مؤلمة بنفس استعاريّ ، موغل في الإنشائيّة كقول الكاتب في قصّة ولادة " أراوغ غيبتي وأنتظر ، أسكن نفسي ، ألزم صمتي ، أرتّل ما تيسّر لي من خفقة القلب " ' ص 7' أو كقوله في موضع آخر من قصّة قرابين البحر : " يعود إلى الشاطئ الدّاكن مخذولا ، مبتلاّ بالهوس ... يتقيّأ حلما مغلولا باللّوعة "' ص 43' ، هكذا كتبت كلّ النصوص أو جلّها بملامح مجبولة على الاضطراب على أمواج القلق والخوف والسفر ، هي من دنيا السرد ، وبه ألصق ، ولكنها لم تتلبّس في كثير من منعطفاتها بسكينته ووثوقيته واطمئنانه ، بل هي إلى عوالم الشعر أقرب ، فهي لا تقصّ عليك قصصا ، بل تبعث فيك بصورها ، ووصفها الموغل في التفصيل محنة التأمّل والسؤال ومتعة القراءة وشهوة السفر على لوح الكلمات كقوله في قصّته ذات الأثر : " الرّصيف يعانق دموعها المنحدرة فوق خدّ الأسى ، يحمل أنفاس زوج ، تقاسمت أشلاءه شظايا عبوّة عمياء ، ليغادر مكانه مثخنا بجراح الوداع الأخير..." ' ص67' . " كوميديا العالم السفليّ " لعبد الكريم الساعدي نص تراجيدي يحكي بعض العراق ويحاكيه . سخرية سوداء من القهر والموت والرصاص والتيه والضياع والمنفى . نصّ قدّ بغنائيّة عالية ، غناء كما النحيب ، ونحيب كما الغناء ، تدغدغ فيه الإنشائيّة مخابئ دهشتك ودمعك وسؤالك ، تلقي بك في لجج الجمال واللذة ظاهرا ' شعرية النصّ ' وتكشف عورتك وضعفك وسقوطك باطنا ' ما وراء السطور ' ، كما المرآة المجروحة قصصه ، كلّما توغّلت فيها ضمّدت ذوقك ظاهرا ، ونبشت جراحك الإنسانية باطنا .