الجمعة 28/4/1446 هـ الموافق 01/11/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
فتح من حركة تحرر وطني إلى حزب السلطة...د. سنية الحسيني

 ‎لم يخرج موقف حركة فتح السياسي يوماً عن الخط السياسي لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بعد ذلك، فرئيس المنظمة ورئيس السلطة هو نفسه رئيس حركة فتح، وكوادر حركة فتح هي من قادت وأدارت عمل المنظمة معظم سنوات عمرها، كما أن كوادر الحركة تولت ولا تزال معظم المناصب القيادية والادارية في السلطة الفلسطينية منذ نشأتها، وتحكمت في مفاصلها بشكل مطلق، في تطابق تام ما بين مواقف الحركة والمنظمة والسلطة على صعيد الممارسة العملية والأداء الفعلي‫.‬ 

 

‎ويبدو التطابق متجلياً أيضاً ما بين الاطار الفكري السياسي الذي يحكم عمل منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وفكر حركة فتح والمستمد من نظامها الأساسي والبرامج السياسية لمؤتمراتها السبع بالاضافة إلى برنامج الحركة لانتخابات المجلس التشريعي الذي أطلقته عام 2006. فعمدت حركة فتح إلى تغيير مقاربتها السياسية الفكرية تدريجياً لتنسجم بشكل واضح مع التوجهات السياسية المتغيرة لكل من منظمة التحرير والسلطة أيضاً‫.‬

 

‎وشهد عام 1962 انعقاد المؤتمر الاول لحركة فتح، الذي رسم أهدافها وخططها ووضع هيكلها التنظيمي‫.‬ وينصّ نظام حركة فتح الأساسي في مادته الثالثة والاربعين على أنّ يعقد مؤتمرها العام كل خمس سنوات، بهدف إقرار برامج الحركة السياسية والعسكرية، وإنتخاب أعضاء المجلسين المسؤولين عن صنع القرار فيها، المجلس المركزي والمجلس الثوري. ويعتبر المجلس المركزي الجهاز التنفيذي  للحركة وصانع القرار الرئيسي فيها، ويضم في صفوفه حالياً ثمانية عشر عضواً‫، بينما يعتبر المجلس الثوري بمثابة لجنة الحركة التشريعية، ويضم ثمانين عضواً. ويقوم ممثلوا الاقاليم المنتخبين في أقاليمهم من قبل أبناء الحركة ‬بانتخاب القائد العام للحركة وأعضاء مجلسيها المركزي والثوري في تلك المؤتمرات العامة‫.‬ 

 

‎ورغم نص نظام الحركة الاساسي على أنه يجوز تأجيل إنعقاد مؤتمر الحركة لظروف قاهرة، عقدت الحركة سبع مؤتمرات طوال سنوات عمرها التي تعدت الخمسين بقليل‫.‬ ولم تنجح الحركة في تطبيق النظام الانتخابي لرئاستها ومجلسيها، فبقي ياسر عرفات رئيساً لها لأكثر من ثلاثة عقود، وجاء انتخب محمود عباس بعد وفاته‫.‬ وبقي معظم ممثلي مجلسيها  دون تغيير أو تبديل لعقود‫.‬ وتزامن انعقاد معظم مؤتمرات الحركة مع أحداث عكست أزمات مرت بها، وجاءت كسبيل للخروج منها‫.‬  

 

‎عقدت حركة فتح مؤتمرها ‫الثاني‬ عام 1968 بعد هزيمة عام 1967، وقبل سيطرة الحركة على مفاتيح منظمة التحرير الفلسطينية‫، بينما التأم مؤتمرها الثالث ‬عام 1971 خلال أحداث أيلول الأسود في الأردن‫.‬ وجاء مؤتمر الحركة الرابع عام 1980 خلال أزمة الحركة في لبنان وبعد التهديد الاسرائيلي بضرب منظمة التحرير‫.‬ وانطلقت أعمال المؤتمر ‫الخامس ‬عام 198‫8 ‬بعد عامٍ من الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي عانت حركة الفتح والمنظمة خلالها ظروف صعبة بعد خروجها من لبنان‫،‬ كما شكل بروز حركة حماس في هذه الاثناء كمنافس سياسي قوي لحركة فتح والمنظمة، عامل إضافي من عوامل أزمتها‫.‬ وأعلنت الحركة عن مؤتمرها السادس عام 2009 بعد أحداث الانقسام التي شتت الوطن والشعب‫،‬ وعدم تحقيق أي تقدم على صعيد العملية السلمية مع الاحتلال، بينما انعقد المؤتمر السابع قبل الايام في ظل العديد من الازمات‫.‬

 

‎فبالاضافة إلى إستمرار حالة الانقسام الفلسطيني الفلسطيني، وتصعيد سلطات الاحتلال من ممارساتها الاجرامية بحق الشعب الفلسطيني الاعزل، وتماديها في سياستها الاستيطانية داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة، وتقويضها لأي محاولة لاحياء عملية السلام، تتصاعد حدة الخلافات والصراعات الداخلية داخل حركة فتح نفسها حداً وصل إلى تدخلات خارجية عربية لرأب ذلك الصدع‫.‬ فجاءت دعوة أردنية مصرية بمباركة إماراتية سعودية إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس للتصالح مع محمد دحلان وأتباعه، وهو تدخل رفضه الرئيس الفلسطيني، من خلال إشارات ضمنية جاء آخرها خلال خطابه في مؤتمر الحركة السابع بضرورة إحترام القرار الفلسطيني، وتحركات سياسية وجهت رسالة أكثر وضوحاً لاعضاء اللجنة الرباعية العربية، عندما قام بزيارة تركيا وقطر مؤخراً‫.‬ واعتبر أحد أعضاء المجلس المركزي للحركة قبل إنعقاد مؤتمرها السابع أن إنعقاد ذلكالمؤتمر بات ضرورة ملحة، لتوحيد صفوف الحركة ولم شملها‫.‬ 

 

‎لم تختلف الرؤية السياسية بين منظمة التحرير وحركة فتح خصوصاً بعد تولي (ياسر عرفات) رئيس الحركة قيادة المنظمة عام 1969، وسيطرة كوادر الحركة على غالبية مقاعد لجنتها التنفيذية. وقامت تلك الرؤية السياسية المشتركة على أساس تحرير كامل الاراضي الفلسطينية المحتلة سواء عام 1948 أو عام 1967، وذلك عبر خيار المقاومة المسلحة كاستراتيجية وحيدة لا بديل عنها، ورفض جميع قرارات الشرعية الدولية التي لا تعترف بحق الفلسطينيين على كامل أرضهم المحتلة. وقد انعكس ذلك بوضوح في بنود ميثاق المنظمة الصادر عام 1964 والنظام الاساسي لحركة فتح وبرامج مؤتمراتها السياسية الاول والثاني والثالث‫.‬

 

‎تبنت منظمة التحرير البرنامج المرحلي والذي عرف ببرنامج النقاط العشر، عندما أقره المجلس الوطني في دورته الثانية عشر عام 1974، والذي يقوم على أساس قيام دولة فلسطينية على أي جزء يتم تحريره، إلى أن يتم تحرير باقي الارض، إلا أن المنظمة رفضت القبول بإتفاقية كامب ديفيد بعد ذلك. ورغم عدم تمرير حركة فتح الحل المرحلي خلال جلسات مؤتمرها الرابع عام 1980، وهو أول مؤتمر تال على موقف المنظمة السابق، إلا أن البرنامج السياسي للمؤتمر إعتبر أن القرارات السارية للمجالس الوطنية لمنظمة التحرير جزء مكمل للبرنامج السياسي للحركة، كما انسجم موقف الحركة مع موقف المنظمة تجاه اتفاقية كامب ديفيد‫.‬ 

 

‎أصدرت منظمة التحرير في دورة المجلس الوطني التاسعة عشر في الجزائر عام 1988 وثيقة الاستقلال للدولة الفلسطينية على أساس الاقرار الفلسطيني بقراري مجلس الامن 242 و338، الذين يعتبران أن الاراضي الفلسطينية المحتلة هي فقط تلك التي إحتلت عام 1967. وفي العام التالي أقرت وثائق المؤتمر الخامس لحركة فتح بالحل المرحلي الذي طرحته المنظمة قبل ذلك، ودعمت وثيقة الاستقلال وإعلان الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967. كما أكدت تلك الوثائق على الدور القيادي للمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، ودعت لحق المنظمة في المشاركة في المحافل الدولية بشكل مستقل، وطالبت الولايات المتحدة بالغاء كافة القوانين والتشريعات المعادية للمنظمة والتي أصدرها الكونجرس. كما رفض المؤتمر مشاريع الحكم الذاتي، وتمسك بمؤتمر دولي للسلام يقوم على أساس قرارات الشرعية الدولية، باشرف الامم المتحدة وتحت رعاية الدول دائمة العضوية في مجلس الامن، وأصر على أن تكون خطة (شامير) رئيس الوزراء الاسرائيلي في ذلك الوقت للانتخابات لاحقة للانسحاب الاسرائيلي من الاراضي الفلسطينية المحتلة في إطار برنامج متكامل للحل النهائي. ودعت الحركة في ذلك المؤتمر إلى مواصلة الحوار مع القوى الديمقراطية الاسرائيلية التي تعترف بالمنظمة. لم يتطابق البرنامج السياسي لمؤتمر حركة فتح الخامس مع التوجهات السياسية للمنظمة فقط، بل ظهر برنامج الحركة بمثابة بيان سياسي صادر عن المنظمة نفسها‫.‬

 

‎بعد توقيع منظمة التحرير إتفاقية أوسلو عام 1993 وقيام السلطة الفلسطينية بناء على ذلك، عبرت حركة فتح عن مواقفها الفكرية السياسية من خلال برنامجها الانتخابي الصادر عام 2006 والبرنامج السياسي لمؤتمريها السادس عام 2009 والسابع عام 2016. فاتفقت الوثائق الثلاث على أن غاية المشروع الوطني إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس، مع تطبيق القرار 194 الخاص بعودة وتعويض اللاجئين. كما اعتبرت الحركة أن خيار السلام يعتبر هدف إستراتيجي، واعتمدت المفاوضات وسيلة لانجاز التسوية‫.‬

 

‎وعرضت حركة فتح من خلال مؤتمريها السادس والسابع عدداً من الاستراتيجيات لمقاومة الاحتلال، وتقوم على أساس المقاومة الشعبية السلمية، كالنضال الشعبي ومقاطعة المنتجات الاسرائيلية ودفع الحراك السياسي والقانوني والدبلوماسي، مؤكدة أن طريق الكفاح المسلح بات من الماضي‫.‬ فأثنى برنامج الحركة في مؤتمرها السادس على الحراك الشعبي في مقاومة جدار الفصل العنصري لكسب الرأي العام. وطالبت الحركة بدعم الصمود وحشد الدعم للمشاريع التنموية ومواصلة الجهود للدفاع عن المقدسات‫.‬

 

‎كما ركز البرنامج على وقف الاستيطان والدعوة إلى مواصلة الجهود لانعقاد مؤتمر دولي للسلام ووضع جداول زمنية واضحة وملزمة للمفاوضات، ورفض تأجيل التفاوض حول القدس واللاجئين أو أي من قضايا الحل النهائي. كما أكدت الحركة على رفضها لفكرة الدولة ذات الحدود المؤقته، أو الاقرار بإسرائيل كدولة يهودية. ودعت الحركة في ذلك المؤتمر إلى الذهاب لاستفتاء شعبي لاعتماد المفاوضات‫.‬ 

 

‎وأعاد المؤتمر السابع في البرنامج الذي قدمه الرئيس محمود عباس واعتمدته الحركة، التأكيد على التمسك باستراتيجية السلام كخيار إستراتيجي، ودعم فكرة عقد مؤتمر للسلام وفقاً للمبادرة الفرنسية، والتأكيد على رفض الحلول الانتقالية أو المرحلية أو المجزأة أو الدولة ذات الحدود المؤقته، ورفض الاعتراف بيهودية إسرائيل‫.‬ كما أعاد برنامج الحركة التأكيد على ضرورة تعزيز المقاومة الشعبية السلمية ومقاطعة منظومة الاستيطان ومواصلة النضال الدبلوماسي على الصعيدين الثنائي والمتعدد‫.‬ ورغم أن مؤتمر الحركة السابع لم يأت بأي جديد مقارنة مع مؤتمر الحركة السادس فيما يتعلق بالموقف السياسي للحركة رغم مرور سبع سنوات، إلا أن خطاب الرئيس أبو مازن في اليوم الثاني لمؤتمر الحركة السابع قام باستعراض إنجازات المنظمة بتوقيعها على اتفاقيات أوسلو، وإنجازات السلطة الفلسطينية منذ قيامها حتى اليوم، في إشارة إلى إنجازات حركة فتح التي يقودها كما يقود المنظمة والسلطة‫.‬

 

‎يبدو واضحاً أن المنطلقات الفكرية لحركة فتح والتي تقوم على أساسها توجهاتها السياسية بعد إتفاقيات أوسلو لم تخرج عن البرنامج السياسي للسلطة الفلسطينية، أو عن البرنامج السياسي لمنظمة التحرير، في تقاطع واضح وإنسجام تام، بما بات يمثل برنامج سياسي للحزب الحاكم للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، ويبتعد كثيراً عن البرنامج السياسي لحركة تحرر وطني، جاءت حركة فتح في الاساس من أجلها، ويأتي ذلك على الرغم من عدم تحقيق التحرر الوطني بعد‫.‬

2016-12-13