الأحد 16/10/1444 هـ الموافق 07/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
المرئي واللامرئي في الاختزال الشعري 'حروف اسمكِ' لأمير ناصر نموذجاً... خليل مزهر الغالبي

هنا يمكن أن نتذكر "جعفر بن يحيى"  في حث كِتابهِ على الإيجاز والاختصار في كتابتهم له بقوله " إن استطعتم أن تكون كتبكم كالتوقيعات فافعلوا ". ونحن نقرأ نصوص مجموعة "حروف اسمكِ" للشاعر "امير ناصر"، وكأّنَ الشاعر يقترب من  قولة "ابن يحيى" في كتابته الشعرية... هذه الكتابة التي اوصانا هو الاخر الشاعر- امير ناصر- بكتابة قصيدة له وبمثل التوقيعات المذكورة السابقة، وفي نصه المسمى – قصيدة – (قبل أن أتوارى في ترابي/ وقبل أن يسدل عليّ ستار الظلام /أكتبوا لي قصيدة /قصيدة قصيرة / ضعوها تحت رأسي / قصيرة جدا / أعملوا على تصفيتها وتشذيبها / فأنا أكره الزيادات والزخارف/............../أجعلوها بحجم كف /بحجم إصبع / بحجم أنملة /أو كلمة واحدة /بحرف أو حرفين أو ثلاثة/.........../ أو .............../لكي آمن في قبري)،حتى اختصار القصيدة عنده  بحرف واحد ،كما في اختيارات الشاعر الموصوفة في القصيدة، بل وفي تراتب اخر غير مرئي ليترك القاريء في اختياره ولتكون مجرد نقطة واحدة لا اكثر ايضاً ،هذه النقطة التي اشار لها في تنقيطه،وهو اخصر من توقيع.

وما نرى في الاسلوب الشعري في كتابة نصوص المجموعة "حروف اسمكِ"،اعتمادها على القليل الكتابي المفتوح  على الكثير الشعري، وفق معرفة تقانة اللغة الشعرية في الايجاز والاختزال والاختصار والتكثيف والقص والقصر والخرم والحذف الاخفائي  للجملة والنسق الشعري،والأخر في التنقيط بين الكلمات وتنقيط اخر ممتد خلف الكلمات و الجملة،والتي تكتب شعرها من النصف الاول لها وتحمل النصف الاخر خارج حدود الكتابة المرئية. والنصف الاخر هو وجود لامرئي تم وفق معرفة اشتغال لغوي خاص لهذه البناءات،هذا المثول والصنع الشعري حَصَلَ في الجملة المعبرة اللامحة والجامعة والصانعة للاكتفاء الدال والمحقق للذة القراءة وإستئناس تلقيها الشعري الذي يملأ الفجوات  والامتدادات، ومرة  تكليم التنقيط، وكان لتفعيل ايمائية اللغة واشارتها الموحية إلى معاني عالية النضج والضبط وكاملة الدالة الشعرية في إثراء الذوق واغناءه باللمح الكافي عن التفصيل والبعيد عن اسلوب الشرح القديم والبيان الكلاسيكي، ولايبرر الايجاز في الاختصار القاطع و الحاذف لبعض الكلمات في ترك النص بدون ان يضفي فاعلية جمالية لهذا الفعل، واولها التذوق القرائي واستئناسه وانبهاره الجمالي في هذا الصنيع المنسق للجملة  كما في قصيدة – كلما قلت -.......

(كلما قلت ( أنا جسرك ) /يلطمني /ــــ وأنا مشدود كقوس  بين جرف وجرف ـــــ/ وقع لأقــدام  غريبة /........ ، /..................)،لنرى الشاعر معبراً باختصار عن ماهو عليه في وصول الحبيبة، وكما تعني دالة الجسر كمعبر وبمعناه الاجتماعي الانساني،والاخر المستنتج من عملية العبور من حلم ومراد وكل الاشياء الجميلة والمنتظرة للعبور والوصول لها،ليذهب الشاعر ويمتد للحبيبة بشدة مثل شد القوس العالي التوتر ليؤمن العبور الخاص للحبيبة، لكنه يلاقي لطمة  الاقدام من  المارة العابرين على امتداد جسره والخاص للحبيبة.

وقد اعتمدت اشتغالات المجموعة  في مثولها الشعري على الكتابة الناعمة، لتبسيط مرورها الإيحائي بدون كتلة لغوية فائضة تكشف المعنى القاتل لتلقي واشراك القاريء لولادة النصف الشعري الاخر واكمال القصيدة، وهذا الوليد هو الكتابة اللامرئية المتماهية مع الكتابة الام لإكمال تام الجملة والنسق والكلام الشعري للنص، و بحالات متعددة ومتنوعة، منها الاختصار المضغوط والمقطوع  ،والاخر في ظاهرة التنقيط المعبر شعريا بين الفجوات الساكتة للكتابة احياناً او تنقيط يمتد خلف الظاهر الكتابي للشعر.

ولم يتحقق هذا بدون التفعيل العالي الكثافة لمستخدم اللغة الايحائية بما فيها من اشارات وايمائات، و فق معرفة التنشيط اللغوية لمعادلة التوليد التوافقية المتماهية بين مكوني هذه الاشتغالات الكتابية ،ولما افترضه من انوجاد محقق لروح الشعر، حيث تنبعث وترتفع ساحرة الشعر في تأملها المابعد القراءة البصرية وتظهر بمظهر سحري يسمعك صوتها العابر للورقة البيضاء كما في قصيدة -كلما قلت ...(كلما قلت ، (  أنا خيمتك ) ./...    توخزينها بالدبابيس ، /وتقولين : سقفك أتلفه المطر/كلما أفتديك , /تخيطين العمى من أهدابي  ،/العمى والحجب ./كلما أصمت مثل شجرة ميتة /تنسلين جواري  مثل نهر يافع ....... )،ومن دلالة الخيمة من سقف حنون ودافيء لحماية الحبيبة، وما تعمل دبابيسها في ثقبها واتلافها  والغاء حضنها،ليوجزها في متعارضي ومتناقضي القول الشعري الاخر والمقارن بين الشجرة الضمأى و الميته وتجليس النهر اليافع النشيط جنب ضمأها العاشق وبحالته النافقة، وهنا نقرأ الواسع الشعري لهذه المختصرات التي ابدع جمالية الشغل المعبر.

ويحصل معتمد الإيحاء اللغوي في فعالية اخرى ـوبمثلية إمتداد لنقاط اكثر فتوح ومعين للقاريء، ومتروك لتأويله كما في بقية الحالات اللامرئية، لتصبح شكل نقاط  موطوءة في الورقة لدلالات شعرية، و بإتقان آلي وفني  قابل للمداخلة القرائية  والتلقي الشعري،لتكون كتابة النقاط في تأويله الشعري ،اضافات لذات النسق السابق الذي خزله الشاعر وقَصِهَ لكفاية المكتوب منه على الامتداد بحمله وتضمينه والخروج به عن دائرته الكتابية الى الاضافة المكملة لشعريتها،و هو أساس لمعرفة ذوقية و تبصر جمالي  كما في القصيدة المذكورة سابقاً  –كلما قلت - ..

(لا الكلمات ، ولا الخطابات ،لا التنهدات ، ولا ألـ ..../............................./قادرة على شفائي منك /....................).وفيها راحت التشائمات الوجودية تنشر خطوطها على روح القصيدة ومن عدمية الحلول واليتها.

و في قصيدة "نسيت" نرى ذلك التوصيف الغزلي المتخيل وبوصف خاص من الشاعر "أمير ناصر"،و الغير مسبوق الاستعمال في التشبيه والكنايه،كما  في تجميل الحبيبة من تصغيره لأنف الحبيبة  وتشبيه حقيبتها اليدوية – بجناح اوزة- وهو وصف وليد لحظة الشاعر وخاصته.

(نسيت أن أقول لك :أنفك جميل /وأنت تمسكين حقيبة صغيرة /تشبه جناح إوزة)

وكان مائز هذا الاشتغال الشعري المختصر، هو التبسيط اللغوي والكفاءة بالقليل لتسهيل مرورها بدون استعمالات فائضة عن الحاجة الشعرية الحديثة، والتي تبدو في المجموعة ان الشاعر يقول نصفها اي قول شعري غير كامل شكلياً ويرمي به الى اسماع المتلقي الذي يقوم هو الاخر مستأنساً بإكمالها او لنقل اظهار كمالها،وهذا ما تحرص عليه المنتجات الشعرية الاكثر حداثة وفق اعتبارية نظرية التلقي المفتوحة على الوسع التأويلي.

وهذا الاسلوب الكتابي للقصيدة المختصرة ،هو توجه يتناسب كثيرا مع الزمن المثخن بالإزدحامات  التي تضايق كثيراً الزمن الشعري، ومنه ...لابد من ايصال الشعر بقليل الكلمات واكثرها دلإلياً، اي الكلمات الغير قاطعة  للنفس الشعري والغير مربكة لألياتها اللغوية وسيماتها اللازمة ، وبتكوين ملامح كلامية  ناعمة البوح ،وهي لغة مكثفة ومختصرة ،مكتفية  بالبوح الايحائي وفيوضاته المفتوحة المتوجهة نحو القاريء وبمساحات واسعة في قبولها  لمشاركة القاريء في التأويل وصناعة النص. وكما  في قصيدة -لا أحــد يهتم لأمــــري-

(ما بك حبيبي ؟/ تقول أختي . /وأقول في سري :/ان حبيبتي القاسية كالـ ( تيكيلا  ) /والرهيفة مثل وريقات الخس /أخاف عليها يا ... أختي /....../وعلى خطواتها /حتى من كرامتي المهدورة تحت قدميها./................................./......../....... ،)

ومن التكلف الوجودي لرؤى النصوص ،والذي توافق كثيرا مع الاسلوب الواضح الغور والقريب من قصدية و رغبة وسرائر الشاعر النفسية ،وهي من التعبيرية العالية الصدق ،والتي تماهت منسجمة مع مايمكن تسميته -اللغة البريئة- و -النبرة الخفيضة -ومن استطباب رؤى النصوص في تأمل الذات وفق لغة  لا يقبل الشاعر مرورها بشروط اللغة الرسمية البعيدة عن هموم واعتنائات –أمير ناصر – هذا الشاعر ومن مجموعته يبان انه نفض عن متنه اطلال القرية الشعرية  ورمال القصيدة الكلاسيكة ،الكلاسيكية بزمنها القريب لفترة الماقبل الالفية الثالثة وعشيتها،حيث يمتد الشعر ويملأ طولا وعرضا اوراقنا البيضاء بالكثير من الفائض الشعري الشبية بالورم ،لكن الشاعر امير ناصر يريد ان يوزخنا بابر شعريته ليبلل خيمتنا بلذة الشعر البعيد عن الاضافات الزائدة ..

وكما نلاحظ فيضه الشعري المفتوح والواسع  في ايجاز قصيدة " أخشــــى" (أخشى أن تذبل ،/(كلماتي المرحة ، ذبابات الزبد ، والأغاني ) /اليوم وفي ميناء انتظارك ، /ابتعت لحورية البحــر سواراً أزرقــأً ، /وللدلفين كرة صفراء ، /وللقرش غمــدا مرصعاً بالفضة /..... , /عدت ...... /بوحول ومياه مالحة /عدت بخيبات.).وفي اتيه المنتظر و المحمل بجميل مايراها من الاسوار الزرقاء ووو ..يروح في ملاقاته الكئيبه ليعود بوحول مالحة بما يعنيه خيبات عالية الوطأ.

ولهذا انمازت لغة المجموعة  بالسماح والمرونة والحيوية، لتنشيط اسلوبها التجديدي المعبر والمصور والدلالي، ويتضح ما في  قصيدته (الوجودية) الشاكية  - كلما قلت ...وهو الطائر العاشق ،الطائر الذي امتلكه الفزع من تعب التحليق  وابتكار الالحان فراح ليقبع في موصوفات القصيدة المحددة للمكان والاشخاص التعبين والحالة الوجودية السيئة...

(أنا الآن  قابع في غرفة رطبة/ جوار مكتبة ،/ضاجة  بالشعراء والقتلة والعشاق /أقلّب في هاتفي  وأبحث عن رسائلك

/انقرها واحدة تلو الأخرى ، / مثل طائر فزع /طائر لا سماء له ولا أرض /تعب من التحليق ،/ وابتكار الألحان /ذلك هو أنا....).

وفي قصيدة -حروف سركون بولص المرحة- تلمس  التَذّكر الصادق  والمخاطب لروح الشاعر الراحل – سرجون بولص – وقيها تسمع روح كلماتها الحزينة للفقد، انه النص الاكثر قرب للشاعر الراحل والاكثر انحناءاً عليه دون صراخ مع بكاءه الضاج بالحزن ...

(لِمَ أيها الآشوري الجميل /وأنت تغادر الوطن ./وطنك ... /الذي ألبسك الجراحات كلها /ومنحك عينين منكسرتين /وفضض شعرك /وقشرك ) ..ويمكن ان نشعر بالحضور  للكلمة الحانة والمعبرة عن ذلك مثل – الاشوري الجميل، عينين منكسرين، فضض شعرك- وبمثل وصف فوتغرافي ينضج ويقترب روح الشاعر ، ويذهب  في حوار الشاعر بعد ان ضج القلب العاقل عن اللماذويات المعاتبه له كما في تساؤلاته الاخرى...

(...لمَ لا تحفر في مسمار الذكرى /وأنت تغادر أعتابه /أغنية على جدران ( قلعة كركوك ) /أو ندباً على شجرة في ( ساحة الميدان ) /أو عشقاً في قلب سيدة . /لمَ حملت سركون بولص كله /ومضيت ) وهو يزاوج في المقاربة الدالة للمفردات المستعملة والدالة على الرحيل الحزين –الذكرى،تغادر،قلعة كركوك (التاريخية ذاكرة مدينة الشاعر ومعلمها) كما، ساحة الميدان.

ونؤكد اننا في زمن الالفية الثالثة التي تحمل على جنبيها الافرازات والظواهر والاتسامات المزدحمة التي تحاصر و تضع التلقي في المختصر الزمني له، وعلى الشاعر ان يقدح شعلته الشعرية بمواصفات تلج ابواب التلقي بجمالها البعيد عن المط والتوضيحات اللاشعرية و الغير منضجة لجمال الخلق الشعري.وهنا نرى توجه وابداع شاعر المجموعة  حروف اسمك" في توجه اصاب الكثير من الدرس الشعري الجديد والقائم على  الاختصار  في الكتابة الشعرية، والاشتغال على الاشارة الكتابية الموحية بقليلها للكثير الشعري الواسع والمكافيء لنهم ولذة القاريء وإستئناسه القرائي .............

2017-01-09