الخميس 9/10/1445 هـ الموافق 18/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
من إدوارد لورنس إلى ليفي وماكين، قصة ثورات عربية سطت عليها الصهيونية....سفيان بنحسن

"العدل أساس العمران والظلم مؤذن لخراب العمران" يقول إبن خلدون، فالجماهير العربية التي ثارت منذ قرن من الزمان على الدولة العثمانية وطالبت بالإنعتاق من ربقة الأتراك كان قد أشعل جذوة الثورة في صفوفها حيف الطورانيين وظلمهم وتفردهم بالقرار وعزمهم على طمس الهوية العربية وزرع بذرة الطبقية في المجتمع المسلم تكون فيها الغلبة للعنصر التركي على حساب مكونات المجتمع العثماني، تحولت الخلافة من خيمة جامعة لعموم المسلمين إلى دولة إحتلال تسعى لفرض ثقافتها ولغتها وقوميتها فأحيت هذه النزعة القومية التركية الشعور بحاجة العرب إلى كيان قومي موحد يجمعهم ويحفظ تاريخهم من الإندثار، ومع وصول جمعية الإتحاد والترقي إلى الحكم إبان الإطاحة بعبد الحميد الثاني باتت الثورة العربية نتيجة حتمية للحراك القومي التركي وإثباتا جديدا على صواب القانون الثالث لنيوتن بأن "لكل قوة فعل قوة رد فعل، مساوية لها في المقدار ومعاكسة لها في الاتجاه، تعملان على نفس الخط وتؤثران على جسمين مختلفين". لكن خطيئة العرب الكبرى في هذا الحراك الصادق والملح أنهم إنسجموا مع الرغبة البريطانية في كسر الدولة العثمانية ونسقوا مع الغرب ومع عدد من دعاة الصهيونية في سبيل الوصول إلى الغاية النبيلة، فأن تقوم المراسلات بين مكماهون وقائد الثورة الشريف حسين على ضرورة التنسيق العسكري بين الطرفين وأن يقام المؤتمر العربي الأول في باريس المعروفة بعدائها لكل ما هو عربي أو مسلم وأن يلتقي فيصل إبن الشريف حسين بحاييم وايزمان الذي تولى في ما بعد رئاسة الكيان الصهيوني فهذا يكشف مدى الإنحراف الذي أصاب ثورتنا آنذاك ومدى الإختراق الغربي والصهيوني لها.

يتحدث توماس إدوارد لورنس أو "لورنس العرب" في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" عن دوره في توحيد العشائر العربية وعن مشاركته المباشرة في ضرب سكك الحديد العثمانية وفي كثير من العمليات التي أدت في نهايتها إلى تقسيم الدولة، وبقطع النظر عن دقة ما أورده لورنس في كتابه من عدمها فإن التوافق الغربي العربي قد أدى إلى ظهور كيان سرطاني في قلب الأمة فرضته لعبة تقسيم المنطقة بين الفرنسيين والبريطانيين، وكان حظ العرب من ثورتهم المزيد من الشهداء ومن أمراء الحروب ولم ينلهم سوى تغيير الراية العثمانية بالرايتين الفرنسية والبريطانية، بينما تمكن الغرب نتيجة لتحالفه مع العشائر العربية من إنهاء صراعه القديم مع الدولة العثمانية بمسحها من الوجود ووضع الحدود المقدسة التي تمنع عودة الدولة المترامية الأطراف وتضمن ديمومة الإنقسام بين ولاياتها.

قرن من التمزق والتناحر والتباعد لم يكن كافيا ليتعظ بعض العرب، ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه والعرب يخوضون نفس التجربة ويتحالفون مع نفس الحلفاء الذين خذلوهم بالأمس ومع ذلك ينتظرون نتائج مختلفة، ربما علينا إنتظار الجزء الثاني من "أعمدة الحكمة السبعة" يكتبه هذه المرة الصهيوني برنار ليفي أو جون ماكين لندرك أننا قد لدغنا من نفس الجحر مرتين. نحن لا ننكر حاجتنا الملحة في كل الأقطار لكسر ربقة الحكم الواحد ولضمان المشاركة الشعبية في صنع القرار كما تشارك فيه جماهير العالم الحر في بلدانها ولا ننكر أن الطبقية التي صنعتها الحركات الطورانية منذ قرن من الزمان قد تجددت مع آل حكامنا، وأن عائلة نافذة في كل قطر عربية هي فوق القانون محتكرة لكل السلطات والصلاحيات تعبث بمقدرات البلاد وثرواتها، ولا ننكر أنه لولا هذا الحراك لما أمكنني الكتابة اليوم عن المشهد السياسي بحرية وأنا من بلد الشرارة الأولى لما أتفق على تسميته ب"الربيع العربي"، لكن مع هامش الحرية الذي جنيناه من هذه الثورة المغدورة فإن الثمن كان من دماء ودموع ملايين الشهداء والأيتام والثكالى، والمتابع للحراك الجيوسياسي يدرك اليوم أن بعض الأقطار لم يعد لها وجود فعلي على هذه المعمورة بعد أن طغى على المشهد فيها أمراء الحرب والجواسيس وجنود الغرب الذي تسيل أرضنا لعابه من قديم الزمان. بحث الشريف حسين عن السيادة العربية فقاده طريق التحالف مع العدو إلى مزيد من أغلال العبودية وبحث الثائر العربي اليوم عن الكرامة والسيادة والنزاهة والديمقراطية عبر جبهات برنار ليفي المستعرة فقاده الطريق إلى عودة الأساطيل الغربية والفارسية إلى ليبيا وسوريا واليمن وغيرها من أرض العرب النازفة. الثورة حق في كلا المشهدين والطريق خاطئة لا تقود إلا لتكريس التبعية وتغيير مستعمر بآخر وإلى نشر الحريق الكبير في عموم الوطن المكلوم، ومع إرتماء المعارضين والموالين في أحضان الغرب طلبا للدعم يجد المواطن العربي نفسه بين معسكرات محلية تقودها أياد أجنبية آخر همها تحقيق المطالب الشعبية وجل ما يعنيها ضمان مناطق نفوذ في أقطار ما بعد سايكس بيكو.

ست سنوات مرت على إنبعاث الشرارة الأولى لما سيكتب التاريخ أنه كان ربيعا حارقا، ست سنوات من الحرائق رأينا فيها برنار ليفي في ساحات تونس وفي جبهات الجماهيرية وفي مناطق الأكراد ورأينا أمراء الحروب وقادة الثورات يستقبلون جون ماكين إستقبال الفاتحين، ورأينا قوما يسجدون على العلم الفرنسي ويتغنون ب"فزعة ساركوزي" غير مدركين لحقيقة أن التحالف مع الثعابين والرقص معهم نهايته سكرات موت وزفرات ندم وألم، ليبيا التي كانت عصية على الإختراق محرمة على أحفاد موسليني باتت مرتعا لكل المخابرات الدولية لكل إقليم فيها حكومته وجيشه وحلفاؤه، وسوريا التي كانت بالأمس تفتح ذراعيها لكل لاجئ بات أهلها يركبون قوارب الموت هربا من حريق لا تبدو له نهاية، واليمن دخل حروب الجاهلية والرؤية في نهاية النفق تبدو ضبابية، وحديث الصهيوني ليبرمان عن ضرورة تقسيم سوريا والعراق لكيانات عرقية وطائفية يكشف أن الصهيونية كانت حاضرة في ساحات الحريق الأكبر تدافع عن وجودها وتفوقها الأزلي وتصب الزيت بأساليبها القذرة على نيران الفتنة الكبرى، وحديث برنار ليفي المتكرر عن الجزائر يكشف لوعة في قلب هذا الصهيوني لعدم مرور ألسنة اللهيب إلى بلد المليون شهيد.

الربيع العربي كان يمكن أن يكون صرخة مظلوم في وجه حكامنا وعصاباتهم، وكان يمكن أن يمثل الإنطلاقة الأولى نحو كسر حدود سايكس بيكو وإحياء آمال العرب القديمة بإنشاء وطن عربي واحد من المحيط إلى الخليج، لكن الثائر يسقط وتسقط مشاريعه وأحلامه وثورته وقدسية سلاحه حين يتحالف مع العدو المتربص، وثورة الديمقراطية تفقد روحها حين تدعمها إمارات النفط التي يتزامن فيها حفل تنصيب الحاكم الجديد دوما مع نصب خيام عزاء الحاكم السابق، فهل هي جينات ملوك الطوائف في الأندلس الفقيد هي ما يقودنا دوما إلى طريق الهلاك أم أننا قوم لا نقرأ أحداث التاريخ وإن قرأناها فلا نستوعب عبرها ودروسها؟

[email protected] 

سفيان بنحسن

تونس

2017-01-18