بالأمس خرجت تصريحات من موسكو تؤكد على أن هناك إتفاق بين المتحاورين بشأن المصالحة الفلسطينية وذلك حول ضرورة البدء بتشكيل حكومة وحدة وطنية ، وكنت قبل عام من هذا الوقت تقريباً ، وبالتحديد بتاريخ 6 فبراير 2016 قد كتبت مقالاً بعنوان "حكومة الوحدة الوطنية بين المأزق السياسي والوضع الإقليمي"، وهأنذا اليوم أعيد الكتابة حول نفس الموضوع ولكن في ظروف مختلفة مستعيناً بنفس المقال السابق.
أبدأ بما أوردته صحيفة هآرتس الإسرائيلية على صفحتها الإليكترونية باللغة الإنجليزية، بأن فتح وحماس أعلنتا من موسكو إتفاقاً حول تشكيل حكومة وحدة وطنية " Hamas, Fatah Announce Deal to Form Palestinian Unity Government " ، وذلك بعد حوارٍ بينهما بدأ منذ يوم الأحد الخامس عشر من يناير الحالي في العاصمة الروسية موسكو " Hamas and Fatah have agreed to establish a Palestinian unity government, the two factions said in a statement from Moscow, where they were holding unity talks since Sunday" .
كما أوضحت بأن مصدراً فلسطينياً رسمياً قد ربط هذا الأمر بإستراتيجية فلسطينية مهمة تتعلق بالتطورات التي حصلت مؤخراً ومنها مؤتمر باريس الدولي وقرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي أدان الإستيطان ، وإنتخاب الرئيس دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية " Paris peace summit, UN anti-settlements resolution and Trump entering the White House said to be behind agreement. 'A unity government is of strategic importance,' Palestinian official says".
من هنا أرى بأنه مما لا شك فيه بأن هناك حراكاً جدياً يتم بخصوص كيفية الوصول إلى نقطة التوافق حول تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية، بالرغم من الفشل المتكرر الذي حالف هذه الجهود مسبقاً في عدة محاور، بدأتها العاصمة القطرية الدوحة ومن ثم العاصمة التركية أنقرة ومن قبلهما العاصمة المصرية القاهرة ، وهذا كله كان نتيجة الشعور بالقلق، وأن هناك ضرورة ملحة إقليمياً لمواجهة التحديات التي تعصف بالمنطقة من خلال الصراعات التي بدأت تنهكها وتؤثر بشكل كبير على استقرارها، كما أنه كان نابعاً من الخوف من أن يحصل أي طارئ في المشهد الفلسطيني قد يؤدي إلى اشتعال أخر في المنطقة غير محسوب.
لذلك كان لابد من حراكٍ إقليميٍ سريع تصاحبه ضغوطات للدفع باتجاه الوصول إلى حل لهذه المعضلة في ظل وجود ضوء أخضر من جميع الأطراف المؤثرة للوصول إلى نقطة الالتقاء ضمن متطلبات الإقليم وحاجته لاحتواء شرارات الصراع التي بدأت تظهر والتي قد تؤدي إلى المزيد من المواجهات وذلك قبل أن تَكْثُر وتخرج عن السيطرة!.
من الواضح أيضاً أن الجميع بات يدرك جيداً أن توجه الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، والمؤشرات التي لربما تدل على أن الإدارة الجديدة لا تكن وداً للرئيس محمود عباس من خلال تجاهل الرد على برقيته التي بعث بها مؤخراً إلى الرئيس دونالد ترامب، وعدم دعوته للمشاركة في حفل التنصيب .
كما يبدو بأن هذه الإدارة ستتبع سياسة صارمة اتجاه الإخوان المسلمين بشكل عام وحركة حماس بشكل خاص، هذا بالإضافة إلى توقف المفاوضات بين طرفي الصراع ، وإصرار إسرائيل على المضي قدماً في زيادة البناء في المستوطنات في الضفة الغربية، وما يعنيه ذلك من زيادة حجم التحديات الناجمة عن الضغوط الجماهيرية.
وهذا يدل على أن هذه عوامل تبدو كلها بأنها خلقت بالفعل مأزقاً سياسياً في الساحة الفلسطينية ، أضعفت موقف القيادة الفلسطينية التي تخشى أن تواجه غضباً شعبياً جديداً نتيجة الفساد والقمع ومصادرة حرية الرأي، وأفقدت حركة حماس توازنها وأضعفت موقفها وجعلتها في حالة قلق من المستقبل ومتطلباته.
أيضاً لا يمكن إغفال تعالي الأصوات الدولية التي بدأت تتحدث بصراحة ووضوح وجرأة أكثر من الماضي عن ضرورة وضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني المكلوم في سياق التحديات التي تواجه المنطقة، واستشعارا بالمخاطر التي تحيق بها، ورغبة باحتواء أي غضب متزايد لربما تنطلق شرارته في أي لحظة وتتسع رقعته ويخرج عن السيطرة ويزيد الأمور تعقيداً، مما جعل هناك ضرورة مُلِحَة لوحدة بين أصحاب الشأن لاستغلال هذا التطور في الموقف الدولي والإقليمي من جهة ، ومن جهة أخرى للحفاظ على تواجدهم في المشهد الفلسطيني أمام العواصف القادمة ، حتى يتمكنوا من الصمود ويتحركوا في اتجاه جلب المزيد من التعاطف لصالح قضيتهم بعد فقدان الزخم الذي كانت تتمتع به سابقاً.
هذا يعني أن الحراك القائم بخصوص المصالحة الفلسطينية وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية ، هو في الحقيقة ليس حراكاً فلسطينياً بحتاً ، لا بل هو حراك إقليمي بموافقة دولية لمواجهة تحديات مأزق سياسي يعصف بالمنطقة ووضع إقليمي معقد يتم رسم تحالفاته من جديد في سياق متطلبات المصالح القائمة والتهديدات التي تواجهها. ولكي ينجح ذلك ، أصبح هناك حاجة إلى تهدئة بؤر مركزية متوترة في المنطقة خاصة فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي له تأثيراته الإيجابية والسلبية حسب المد والجزر في حال الاستقرار والهدوء والتوتر على صعيد هذا الملف المأزوم بشكل مستمر.
في تقديري أنه من المعطيات السابقة ولكي تنجح هذه الحكومة في مهمتها ولا يفشل تشكيلها مرة أخرى ، لابد من الإدراك بأنها بحاجة إلى تحديد آليات عملها والتوافق على ذلك بمسؤولية، واختيار أدواتها المناسبة التي من المفترض أن تكون خالية من أي أسماء تعيق فتح أبواب المجتمع الدولي أمامها في هذا الوقت الحساس وذلك لتحمل المسؤولية الوطنية والأخلاقية والانطلاق من خلالها للتحضير لانتخابات عامة تفرز قيادة وطنية جديدة مؤهلة وتؤمن بالبناء والحوار والمنطق السياسي وتتجاوز سياسة الإقصاء في وطن هو للجميع ومن أجل الجميع.
ولكي ينجح هذا الحراك بالفعل ويساعد الرئيس محمود عباس في مواجهة التحديات المستقبلية ، أعتقد أن هذه الحكومة بحاجة إلى شخصية قوية لرئاستها، تحظى بصلاحيات واسعة وقادرة على محاكاة المجتمع الدولي وفتح بواباته المغلقة، وهناك شخصيات فلسطينية تتمتع بهذه الصفات بجدارة وليس لديها مشاكل معقدة مع أطراف الحوار أو اي طرف فلسطيني أخر مع الـتأكيد على أن هذا الاقتراح لا يقلل من شأن أحد آخر ، حتى لا يكون هناك تخوفات وقلق، هما د. سلام فياض كرئيس للوزراء ود. ناصر القدوة كوزير للخارجية من جديد، أو إيجاد شخصيات بديلة ولكن بشرط أن تتمتع بنفس الثقة والصفات المهنية والعلاقات الدولية التي يتمتع بها كليهما .
هنا ، يبقى السؤال المهم مطروحاً ومفتوحاً، وهو ماذا يريد الفلسطينيين من أنفسهم ومن الأخرين لتحقيق ذلك بعد كل هذه المعاناة واستنفاذ كل هذا الوقت لصالح منتفعين وبعيدين كل البعد عن هموم أبناء شعبهم وتطلعاتهم، غير وحدتهم والتعالي على جراحهم وخلافاتهم والقبول بأن يكونوا جزءاً من المعادلة الدولية ويحترموا متطلباتها بمهنية ودوافع وطنية وعلى أساس بناء مصالح مشتركة، حتى يستطيعوا حماية أجيال كاملة من الضياع وفقدان الأمل؟!.
ذلك حتى يثبتوا للعالم بأنهم يستحقوا دولة لشعب يستحق الحياة ، لا زال يملك مفاتيح الاستقرار في المنطقة ويتطلع لحقه بأن يعيش بأمن وأمان وسلام كباقي الأمم ويستحق قيادة تجلب له الأمل وتبني له مستقبل منير ومزدهر بالشراكة وحسن الجوار، لا أن تتقاسم الأدوار وتتاجر بآلامه وأوجاعه كلما وقعت في مأزقٍ، وذلك من أجل الاستمرار في استغلال مقدراته والتغول على مستقبل أبنائه.
أخيراً وفي هذه المرة بالذات وبعد أن طفح الكيل في نفوس المواطنين ، لم يعد هناك من أنباء الشعب الفلسطيني ، من هو على استعداد لتحمل المزيد من الفشل لأن غالبية أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات إلا المنتفعين منهم من بقاء هذا الحال على ما هو عليه ، بدأوا يشعرون بالتذمر من الاستمرار بالسلوك الهمجي الذي يتغول على أحلام أبنائهم ويستخف بتطلعاتهم!.