الجمعة 9/9/1444 هـ الموافق 31/03/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
البيئة الإقليمية وتحديات الأمن القومي الخليجي....أحمد سمير القدرة

 

 ما تزال منطقة الشرق الأوسط تشهد تطورات وتغيرات دراماتيكية المتسارعة, أثرت بشكل مباشر على الأمن والاستقرار كما تعرض الأمن القومي للعديد من دول المنطقة للتهديد والخطر وتحديات كبرى، جراء ما تشهده من حروب وتنافس وبناء شبكة تحالفات بين القوى الإقليمية والدولية لفرض سيطرتها ونفوذها وهيمنتها لتصبح صاحبة القرار وتملي الشروط على دول المنطقة بأسرها، في ظل تنامي قوة وخطر الجماعات والتنظيمات الإرهابية, وبروز قوى فاعلة من غير الدول أثرت في مجريات الأحداث والتطورات التي تشهدها المنطقة برمتها.  لقد شهدت منطقة الشرق الأوسط مطلع 2011 حالة من عدم الاستقرار والاضطرابات وتفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أثرت بشكل كبير على الأمن الداخلي وتعرض الأمن القومي لجملة من التهديدات والتحديات, نظراً لاستغلال القوى الإقليمية والدولية الطامحة للتمدد والنفوذ وكسب دور متقدم ومؤثر تلك التطورات للاستفادة منها خدمة لمصالحها وأهدافها ومشاريعها السياسية والاقتصادية والطائفية الرامية إلى إضعاف وتفتيت وتجريد الدولة من قوتها وجعلها دول ضعيفة تابعة وتنفذ سياسة الدول الكبرى المهيمنة، والتي دأبت بشكل مباشر وغير مباشر التدخل في الشؤون الداخلية للدول, من خلال تقديم الدعم المادي والسياسي والعسكري والإعلامي لحلفائها وأتباعها وتأييد مطالبهم, من خلال التغلغل والتأثير في التركيبة السياسية والاجتماعية للدولة، مستغلة الفجوة بين النظام السياسي والقوى المعارضة, بهدف ضرب الوحدة والاستقرار الداخلي للدولة والتأثير في القرار السياسي.

إن الأهمية الاستراتيجية التي تتميز بها منطقة الخليج العربي, جعلها محط أطماع وتنافس القوى الإقليمية والدولية والقوى والجماعات الفاعلة من غير الدول, كما جعلها عرضة للكثير من التهديدات والأخطار ومحاولات زعزعة أمن واستقرار دول الخليج في ظل ما تشهده المنطقة من فوضى وعدم استقرار, سواء داخلياً أو خارجياً من خلال إثارة المشاكل والنزعة الطائفية أو من خلال تنفيذ الأعمال الإرهابية, كما هو حاصل في سورية والعراق واليمن, فالنزعة والروح والفتنة الطائفية أصبحت سائدة ومتجذرة, إذ أن الصراع الدائر على السلطة تغذيه الروح الطائفية والأفكار والتوجهات التكفيرية الإرهابية, بدعم ومساندة القوى الإقليمية والدولية المتنافسة لبسط النفوذ والسيطرة على منطقة الشرق الأوسط، فشكلت مصدر تهديد للأمن القومي الخليجي لضرب حالة الاستقرار السياسي والتطور والتنمية الاقتصادية والسلم الاجتماعي بإثارة الفتنة الطائفية بين مكونات المجتمع الخليجي.

إن الأمن القومي الخليجي جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن القومي العربي بشكل خاص والشرق الأوسط بشكل عام، فالبيئة التي تقع ضمنها دول الخليج العربي بيئة إقليمية مضطربة تشهد تطورات ومتغيرات دراماتيكية متسارعة أفرزت الصراعات والحروب, وبالتالي لم تكن دول الخليج العربي بمعزل عن آثار وتداعيات وارتداد الأزمات التي رافقت ثورات الربيع العربي، وهو ما كان واضحاً حين اندلاع الحراك الاجتماعي في مملكة البحرين واليمن.

إن أبرز التحديات التي تعرض لها الأمن القومي الخليجي منذ ثورات الربيع العربي بشكل خاص والذي تعتبر جزءً لا يتجزأ من مجمل التحديات التي تعرضت لها دول الخليج العربي، والتي يمكن الإشارة إليها بشكل موجز وهي: أولاً: الأطماع والمخططات الإيرانية تجاه دول الخليج العربي في محاولة لتصدير ثورتها من خلال استغلال البُعد الطائفي للنفوذ وضرب حالة الاستقرار والتأثير في المكون الاجتماعي مستغلة حالة الفراغ والضعف السياسي والأحداث والمتغيرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط إبان سقوط النظام العراقي لتنفيذ مآربها تجاه دول الخليج العربي، ثانياً: حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي أدت إلى اندلاع الحروب والصراعات ذات المنطلقات الطائفية والعرقية والقومية, ثالثاً: بروز وظهور الجماعات والتنظيمات الإرهابية المتطرفة المتمثلة بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتزايد تهديد وخطر تلك الجماعات على أمن واستقرار المنطقة العربية بشكل عام ودول الخليج العربي بشكل خاص, رابعاً: تزايد موجة التدخلات الإقليمية والدولية والتنافس فيما بينها للسيطرة وفرض سياستها ومخططاتها في المنطقة من خلال تشكيل التحالفات والاستقطابات والاستفادة من التجاذبات بين الأطراف المتصارعة وفق أهداف وأجندات تلك القوى الطامحة في الهيمنة والاضطلاع بدور قيادي مؤثر ومتقدم في المنطقة, حمايةً وتأميناً لمصالحها وخدمة لمشاريعها ومخططاتها الهادفة إلى إضعاف وتقسيم المنطقة إلى دويلات وكنتونات وفق معايير طائفية وعرقية وقومية.

إن ثورات الربيع العربي والتحولات التي رافقتها في البيئة الإقليمية أدت إلى تزايد الدور والسياسة الإيرانية في المنطقة, ما أدى إلى ارتفاع وتيرة التنافس والتدخل وتزايد مناطق الاشتباك غير المباشرة وغير المعلنة بين دول الخليج العربي وإيران, إذ استغلت إيران الأحداث الجارية في الدول العربية وبدأت بدعم القوى والجماعات وتوظيفها لتحقيق السياسة والأهداف والأطماع والتطلعات الإيرانية جراء الفراغ السياسي وتراجع للدور والسياسة الإقليمية المصرية والأردنية والعراقية، والذي ظهر جلياً من خلال دعم السياسي والعسكري والمالي والإعلامي لحلفائها في سورية والعراق واليمن والبحرين ولبنان. من جهة أخرى بالتوازي مع الدور الإيراني المتنامي في المنطقة نرى بشكل واضح أيضاً تنامي ملحوظ للدور التركي في منطقة الشرق الأوسط, منذ وصول حزب العدالة والتنمية للحكم, والذي أصبح أكثر وضوحاً وتأثيراً منذ ثورات الربيع العربي, الذي تمثل بدعم الثورات ومساندتها واحتواء المعارضة وتقديم الدعم السياسي والمادي لها تحديداً في سورية ومصر, ما أوجد حالة من التنافس بين إيران وتركيا أيضاً، وبنظرة سريعة ومبسطة نجد أن التنافس القائم بين إيران وتركيا يندرج ضمن إطار التنافس المبني على محاولة كل منهما تنفيذ وفرض مشروعها وتطلعاتها الإقليمية في ظل غياب مشروع عربي قوي موازي لهما, ما أوجد في المنطقة معسكرين وبدأت الاصطفافات والتحالفات في التشكل, أدى لتعرض الأمن القومي الخليجي لمزيد من التهديد والخطر, ما دفع دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية إلى الإعلان عن تشكيل تحالف عسكري عربي للتصدي للانقلاب الحوثي في اليمن, ومن ثم تشكيل تحالف عسكري إسلامي للتصدي لخطر الجماعات والتنظيمات الإرهابية, وبدأت دول الخليج وبشكل خاص السعودية بزيادة دورها ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط وتحديداً منذ تولي الملك سلمان مقاليد الحكم, وبدأ بتحديد ملامح سياستها الخارجية الجديدة بما يتلاءم ويتوافق مع طبيعة الأحداث والتطورات في منطقة الشرق الأوسط, حيث أحدثت السعودية أولاً: تغيرات جزئية في نهج سياستها الخارجية, ثانياً: تنشيط بعض الملفات الخارجية الحرجة, ثالثاً: عودة القوة المرنة المتمثلة في الخطاب الديني المعتدل, رابعاً: بروز مفهوم الردع الأمني والدفاعي الإقليمي ليقابل استراتيجية الردع الإيرانية والإسرائيلية والتنسيق مع الدول الإقليمية في المنطقة وتحديداً مصر وتركيا, خامساً: تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك واتخاذ قرارات سريعة وفاعلة بما يتماشى مع الأحداث والتطورات, من جهة أخرى وفي سياق الوصول إلى تحقيق الهدف الثابت وضمن سياستها الخارجية اعتمدت في تحقيق أهدافها على، أولاً: ضرورة اتباع سياسة جادة تقوم على مبدأ الدبلوماسية وحسن الجوار، ثانياً: الاعتماد على أسلوب المفاوضات والحوار كطريق لحل الأزمات, ثالثاً: رفضها التدخل في شؤونها الداخلية، رابعاً: تعزيز علاقاتها مع دول الجوار العربية والإسلامية خدمة للمصالح المشتركة. إن أبرز تطور في السياسة السعودية الجديدة تقارب وتطور العلاقات السعودية التركية بعد مرحلة من التوتر والخلاف والركود إزاء العديد من قضايا المنطقة, كونهما مكملين لبعضهما البعض سياسياً واقتصادياً وجيوستراتيجياً ودينياً, وهذا ظهر بشكل بالإعلان عن تأسيس مجلس التعاون الاستراتيجي بين الرياض وأنقرة, وهو مؤشر واضح على ارتفاع وتيرة وتصاعد التعاون والتوافق بين البلدين في العديد من القضايا الإقليمية الهامة وخاصة تجاه الأزمة السورية, هذا التقارب والتحالف كان له أسبابه التالية: أولاً: مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة منذ الربيع العربي والاتفاق النووي، ثانياً: تنامي نفوذ وقوة الحشد الشعبي في العراق وجماعة الحوثيين في اليمن, ثالثاً: مواجهة الخطاب الطائفي الذي تستخدمه إيران كورقة رابحة وقوية في بناء تحالفاتها مع الأحزاب والتنظيمات في الدول المجاورة, رابعاً: تعاظم قوة ودور الجماعات والتنظيمات الإرهابية، خامساً: اهتزاز الثقة بالسياسة الأمريكية بعد تراجع سياستها في المنطقة التي شكلت مصدر قلق كبير للرياض وأنقرة, سادساً: مواجهة التحالف الإيراني الروسي ضمن سياسة المحاور الإقليمية التي تعتبر عاملاً يؤثر على السياسة والطموح السعودي والتركي ويدعم التوجهات الإيرانية, سابعاً: ضعف وتراجع النظام الإقليمي العربي وضعف الدولة المركزية في دول المنطقة الذي نتج عنه صراع الهوية في مصر والعراق وسورية، ثامناً: تنامي خطر التهديد الكردي المدعوم من روسيا، تاسعاً: المتطلبات العسكرية والاقتصادية المتبادلة للرياض وأنقرة.

هذا التحالف والتقارب السعودي التركي على الرغم من وجود اختلاف في بعض القضايا والملفات وخاصة الحالة المصرية، إلا أنه يمثل نقطة تحول مركزية ستكون بمثابة قوة ردع وركيزة أساسية لإعادة مبدأ التوازن الإقليمي والدولي بشكل كبير لمواجهة التهديدات والتحديات التي تتعرض لها منطقة الخليج العربي بشكل خاص والشرق الأوسط بشكل عام، هذا التقارب والتوافق قائم ومبني على المصالح الاستراتيجية بين الرياض وأنقرة. لقد شكلت تطورات الربيع العربي منحى تصاعدي تنافسي بين الرياض وطهران في الكثير من الجبهات وخاصة في سورية والعراق واليمن ولبنان والبحرين, لما تشكله هذه الدول من أهمية استراتيجية بالنسبة لإيران, وما تمثله من عمق استراتيجي للأمن القومي الخليجي بشكل عام والسعودي بشكل خاص, من جهة أخرى مثلت البيئة الإقليمية المضطربة نقطة مهمة لتطور العلاقات الاستراتيجية بين الرياض وأنقرة.

لقد استطاعت دول الخليج العربي بقيادة السعودية أن تغير من استراتيجية التعامل والتدخل في المنطقة, وذلك من خلال بناء وتفعيل استراتيجية الدفاع الوقائية للتعامل مع كافة التهديدات والتحديات والمخاطر التي تحيط بمنطقة الخليج العربي وتهدد أمنها القومي, وبناء التحالفات وتطوير العلاقات الاستراتيجية مع الدول الإقليمية القوية ذات المصالح المشتركة، في ظل جود شبكة معقدة من التحالفات والتكتلات, حمايةً ودفاعاً عن أمنها القومي وزيادة قوتها ونفوذها وتأثيرها ووجودها في السياسة الإقليمية والدولية وتحديد الملامح الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط الآخذة بالتشكل, وترتيب الأدوار والأوراق والحسابات لكافة القوى, وإعادة صياغة المفاهيم والتوازنات السياسية والعسكرية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط مستفيدة من صعود وهبوط وتبدل لأدوار وسياسة القوى الإقليمية والدولية الكبرى.

 

 

 

 

أحمد سمير القدرة

باحث ومختص في العلاقات الدولية

[email protected]

2017-01-25