الجمعة 21/9/1446 هـ الموافق 21/03/2025 م الساعه (القدس) (غرينتش)
رؤى نقدية في رواية المأدبة الحمراء للكاتب محمد هاني أبو زياد/تقديم آمال غزال

الكاتب الروائي / عاشق فلسطين   من مواليد  سنة 1993م من العيزرية بالقدس المحتلة ،   عاش وترعرع  بالمملكة العربية السعودية جسدا ، لتظل روحه تنشد وطنا يعشقه ويعشقه ، فيجبره على العودة اليه ، ليتنفسه مع كل حرف ، ومع كل صبح ، فيغازله مع كل فنحان قهوة ، إنه الروائي(محمد هاني أبو زياد)  الحاصل على شهادة البكالوريوس في علم النفس من جامعة القدس ، و شهادات دبلوم ثلاث في التمريض، والإدارة الصحية ، والعلاج الطبيعي .  وبحكم دراسته ، وتخصصاته المهنية ، فقد تعامل مع سجناء، ومرضى نفسيين  ، ومدمني مخدرات ، فانعكس ذلك في أسلوبه الكتابي فبرزت ملامح وهوية لونه الأدبي فكان بوليسيا بامتياز ، و بمأدبته الحمراء هذه ، والتي حاكي بها الأدب الغربي من حيث الجنس ، والهيئة والمضمون ، ليكون بذلك  أخطله وبطل روايته  ، كما شارلوك هولمز ، والمحقق كونان ، وهركيول بواريه ، ومس ماربل أبطال الأدب البوليسي العالمي .

المأدبة الحمراء رواية بوليسية  صدرت عن دار البيرق العربي للنشر والتوزيع/ برام الله  في أيلول من عام 2016م ،  تقع  في 246 صفحة من القطع المتوسط ،  وبواقع 54 فصل ، كل منها يوثق مكانا أو موقعا أثريا او مدينة يونانية  وبذلك يكون الإطار المكاني الطوبوغرافي  هو اليونان  ، بيد أننا لا نستطيع تحييدها بالكامل عن الواقع الفلسطيني  وما يتعرض له من بطش ، وعقاب وقتل جماعي ، واعتداء ومصادرة للمدخرات والممتلكات  بحجج  واهية ، باطلة .

 

المأدبة الحمراء  عنوان لافت يثير شهية العقل ، ليتناول وجبة غير عادية ، فسيل لعابه في الحال ، فيهرع للرواية باحثا  بين دفتيها ، فتدفعه للإبحار والغوص في ثبجها  لاستكشاف كمائنها ومكنوناتها ، ليعود ممتلئ الجيوب   ، نعم ، إنه عنوان يشكل فضاء تشويقيا يحفز القارئ للاستغراق أكثر فأكثر في عمقها ، كي يجيب  على تساؤلات توالدت تلقائيا عن مكنوناتٍ وخفايا .  فما هي المأدبة الحمراء؟ والى ماذا ترمز ؟

 وكيف لمأدبة عادية بأن تكون حمراء اللون ؟

  وهل اللون الأحمر كناية عن لون الدم ، ام لون الأطباق ، ام لون الطاولة ام هو عائد  لشيء آخر ؟

وهل هي المأدبة  كما نعرفها أم مأدبة من نوع آخر ؟

 جميع هذه الأسئلة وغيرها تدور في فلك القارئ ،فتأتي الإجابة  مجلجلة  ،  صاخبة بقلم الروائي  ( محمد هاني أبو زياد)، مباغتةً  القارئ  بإيقاعها الجنائزي، الذي يحاكي الأدب الغربي  ليحمله إلى عالم الجريمة بأحداث متسلسلة ومشاهد ناطقة  ، ليعده بحتمية تحقيق العدالة في النهاية . فالكاتب يوظف المعارف والحقائق والأحلام في نص ثقافي ، ضمن رؤية فنية لتأخذ شكلا وطابعا  ظهر فيه التخيل المؤطر بقضايا التحري والتحقيق وفك الألغاز المتشابكة ، كما هي في فنون كتابة الرواية السوداء ، فها هو يحملنا على جناحي المغامرة والإثارة ، ليدخلنا عوالم ومحطات  ستّا وهي :- متحف الأكروبول بمدينة أثينا  ، منزل حمراء القمر ، أو( قمر الدم) أكروبوليس بأثينا ، مسرح أبولو ،مستشفى أثينا ، محطة القطار دلفي ، كوخ المختطفين.

لكن قصر حمراء القمر كان الموقع الأبرز  فهو المسرح الذي شهد الأحداث الأكثر دموية في هذه الرواية ، والمكان الأهم  فهو مكان  الكنز الذي خبأه والد الأخطل فقد هجر أمه وابتعد عنهم منذ عشرين عاما ، وبعد وصول رسالة الأخطل إليه علم أن له حفيدة اسمها سابرينا  فقرر ترك ميراثه لها  فأخفاه بطريقة فنية داخل لوحة تشكيلية كبيرة  رسمت ببراعة لتجسد  شخصية الحر أو(بارون الملوك)  وهو شخص مجرم،سفاح . وهذه اللوحة الثمينة فيعتبر امتلاكها كنزا لأصحاب الطبقة البرجوازية ، أما الكنز الحقيقي فقد علم به  آلفيوس الخبير بعلم الآثار وصديق الأخطل .

استهل  الكاتب روايته بمشهد حركي  تتوالد عنه أحداث عنقودية، متشابكة لتكشف  في نهايتها حقيقة آلفيوس ، فهو رئيس العصابة ، والمجرم الدموي الحاقد ،  الطامع  بامتلاك الكنز ، غير آبه بالضحايا حتى وان كان ولده  لتأتي عدالة السماء وينال عقابه برصاصة من ابنه آكون .

 

 

 

 

نعم هذه رواية المأدبة الحمراء ،  وهذه قدرة الكاتب وبراعته  بالوصف السردي، الذي يوصل القارئ للدخول إلى مشاهد حركية ، تقترب من مشاهد سينمائية  ثلاثية الأبعاد  ، كما أن استخدامه للّون ومؤثراته ومدلولاته  يخلق التفاعل الحسي  عند القارئ بذلك الإيقاع الصاخب للحدث وتدرجه بين صعود ،وهبوط ، واستقرار يشد انتباه القارئ وينشط قدرته العقلية ليحفزه على التركيز والمتابعة للأحداث التي اتسمت بالعنقودية، حيث استخدم الكاتب هذه التقنية الأسلوبية بمشهد مألوف لينبثق عنه سلسلة من الأحداث والمشاهد البصرية والنفسية والحوارات المتشابكة لتكون هذا النسيج المتناغم .

أما عنصر التشويق  في هذه الرواية ، فقد رسم مسارات  لعدد من التقنيات والعناصر،  لتجعل منه أساسا قائما بالنص،وضمن بنية التخيل فيه،  فكان  المحرك لباقي العناصر الفنية الأخرى.

كما أن الكاتب استخدم  لغة البياض :  وهي ظاهرة الحذف لأجزاء من الحوار،بحيث تسكت الشخصية قبل اتمام المعنى ، ليثير قريحة القارئ للفضول  والاستزادة  .

أيضا  نجده في مواقع كثيرة لجأ لتكرار الاستفهام ، بغرض التأثير والإثارة فالسؤال يعيد القارئ الى بنية النص بقوة مضاعفة،  اذا كان ذهنه في حالة استرخاء وشرود.

كما عمد الكاتب للوصف المتقطع لبعض الشخصيات في الرواية، ليرسم الملامح الجسمانية والصفات النفسية لهم بمشاهد متقطعة ومتباعدة .

نجده أيضا استخدم  تقنية المعمار السردي، ليجسد خفايا النفس الانسانية بحوار صامت ،تلجأ اليه الشخصية لما يقتضيه الموقف تأملا وتفكيرا عميقا ، كما نجد عنده التقنيات والعناصر الأساسية والثانوية ، المتوفرة بالروايات  البوليسية  كالحبكة المتماسكة، والصراع الداخلي والخارجي للشخوص ، والانسجام والتلاحم بين المقدمة والخاتمة وتقنيات أخرى، فنرى الكاتب في بعض المواقع من الرواية يهمس للتلميح دون التصريح عن حقيقة اللغز المؤدي للكنز قبل أن يتم الإفصاح عنه بالفصل  (46 ) ، وبالتأكيد هذا سيقودنا للحديث عن الرواية البوليسية أو الرواية السوداء كجنس أدبي قائم بحد ذاته أي بالمعنى الأجناسي كما حددها منظرو هذا الجنس الأدبي رغم صعوبة تحديده ، فهو يختلط بغيره من الأجناس السردية الأخرى في كثير من العناصر الأساسية و الثانوية ، إلا أنه يمكننا القول بأن الأدب البوليسي يأتي على شكلين :-

الأول  :- نصوص تستثمر الحبكة البوليسية دون نية كتابتها رغم انها جاءت بإيقاع بوليسي وتشترك معه ببعض العناصر ، كما في  رواية " اللص والكلاب " للكاتب نجيب محفوظ

والثاني :-  قصة بوليسية نموذجية، تقوم بالأساس على جريمة، ومجرم ، وعصابة ،وألغاز،ومحقق، فهي نصوص مبنية على الاثارة والتشويق ، مع التركيز على الصراع وتأويلاته بلغة قادرة على خدمة هذا الجنس الأدبي

 

 وبقراءة سريعة لتاريخ الرواية البوليسية :  

 نجد أنها نتاج حمم الحضارة المتمدنة ، لكن هذا لا ينفي وجود بعض عناصرها في الأعمال الأدبية القديمة  ، فالإلياذة في كثير من مقاطعها تتعرض لتشرد البطل وما يتبعه من تنقيب وبحث ،وجرائم ، ومعارك،وقتل جماعي للفوز بالأميرة في نهاية المطاف ، كما أن القصص الشعبية العربية ، والأساطير الإغريقية ، وحكايات ألف ليلة وليلة يسكنها هذا الجنس الأدبي، فهي زاخرة بالجريمة وتعدد طرق البحث عن المجرم ، والأرجح فإن الرواية البوليسية ترجع أصولها الأولى ، مع بداية ظهور الإنسان على هذه الخليقة ، حين قتل قابيل أخاه هابيل  وهذا موثق بالكتب الدينية.

إلا أنه لم يتم الاعتراف بها  كجنس  أدبي إلا بعد القرن التاسع عشر، فكانت ظاهرة فنية أدبية عكست وضعا اجتماعيا وفكريا واقتصاديا لمجتمع خاض صراعا حضاريا،  وتحول في مجال العلاقات الاجتماعية ،  كما أن العوامل الاقتصادية وفي مقدمتها النزوح نحو المدن وما سببه من مشكلات نتيجة التجمع السكاني الكثيف ، أدت لظهور مشكلات اجتماعية متعددة مثل البطالة، والإجرام وغيرها ، فاعتبرت الرواية البوليسية متنفسا للطبقة البرجوازية للهروب من المضايقات الحياتية، لذا ترعرعت  بالدول الغربية.

 نسب البعض نشأتها الى الكاتب الفرنسي فولتير في روايته (زاديج) الصادرة سنة 1747م، أما بعض المؤرخين فينسبونها الى الكاتب( أدغار ألآن بو) ولروايته " جرائم شارع مورج" الصادرة سنة 1841 فقد اعتبروه مؤسس العقدة البوليسية،التي لا تزال معتمدة الى الآن ، ثم جاء أرثر كونان دويل الذي يعد مع أجاثا كريستي أشهر من كتب في الرواية البوليسية على الإطلاق ، فالأول ابتكر شخصية " شارلوك هولمز" الذي يعد أشهر محقق جنائي في أدب الرواية البوليسية ، أما كريستي فقد كتبت سلسلة من الروايات البوليسية ومن بينها رواية " جريمة على قطار الشرق السريع " التي حققت بفترة أعلى نسبة مبيعات .

وتحتل الروايات البوليسية في الغرب القائمة الأكثر مبيعا خاصة الروايات المعتمدة على الحبكة البوليسية مثل رواية "اسم الوردة "لأمبيرتو ايكو ،"وشيفرة دافنشي" لدان براون كونها تحمل عنصر الإثارة ولغة سهلة تتحدى فطنة القارئ عبر منحنياتها التي تستفز ذكاءه وتستدعي قدراته التخيلية ،لنجد أن الكثير منها شكل نسيجا لصناعة الأفلام فتحولت معظمها لأعمال سينمائية وتلفزيونية لتحقق بدورها أعلى الايرادات .

أما بالنسبة للقصة البوليسية في الوطن العربي عموما ، ورغم وجود قاعدة واسعة من القراء لهذا اللون الأدبي فإن نتاجها متعثر، فلم تتبلور رواية عربية بوليسية بالمواصفات المعروفة بالأدب الغربي .   

  وعن التجربة الفلسطينية ، فقد كتب الأديب غسان كنفاني رواية من قتل ليلى الحايك ولها عنوان ثان  " الشيء الآخر " فهي عمل بوليسي لم نألفه في نتاج كنفاني ، الرواية لم تتحدث عن عالم الجريمة فقط ،بل انطلق الكاتب من حادثة القتل، ليحاكم القضايا الكبرى مثل الحب والعدالة والزواج والخيانة  فكانت روايته رواية مواقف وتأملات أكثر ما تكون رواية حالات، رغم أنها لم تحظّ بالاهتمام نقدا ونشرا كباقي نتاجه الأدبي برغم قربها من روايات أجاثا كريستي الحافلة بالغموض والمغامرات والرعب فلم تطبع وتنشر إلا بعد  استشهاده.

وبمقارنة سريعة بيننا وبين الغرب في مجال القصة البوليسية ،فلا تزال النتيجة تحسم لصالحهم، لأننا ربما لا نعتد بهذا الجنس كما نعتد  بغيره من الأصناف الأدبية الأخرى ،لذا لم تنل حقها بالتشريح والدراسة والنقد . 

 

وهذا يقودنا الى مجموعة من الأسئلة  :-

أين نحن من الأدب البوليسي العالمي، وما هي أسباب قلته أو انعدامه؟
هل نحن نستخف ونستهين بهذا الجنس الأدبي ؟
هل تتطلب كتابة هذا الصنف من الأدب مهارات وخيالا خاصا لا يمتلكها الكاتب العربي؟
هل لأننا نعيش في مجتمع بوليسي نتنفسه يوميا بمقارنته بالمجتمع الغربي الذي يعتبر الأدب البوليسي لونا طريفا ؟
هل تعتبر الكتابة عن عالم  الجريمة خطوطا حمراء ؟؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

2017-01-27