الأحد 16/10/1444 هـ الموافق 07/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
كتاب 'رؤيا خير الدين التونسي' استدعاء التاريخ لرجّ الحاضر.... جوزيف غطاس كرم

كعادته، عندما يعود إلى باريس من سفرة ما خارج فرنسا، يحمل مؤسس "المركز الدولي للتواصل الإنساني" في باريس، الأديب التونسي الصحافي "الطاهر العبيدي" كتباً يقدّمها إلى أعضاء المركز كهدايا، وكان نصيبي من هداياه هذه المرّة، كتاب "رؤيا خير الدين التونسي" للمؤلف الأستاذ "أحمد رضا حمدي".

وحين بدأت تصفّح هذه الوثيقة فاجئني تراكم الأسطر فوق بعضها البعض، وتكدّس الكتابة بشكل غير مريح وغير مغري للقراءة، وصعوبة حركة العيون للتنقل بين الصفحات ممّا أجبرني أن أضع الكتاب جانباً مؤجلاً القراءة وممتعضا من شكل الإخراج والتوزيع ونوعية الورق..بعد مدة من الزمن، تشجّعت، واتخذت قراراً بتجاوز ما يزعج نظري من الأسطر المتراكمة والمحشوّة طباعيا، فبدأت بالقراءة التي سرعان ما انتشلتني مما كنت فيه من انزعاج، لقد بهرني أسلوب الكاتب القصصي الشيّق، الذي زاوج بين المتن والسند واستدعاء التاريخ مرتديا الوقائع والأحداث المسنودة  بالحجج والدلائل مما حرّضني إلى مرافقته والولوج معه إلى خبايا التاريخ التونسي، ومشاطرته توقه العارم باتجاه كشف ما تحتويه تلك المنعرجات من نفائس التاريخ التونسي المغمور، كما شدّني تسلسل الفقرات النابضة بمقوّمات الحياة بما فيها من تضاد خير وشر- لقاء وفراق- نجاح وفشل- شجاعة وجبن- وفاء وغدر-...

فكان كتاب "رؤيا خير الدين التونسي" لمؤلفه الأستاذ "احمد رضا حمدي"، استقصاء تاريخي في خمسة فصول وضعها الكاتب بين يدي القرّاء...لمعرفة أهم المحطات التاريخية التي مرّت بها تونس في القرن التاسع عشر، محاولا إنارة الطريق ودعوة القارئ لمرافقتة في رحلة استكشاف بين ممرات التاريخ التونسي المبثوث  في سراديب النسيان، مقتحما أسوار الإهمال الذي لحق برجالها الأفاضل، كي يعيد صياغتها في الوجدان، ثم يبعثها في ذهن القارئ شرارة تشتفز المتابع للولوج معه طواعية إلى خيام التاريخ دون حواجز ليجالس "ثلة من العلماء، ومشايخ جامع الزيتونة المعمور... وغيرهم، سواء في القصر أو في المجالس الخاصة..." والذين لمس عندهم " حباً كبيراً لتونس، وحرصهم على الإصلاح والتمدن". ص 20.

قلم يقتحم سراديب النسيان

يوفر الكتاب فرصة للقارئ كي يلتقي وجها لوجه عبر فصول كتاب "رؤيا خير الدين التونسي" بأناس يجسّدون صفحة من أسطر التاريخ الفكري، الديني، الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي والعسكري لتونس في مفارقات مثيرة آسرة، ويعايش شخصيات الكتاب كأنهم أحياء يرزقون، يشاطرهم فرحهم وحزنهم، سعادتهم وشقاءهم، تضحياتهم وخيانتهم، ومنخرطا وجدانيا في تحركاتهم رغم تراكم السنين التي تفصله عنهم، فيجتمع مع الشيخ "ابراهيم الرياحي"، شيخ علماء تونس، وباش مفتي المذهب المالكي الذي كان يقضي بين العباد بالعدل والرحمة،

ويحضر مجالس "البايات" ووزراءهم الشرفاء منهم، والخونة، ويعاين عن قرب تصرّفات الصادقين، والمتزلفين،ويندمج حسّيا مع هذه المرحلة التاريخية التي لا تشذ عن هذا الزمن الرديء حيث الخيانة والعمالة للأجنبي هما سيّدا الموقف.

 

عهد الأمان سبق تونسي بامتباز

 انتبه الكتاب إلى التطرق لوثيقة عهد الأمان الصادرة سنة 1857 التي اختصّت بها تونس دون غيرها والتي  جلبت اهتمام العالم الذي تابعها مباشرة في حفل دولي مما أعطى تونس مكانة عالية رغم صغر حجمها الجغرافي فكانت وثيقة عهد الأمان نقلة نوعية في اتجاه رسم خريطة التعايش المدني والحضاري بين مختلف الأديان ضمن المشترك الإنساني للبلد الواحد حيث كان "عهد الأمان" مستمدا من وحي العهدتين النبوية والعمرية، ومصاغا من طرف "خيرة علماء تونس وعقلائها" ص.57.

والذي تأكد بعض بنوده على توفير الأمان، لسائر رعيتنا وسكان إياليتنا على اختلاف الأديان، والألسنة والألوان، في أبدانهم المكرمة، وأموالهم المحرمة، وأعراضهم المحترمة، إلا بحق يوجبه المجلس بالمشورة ويرفعه إلينا، ولنا النظر في الإمضاء أو التخفيف ما أمكن أو الإذن بإعادة النظر."

والتسوية بين المسلم وغيره من سكان الإيالة في استحقاق الإنصاف، لأن استحقاقه لذلك بوصف الإنسانية لا بغيره من الأوصاف.

كما إن الذمّي من رعيتنا لا يجبر على تبديل دينه، ولا يمنع من إجراء ما يلزم ديانته، ولا تمتهن مجامعهم، ويكون لها الأمان من الإذاية والامتهان، لأن ذمتهم تقتضي أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا." ص.58 و 59. 

فكم نحن بحاجة في مجتمعاتنا العربية، وفي جميع المجتمعات العالمية التي تضم بين أوطانها مجموعات بشرية متنوعة الأعراق والأديان والأفكار إلى استلهام بنود مثل هذه القوانين الراقية والمتميزة التي تكفل لهم التعايش في أمن واحترام وسلام ووئام.

ثورة علي بن غذاهم مقاومة للتسلط والحيف

لم ينس الكاتب "احمد رضا حمدي" التعريج على الأسباب والدوافع وراء اندلاع ثورة "علي بن غذاهم"، الشعبية العارمة التي انطلقت سنة 1864 ضد نظام الباي "محمد الصادق" بسبب مضاعفة الدولة لضريبة الاعانة من 36 إلى 72 ريالاً تونسياً، والتي انفردت فيها الحكومة التونسية بالرأي والاصرار على تنزيل هذا القرار، رغم نصح ومعارضة بعضا من الحاشية والأعيان ولربما كان أن يكون لاعتراض القائدين "خير الدين التونسي" و "حسين باشا"ضد السياسة التي ينتهجها الوزير الأكبر في الشؤون المالية دورا في تغيير الوضع. بيد أن هذين الصهرين ل "مصطفى خزندار"  ظلا في شبه عزلة داخل المجلس الأكبر في أطار عاصقة المكائد والمؤامرات التي كانت تحاك لهما خاصة ضدّ "خير الدين التونسي"، مما إضطرهما لتقديم إستقالتهما، والذهاب إلى تركيا.

لتكون ثورة علي غذاهم  ثورة الغضب الشعبي ضد القهر الاجتماعي الذي اجتاح الشمال والجنوب والوسط وكاد أن يطيح بعرش البايات لولا بعض الخيانات والتدخلات الأجنبية  

 المرأة التونسية في الكتاب تغييب أم غياب؟

مايثير الانتباه في كتاب "رؤيا خير الدين التونسي" هو غياب دور المرأة التونسية المسلمة بشكل كبير، وإبراز دور المرأة التونسية اليهودية التي كانت متواجدة في جميع الأوساط التونسية؟ا..

فمن يطالع تاريـخ بعض النساء التونسيات المسلمات اللواتي أمتـزن بسـمو الانجاز وسعة المعرفة، يـعلم حق العلم ما للمرأة التونسية المسلمة من فعل إيجابي ودور وطني  غير أن الكاتب هنا لم يذكر من النساء التونسيات سوى إحدى زوجات الباي "محمد الصادق" التي تدعى "مامية"، والتي كانت تدرك بقلبها ما لم يدركه زوجها الحاكم بعقله، إذ نقرأ أنها كانت تؤنب زوجها الباي قائلة:

" قد صمت أذنيك عن استغاثات رعيتك، واعتزلك المخلصون بعد أن رأوا أنك لا تتورع عن خنق أرفعهم مكاناً".مضيفة  "خزندار" مختلس، ولكنه يوفر لك ما تريد من المال والمتع، و "خير الدين" رجل نظيف، ولكنه يضيق عليك، وبين هذا وذاك توشك الرعية على الضياع، او لعلها ضاعت وانتهى الأمر"

 

لتكون هذه هي الحادثة الوحيدة التي التقطها الكتاب عن المرأة التونسية المسلمة، في حين المرأة التونسية اليهودية فقد تحدث عنها بإسهاب حيث كانت "ددّو" الحنانة تدخل بيوت أعيان تونس من المسلمين والنصارى، وحتى بيوت الوزراء وأكابر رجال الدولة ...وكانت إلى ذلك خاطبة توسطت لتزويج العديد من حطام تونس وأعيانها" ص. 95.

كذلك أبنتها "صفية" التي كانت تعزف الموسيقى في القنصليات الأجنبية والتي كانت بدورها:

" تردد ما ترويه لها والدتها من أخبار أهل السلطة والنفوذ في تونس" ص. 96 .

والتي أحبت وتزوجت، وانجبت طفلاً في السر من أحد الأطباء الألمان الذي كان يقيم في تونس.

وكذلك عن دور النساء اليهوديات الراقصات في حفلات اللهو في قصور رجال الدولة، وبين الفئات الشعبية.

 

 وان كان دور هؤلاء النساء اليهوديات دورا مشبوها ربما أراد الكاتب ابرازه فإن التغافل عن دور المرأة التونسية المسلمة التي كانت وطنا لجيل المقاومة قد يكون اختزالا مرتبطا بالعقل العربي الذكوري

 أسئلة فوق الشبهات

ان ما يثير التساؤل والاستفهام والاستغراب أن الكتاب كشف الغطاء عن العديد من الشرفاء والمخلصين التونسين والمفكرين والمصلحين غير أنه لما جاءت فرنسا مستعمرة لبلدهم تونس لم يشكلوا جبهة مقاومة سواء عسكرية او فكرية او اجتماعية مما يثير نوعا من الاستغراب وخصوصا مثل القائد العسكري خير الدين باشا وان كانت القوى غير متكافئة فالموت قي شرف الميادين أفضل من التخفي وراء ضعف المواجهة ونقص الامكانيات قيكفي شرف المحاولة  

ليكون القول بايجاز بعد قراءة وتصفح الكتاب أن هذا العمل هو جهد محمود وعمل بستحق القراءة والتثمين ويعتبر وثيقة مهمة اعتمدت البحث والتنقيب قصد المعرفة واستحضار التاريخ

* عضو "المركز الدولي للتواصل الإنساني" باريس 

 

 

2017-02-18