الإثنين 3/4/1446 هـ الموافق 07/10/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
عيد وذاكرة وشعلة....جواد بولس

أثارت مشاركة البروفيسور أحمد عيد في إضاءة الشعلة عشية يوم احتفالات إسرائيل باستقلالها نقاشًا برزت بعض انعكاساته الحادة في مواقع التواصل الاجتماعي، بينما غابت معالجته الجدية عن معظم وسائل الإعلام العربية المحلية التي تناول بعضها الحدث، على الغالب، بتقريرية واضحة مصحوبة أحيانًا ببعض الانتقادات والتهجمات، وذلك على الرغم من كون البروفيسور عيد يمثل شريحة منتشرة في مفاصل الدولة، ويحمل أفرادها "جينات" متشابهة تمامًا، وتنتظر فرصة لإنبعاثها، أو لم يكتمل نموها لكنها موجودة  هناك. 

لم تكن مشاركة أحمد عيد في هذا الطقس جديدة، ففي سنوات ماضية شاركت فيه  شخصيات عربية وأوقدت بدورها الشعلة، واستجلبت موجات من الانتقادات تفاوتت حدتها ووتائرها، لكنها تميّزت أساسًا بالاستخفاف في عروبة من شاركوا وفي مكاناتهم الاجتماعية وأوزانهم الشعبية، أما في هذه المرة  فإننا نواجه مشهدًا مختلفًا تبرز فيه بعض  الخصائص الفريدة والمتعلقة بشخص أحمد عيد وبمكانته المهنية والأكاديمية والاجتماعية، وما يمثله بكل ذلك على نطاق مجتمعي أوسع، ففي سيرته الذاتية محطات متعددة من أهمها قيامه، وهو الطبيب العربي، في أول عملية ناجحة لزرع كبد أكسبته، عن جدارة واستحقاق، شهرة محلية وعالمية.

 لقد قدم إلى القدس، في أوائل السبعينيات، من قريته دبورية، التي تنام على الكتف الغربي لجبل الطور في منطقة الجليل الشرقي، ودرس في الجامعة العبرية ومنها تخرج طبيبًا وعمل وتقدم ونشر مئات الأبحاث العلمية، فصار من مشاهير الجراحين، ويقف حاليًا على رأس قسم الجراحة في مستشفى "هداسا".

 ليس من الصعب اكتشاف أعداد يشبهون في سيرهم  سيرة أحمد عيد وما تقولبت عليه هويته القومية، ويخضعون لذات العوامل الاجتماعية/ الاقتصادية؛ فقضية نمو هذه الشرائح  النخبوية واحتوائها في مصاهر الأكاديميا الحكومية وهوامشها الرحبة واستيعابها في كبرى الشركات الإسرائيلية وأسواق المال والهايتك، باتت واقعًا ملموسًا، ومولدًا لحالات، مثل حالة عيد، قد تبدو اليوم مجرد "أنوماليا" فردية، لكنها في الحقيقة أعمق من ذلك وأعمّ.   

قد يفضل كثيرون ألا أتعرض لهذه الحادثة وأتركها لتذبل في حوضها، وذلك عملًا بقاعدة " إذا ابتليتم فاستتروا" أو من باب إيمانهم بحكمة الرمل عندما يحتضن رأس النعامة الحائرة؛ لكنني قررت أن أكتب ما يشبه الرسالة غير الشخصية التي قد يقرأها صاحب الشأن، وقد لا يفعل، وستبقى مجرد تمرين وطني يختلف هذه المرة عما أسميته في حالات سابقة "تحديات سايكووَطنية"،  وهي، برأيي، عبارة عن تعقيدات يفرزها واقعنا المركب كمواطنين عرب في إسرائيل، فتهبط بيننا على شكل معاضلَ أحيانًا، وأحيانًا تكون مجرد التباسات خفيفة من السهل على من يواجهها بقليل من الحكمة والحنكة التخلص منها ومن توابعها. هذا أذا أراد فعل ذلك، أو إذا مكنته الظروف من ذلك، وللنزاهة أقول إنني أعرف أكاديميين اثنين عربيين رفضا عرض وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية، واعتذرا عن المشاركة في إضاءة الشعلة هذا العام رغم ما قد يلحق بهما وبعملهما من مضرّة وأذى.   

 فما هو حفل إيقاد الشعلة هذا؟

إنه احتفال سنوي رسمي يرعاه رئيس الكنيست وبانتهائه تنتهي عمليًا مراسم ما يسمى" يوم الذكرى لشهداء جيوش إسرائيل ولضحايا الأعمال العدوانية"  وتبدأ بعده مباشرة الاحتفالات بـ"يوم الاستقلال".

تقام المراسم على جبل هرتسل، قريبًا من ضريح بنيامين زئيف هرتسيل، ويشارك فيها كل قيادات الدولة من مدنيين وعسكريين، وتكون إضاءة اثنتي عشرة شعلة هي الحدث المركزي،لأن هذه المشاعل ترمز إلى أسباط إسرائيل الاثني عشر، وإلى قصصهم كما وردت  في "العهد القديم"، وأشبعت رموزًا صانها التاريخ  أساطير ووعودًا تبعث في الفضاء مع نار تلك المشاعل وتحملها أجيال تقفو أجيالًا .

في كل عام تختار اللجنة المكلفة اسمًا في ظله تقام الاحتفالات وبدلالاته يستلهم المستقبل وتصبغ العزائم،  فهذه السنة كانت الذكرى والفرح " بخمسين عامًا لتوحيد القدس" وكل الشخصيات التي دعيت لاضاءة المشاعل كانت لعلاقتها بهذا العنوان ومدلوله، ولما قدموه من أجل القدس وأهلها.

لقد فهمنا أن البروفيسور عيد يعتبر نفسه مقدسيًا وقد خدم سكانها، عربًا ويهودًا، واعترافًا من القيّمين على هذه الاحتفالية بدوره المقدسي وبعطائه دعوه ليكرموه، هكذا أعلن هو مرة تلو الأخرى، لكنه لم يكتف بتبرير اشتراكه بدوافع شخصية، ولو فعل ذلك لوجب تركه وشأنه، ففي حين عبر عن تفهمه لكل من انتقد مشاركته من إخوانه العرب، أصر في نفس الوقت وطالب من ناحيته " المجتمع العربي أن يتفهمه"،  كما صرّح أمام الإعلامي رمزي حكيم في مقابلة أجراها معه في الثامن والعشرين من الشهر المنصرم، في برنامج " التاسعة" والذي بث على قناة مساواة المحلية.

لقد تحدث البروفيسور عيد في مقابلته بصراحة لامست البساطة والسطحية وبخلط كثير من الأوراق والمواضيع، فهو يرفض أن يعرّف بالرجل السياسي، ولا يقبل أن توظف مشاركته لأغراض سياسية، وكل ما فعله يتلخص بقبوله دعوة لتكريمه كان من غير الممكن رفضها، أما إذا قامت إسرائيل باستغلال مشاركته لتبييض منصتها من عيوب توشحها حتى لو على حساب سمعته ومكانته، فهذا شأن لا يعنيه، وهو لا يؤمن برمزية الحدث ولا يولي للرواية المقصودة من وراءه  وزنًا، ولا أهمية عنده لعدد المشاعل وما تعنيه ولا ما يرافق أيقادها من تصريح يتلى على الملأ، لأنه طبيب يبقى همه صحة البشر وسلامتهم، وهاجسه الوحيد هو "اليومي" وهموم المواطن العادي شاغله.

لم يكن خياره صعبًا، كما قال،  فمباشرة عندما توجهوا إليه استجاب لهم ، لكنه اكتشف لاحقًا إشكالية مشاركته، فحاول أن يقنع مشاهديه بموقفه من خلال نقاش حضاري وهادف رافضًا أسلوب البعض الذي يعتمد على التجريح والتخوين والتهديد، وأصر أن العرب مشتتون وغير موحدين في موقف لم تفهم علاقته بتسويغ المشاركة، "ولأننا جربنا القديم"، على حد قوله ، ولم ينفعنا فيقترح علينا الجديد، وجديده أن نكون مواطنين صالحين و"نستعمل ما لدينا من أدوات ونسعى وراء التفاهم مع الدولة والمحاورة واستغلال حقوقنا الديمقراطية" من أجل تغيير واقعنا. لقد فاته أن الدولة هي التي لا تريدنا مواطنين كاملي الحقوق، وتسعى إلى إقصائنا وتفتيتنا، وأنه كعصفور وحيد خارج عن السرب لن يستطيع تغيير ولا حتى موقع قشة في عشه الذي هو أيضًا في مهب الريح .

جميل أن يكرم المجتمع رواده وأفذاذه، ولكن إذا كان فعلًا هذا هدف القيمين على الحفل فلماذا اختاروه في عام احتفالية "الخمسين على توحيد القدس" وهو عمليًا ليس مقدسيًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولماذا لم يختاروه مثلا في احتفالية العام المنصرم ( التي أشرك فيها عربي) وقد خصصت "للبطولة المدنية" أو في العام الذي سبقها ( وقد أشركت فيها عربية كذلك)  وقد أقيمت تحت شعار"رواد إسرائيليون".  

 بعض من يعرفون بروفيسور عيد حاولوا تفهمه والدفاع عن قراره  ومنهم من استعانوا بمقارنة فعلته وما يفعله عرب آخرون واجههم الواقع الإسرائيلي بمعضلاته، فقاربوا مثلًا بين خطوته وبين من يتراكضون وراء وظيفة في القضاء الإسرائيلي، ويقسمون يمين الولاء للدولة وقوانينها، أو ليوظفوا في نيابة الدولة وما تتطلبه تلك الوظيفة من ولاءات أو أولئك الذين يخدمون في الشرطة وحرس السجون، أو من يتوسل ليصير مفتشًا في المعارف أو رئيس قسم في مستشفى أو مسؤول في إحدى وزارات الدولة وماإلى ذلك من أماكن عمل كانت محرّمة على العرب ففتحت أبوابها وما رافق ذلك من "محفزات ومرغبات" ؛ هذاعلاوة على أننا تفهمنا قسم عضو الكنيست العربي للدولة وتعهده باحترام قوانينها والولاء لها ، فإذا قبلنا كل ذلك فلماذا نعيب على من يؤمن بدوره كمواطن صالح ويريد تغييرالواقع،أن يوقد لدولته الشعلة ويتمنى لها أن تحيا بعزة وفخار؟

بعض تلك القضايا قد تكون معاضل وأسئلة مناسبة في امتحانات السايكووَطني التي على قياداتنا أن تواجهها وأن تعيد مواقفها إزاءها، وبعضها قضايا تتشابك وتتقاطع مع كوننا مواطنين نسعى للحصول على حقوقنا المدنية والقومية، الفردية والجمعية، فمعظم نضالات الجماهير في الماضي والحاضر كانت ضد سياسة الدولة وقمعها وعدم إعطائنا حقوقنا الأساسية، مثل العمل والتعليم والحركة والعيش بكرامة ؛ لكن مشاركة مواطن عربي، لا سيما في مكانة البروفيسور ووعيه،  في إيقاد شعلة في حفل يكدس كل التناقضات مع وجوده هنا كعربي وفي تزامن مع يوم يتأسى فيه شعبه على تشريد آبائه وتهجير أبنائه، ويستذكر النكبة ومعانيها وفي حين تحاول الأجيال  أن تحافظ على وتحفظ شعلة ذاكرتهم متقدة كي لا تسقط بالتقادم أو بالنسيان، لا تعد ، تلك المشاركة، بمثابة مواجهة معضلة ولا حتى التباس خفيف، فإنها بديهية إنسانية واضحة لم تكن عسيرة على فهم مواطن عادي غير مسيّس، فكيف إذا واجهها نطاسي عصامي مجرب حكيم يداوي القلب والكبد؟

إنها حياتك وأنت حر ومسؤول عن خياراتك فيها، لكنه قد كان خيارًا سياسيًا ذا أبعاد عامة وسلبية، وحتى لو لم تعِ ذلك ولم تتقصده فسيبقى من المستحيل علينا أن نتفهمك    كما طالبتنا وتوقعت أن نفعل.

2017-05-05