الأربعاء 26/9/1446 هـ الموافق 26/03/2025 م الساعه (القدس) (غرينتش)
روايات برهان الخطيب في اطروحة أكاديمية

  دراسة الماجستير (الفضاء الروائي في روايات برهان الخطيب) للباحثة مروج حسين ذات هيكل دقيق، في التمهيد تستعرض مفهوم الفضاء في الخطاب النقدي، تقسيماته: الفضاء النصي، الدلالي، الجغرافي، والفضاء كمنظور أو رؤية. تحت عنوان وظيفة الفضاء تتحدث عن الفضاء وشكل الرواية، ثم عن الفضاء ومضمون الرواية، عن تطور البناء الفني في روايات الخطيب، عن التقنيات السردية التي يستعملها، موظفة في الدراسة اثنتي عشرة رواية للخطيب، بدء من (ضباب في الظهيرة) أول رواية له عام 1968 إلى (اخبار اخر الهجرات) ثم (غراميات بائع متجول) من اعماله الاخيرة الحالية في تركيز على المكان، الزمان، علاقتهما بالشخصية، فضلا عن ابرز تقنياته السردية. تقول الباحثة: مصطلح الفضاء، اشكالية تحديده، بمفهومه الواسع، لم يعد مقتصرا على الزمكان الذي ركز عليه جيرار جينيت ومن تبعه من الدارسين العرب. المكان له دور رئيس في حياة الانسان، منه ينطلق إليه نعود، أو ليست حياتنا ككل رحلة مكانية تبدأ برحم الأم تنتهي بالقبر، نقرأ ذلك عند نجيب محفوظ في صيغة (جئنا من ظلام نعود إلى ظلام) كاتبنا العراقي برهان الخطيب يختصر ينقل تلك الرحلة الوجودية شبه المحدودة للإنسان عبر روايته (الجسور الزجاجية) إلى صعيد الرمز الواقعي، من ظلام إلى ظلام نعم لكن من سجن حيث تبدأ الرواية إلى سجن آخر حيث ينتهي بطل تلك الرواية مزعل. في بدايتها (ولادة روحية) له ثم بعد رحلة ألم قصيرة بين المدن والتحديات والذوات يعود إلى الظلام مرغما محبطا مع حصيلة تجربة تلخص مسيرة وجود يكسبها المرء عادة بعد ممارسات خلال عمر طويل.

 الخطيب في روايته (ليلة بغدادية) مستلهما تجربة العراقيين في الشقاء يعيد تلك الدورة الحياتية، من ظلام إلى ظلام، من عراك إلى عراك، تبدأ تنتهي بمطاردة سياسية تبدو لا تنتهي، ملخصا نمط العيش في منطقتنا، نتيجة تغليب انفعالات على العقل، السهو على اليقظة، المحدودية على الانفتاح.. ص7الأطروحة.

يؤثر المكان عند الخطيب على تركيب الاشخاص، ابن البادية غير ابن المدينة، ابناء المدن يختلفون باختلاف المدن، تغير المكان يؤثر على الشخصية، احسان مثلا في رواية الخطيب الجديدة (اخبار اخر العشاق) يتغير بعد انتقاله من العراق إلى المهجر، يمسح المهجر الفروق بين ابناء البلد الواحد، حسب تعبير احسان: تتساوى القرعة مع أم شعر في الغربة.. تبهذلنا.. لا يتركوننا نعمر بلدنا يحركون غرور زعماء، أطماع أتباع، يثيرون الحروب نتشرد نقع في شباك.

 

 تستعرض الباحثة في التمهيد وجهات نظر نقاد في موضوعة الفضاء، ارتباطها بالمكان، من ياسين النصير، حميد لحميداني، ميشال بوتور، حسن بحراوي، عبد الصمد زايد، عبد الملك مرتاض، مراد عبد الرحمن، شاكر النابلسي، محمد شوابكة، محمد عزام، حسن نجمي، كريستال شولز، غيرهم، تؤيد تدحض تصل إلى استنتاج: مجموعة برهان الخطيب القصصية (الشارع الجديد) تشكل بمجموعها رواية، مؤلفها يفطن مبكرا إلى الفرق بين المكان والفضاء جيدا، في القصص التسع عشرة (قدمها للوزارة عام 1979 "عشرون قصة" حذف الرقيب واحدة") ينوع المكان، مسرح الأحداث، عامدا متعمدا على تنوع جغرافية العراق، ينتقل عبر قصصه من حي المدينة في قصة (الشارع الجديد) إلى البادية في قصة (الهدف) إلى مواقع الفيضان في (الطوفان) إلى مواقع الجفاف في (أم الوز) إلى مكان تدريب العمال في (بأمر السيد المدير) إلى مواقع الغجر في (ولكن ليس كالريح) إلى القرية في (جزيرة الواق واق) إلى حمام المدينة في (سر اللعبة) إلى بيت لغز في (المأدبة) إلى البحر في (البحر) إلى مدينة ثلج متخيلة في (طائر الثلج) إلى مضيف العرب في (المضيف) حتى يغطي جغرافية العراق برمتها خالقا بتنويع المكان فضاء فسيحا يسهل تحويله إلى روايته (أخبار آخر العشاق) هنا نرى علاقة وثيقة متبادلة رغم التنوع بين الجزء (المكان) والكل (الفضاء) يؤثر احدهما في الآخر في خلق التنوع تناغمه لصالح الطرفين.. كأنه يقول تحت النص ان أي انفصال لأي جزء من هذه الفسيفساء الباذخة سوف يدمر الصورة الكلية كما يضيع صورة الجزء ذاته.

تلك هي الفكرة التي يضعها الخطيب في أساس عمله، تلك هي الفكرة التي يكتشفها القارئ أو الباحث عند الانتهاء من قراءته.

الفصل الأول من الدراسة مكرس الى المكان الروائي، مبحثه الأول عن ثلاثة مواضيع: أهمية المكان في العمل الروائي، وظائف المكان، الوصف والمكان. تعرف الباحثة المكان الروائي: العمود الفقري الذي يربط أجزاء العمل بعضها إلى بعض، أحيانا يكون الهدف، يجسد رؤى الكاتب. هنا أيضا تحلل الباحثة مختلف آراء النقاد بهذا الشأن من سيزا قاسم، عبد الصمد زايد، سمر روحي الفيصل، صلاح صلاح، طاهر عبد مسلم، منال بنت عبد العزيز، محمد برادة.. تصل إلى القول أن برهان الخطيب تمثل ذلك في رواياته، ففي رواية (شقة في شارع أبي نؤاس) بدءأ من العنوان حتى الانتهاء من قراءة الرواية نجد المكان يشكل رمزا للعراق كله، في فترة زمنية محددة عام 1963 لها تأثير كبير في تأريخ العراق، بل أن وجود الشقة ذاتها في شارع اشتهر عنه شارع حانات وملاه يبرز ما يمكن ان يخبر عنه المكان في صورة غير مباشرة، من خلاله يخبرنا المؤلف قبل قراءة الرواية أنها تجسد حقبة استثنائية خارج نطاق تاريخ العراق المحافظ المعتاد. قراءة الرواية توضح وبشكل ملفت جريمة اغتصاب واعتقال وأحداث تنتهي بانقلاب أواخر عام 1963 مؤثرا مباشرة على شخصيات الرواية ومصائرهم، بل ان تنوع تلك الشخصيات من كردية وعربية، طلبة لهم انتماءات سياسية مختلفة يعيشون في مكان واحد، شقة واحدة، عن اختيار من المؤلف بعد تمحيص، ليكونوا ممثلين للشعب العراقي، هكذا يحصل المكان أقصى قدرة على استيعاب وظيفته الفنية في دعم السرد، إيصال الافكار إلى القارئ، من غير أن يعيش المكان منعزلا عن باقي عناصر السرد. على ذلك النهج يواصل الكاتب الخطيب باقي رواياته الأخرى، يختار لكل منها مسرح أحداث، يعبر عن أعمق وأوسع ما يريد توصيله من تجارب العراقيين. (بابل الفيحاء) مسرحها مدينة الحلة، يمكن عدها رواية الحدث العالمي، المعد محليا، إعداد حلف بغداد مع امتداده إلى اليوم. أولا العنوان ذاته من شطرين، بابل أي التاريخ ضمنا المكان، يعقبه الحاضر أي الفيحاء، أي الزمن ضمنا المستقبل، تأكيدا على امتداد الحدث الروائي من حاضنته التاريخية إلى حاضنته في الاتجاه المقابل، ديمومة الخير. تستنتج الباحثة: المكان في هذه الرواية وغيرها من روايات الخطيب هيكل عظمي لبدن المجتمع العراقي، ذلك ربما لتطور تجربة الخطيب الروائية منطلقة من تجربة نجيب محفوظ ما يدل على ان العملية الابداعية في عموم الوطن العربي متصلة متصاعدة، بل تتصاعد حين تكون متصلة، متفاعلة ايجابيا. ثم تعرج الباحثة إلى رواية (ذلك الصيف في اسكندرية) للخطيب تبين اهمية احداثيات المكان الجغرافي ضرورة تطابقها مع الواقع حين يجري السرد على تضاريس معينة، لا مجازية. عن قصة (سامية الاسكندرانية) تذكر: لقد قام شخص مبعوث من موسكو إلى الإسكندرية من قبل مترجم القصة بوريس جوكوف بمطابقة اسماء المناطق والمحلات المذكورة في النص العربي مع اسمائها كما في الواقع، وجدها ذات مصداقية كاملة.

تنوع المكان في العمل الروائي يؤدي إلى تعدد وظائفه، إلى توسيع رقعة السرد، من وظيفة إيهامية، إلى تعبيرية، إلى تفسيرية، إلى رمزية.. المكان يُستحضر بواسطة الوصف غالبا، تراه الباحثة قد يقترب أحيانا إلى الوثائقية عند الخطيب دون الخروج عن السياق الفني، حتى أن قراء (بابل الفيحاء) و (الجسور الزجاجية) يتعرفون على مدينة الحلة من خلال الروايتين كأنهم يعيشون مع أهالي المدينة عمرا طويلا، كما جرى التعرف على الحي اللاتيني في باريس وغيره من خلال كتب سارتر، مونترلان، هيغو،  كما على اسبانيا من خلال همنغواي، كما على الصين من خلال اندريه مالرو، كذلك على الاسكندرية المصرية من خلال ما تقدمه رواية الخطيب (ذلك الصيف..) عنها، أيضا على موسكو في (حب في موسكو).. على المسيب وكربلاء اللتين يذكرهما في (نجوم الظهر) على الشام والسويد في (الجنائن المغلقة) غير ذلك مما يصل إلى حدود الرصد الطبوغرافي للمكان كما في روايته (غراميات بائع متجول) مع تحركه وانتقاله من خلال ترسباته في الشخصية الروائية، يتجلى ذلك في روايته (أخبار آخر الهجرات) حيث يحمل يوسف وزوجته تأثيرات المكان معهما إلى أرض الغربة، يبدأ صراع جديد، يصرخ يوسف فيها: اخرسي يا ساقطة.. ليس للسقطة حق الكلام! ترد زوجته: لا انت تقرر مَن الساقط مَن الشريف.. أنت لست رب العالمين.

ـ أنا رب هذا البيت في الأقل أقرر فيه ما السقوط ما الشرف.. فتنخرط زوجته في البكاء:

ـ اعترف يوسف لم تعد ربا لأي بيت ولا سيد نفسك ولا لي منذ لا تتمكن حماية بيتك القديم، منذ تركنا الوطن!

 يتضح جبروت المكان، أهميته كجذر مغذ للإنسان، تفاعله سلبا ايجابا مع الشخصية الروائية، يبقى المؤلف على حياد المهندس إزاء المكان، تقول الباحثة ذلك غير جديد على الروائي الخطيب فهو مهندس في الأصل، تخضع كل رواياته إلى خطة، إلى بناء هندسي واضح الملامح، لا مساحات تخلو من فائدة لمجمل البنيان، ذلك جلي في روايته (ليلة بغدادية) يضغط كل أحداثها الجسام في ليلة واحدة، في بيتين متجاورين، في أشخاص لا يتجاوز عددهم خمسة أو أربعة، مقدما مرحلة كاملة من تاريخ العراق الحديث.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

تعالج أطروحة السيدة مروج حسين (الفضاء الروائي في روايات الخطيب) في المبحث الثاني من الفصل الأول أنواع المكان الروائي، الأليف، المعادي، الواقعي. تقول: يزداد عالم الرواية اتساعا كلما قام على الاختلاف والتوافق، على ديدن عالم الأوطان المعاصرة، متعددة القوميات، الأديان، كالعراق. فلا مبالغة حين يذكر ب الخطيب في مقابلة سابقة: لقد سبقنا العالم بتعدد أدياننا وأعراقنا منذ القدم. هكذا تتوالى رواياته متنوعة تمد جذورها في أعماق التاريخ.

الأماكن لا جغرافيا فقط، السلطة التي تخضع لها تحدد طبيعتها، مكان لي، مكان يخضع لسلطة الغير، مكان عام، مكان غير متناه، كل منها له دوره في البناء الروائي عند الخطيب. كما هناك المكان المجازي، الهندسي، والمعاش. أيضا تجد الباحثة أن د. شجاع العاني يقف على أربعة منها: المسرحي، التاريخي، الأليف، المعادي. تتناول نماذج لها من روايات الخطيب تبين كيف تؤثر على شخصيات الروايات وتتفاعل معها. تستخلص: للمكان في أعمال الخطيب أكبر من المعنى الجغرافي الاستيعابي للبدن، من قرية، مدينة، فالكاتب يرمّزه غالبا، يحمّله معاني صغيرة ملحقة بمعنى عام كبير يسعى إلى كشفه. ص47

 

الفصل الثاني من الدراسة عن بناء الزمن الروائي مكون أيضا من مبحثين: الأول عن أهمية الزمن في العمل الروائي، وأنماط الزمن. الثاني عن ترتيب الزمن في أدب الخطيب ضمنا: الاسترجاع، الاستباق، تسريع الزمن وتبطئه، اعتمادا على الحذف، التلخيص، تقنية المشهد، الوقفة. تستهله الباحثة مركزة على أن هاجس الزمن حاضر في الاداب القديمة والأساطير، الاهتمام به يتصاعد في العصر الحديث، هنا لابد من المرور على مشاهدات مطاردات السيارات في نهاية قصص غالبية الأفلام المشوقة في القرن العشرين، وظهور الإيقاع السريع في السرد، الجملة البرقية عند همنغواي، بعد أن كان لدى الكتاب الكلاسيك، ستندال، فلوبير، تولتسوي، غيرهم يمتد أحيانا طويلا حتى تبلغ الجملة الواحدة صفحة كاملة تقريبا. ولعل أفضل مثال نقدمه على محورية الزمن في الأدب الحديث ما يقدمه لنا الروائي العراقي الخطيب في عدد كبير من رواياته، تحديدا في ما صار يسمى خماسيته الروائية، الزمن هو البطل الحقيقي في رواياته، الملاحظ لا يمكننا تشكيل صورة كاملة عن الزمن في هذه الروايات إلاّ بعد الانتهاء من قراءة الخماسية كلها، فإن أي رواية منها حين تؤخذ منفصلة نجد في خلفيتها مرحلة زمنية محددة من الزمن العراقي الحديث..  إنما حين تؤخذ بمجموعها نرى تخطيطا زمنيا هندسيا كاملا له صلة مباشرة بتحولات العراق نهاية القرن العشرين إلى يومنا. بعدها تنطلق الباحثة تفحص كل رواية على حدة وصولا إلى استنتاجاها أن الزمن أي العمود الفقري لروايات الخطيب لا يحدث عن عسف فني بل عن رؤية شاملة إلى التاريخ العراقي ضمن تاريخ العالم ضمنا مشاكل الأشخاص ومصائرهم المختلفة داخل مصير الوطن الواحد في تأكيد على أهمية الإدراك الفردي في رسم المصير الشخصي، كأنما المؤلف يقول لنا فنيا في النهاية أن مصير الوطن هو محصلة مصائرنا جميعا خاصة في حالات عدم الاستقرار. تعود الباحثة إلى آراء المفكرين قبلها عن ذلك الموضوع، الشكلانيين الروس، توماشفسكي، تودوروف، جينيت، ومن النقاد العرب سعيد يقطين، مرتاض، سيزا قاسم، تستنتج أن الخطيب يضغط أو يجمع في روايته الجديدة (أخبار آخر الهجرات) زمن الوطن مع زمن المنفى يقدم شخصياته المهاجرة لنا في بعدين، البعد الوطني، والبعد الجديد بعد الهجرة، نرى ذلك في نقاشات انتصار مع زوجها يوسف، الحصيلة زمن متعدد الأبعاد، الماضي والحاضر والمستقبل، الزمن المطلق، روايته (الجنائن المغلقة) تبدأ من تفكيك مفهوم الزمن وتركيب جملة مجنحة فوقه، انظر إلى هذا المقتطف منها:

معرفة أصل الأشياء وأجوبة على أسئلة غامضة، تفسير ظواهر خارقة، هم تحمله جدة حامد منذ غياب زوجها تورثه بعد وفاتها إلى قلة من أحفاد مختارين، هم يبدأ حين يواجهها السؤال الأكبر في حياتها، السؤال الوحيد الذي لا يمكنها العثور على جواب له في دهاليز عقلها الدؤوب غير المنقطع حتى حين تنام عن التنقيب في رموز أو إشارات متجلية في الطريق، البيت، خطوة شيطان حينا، خفقَ جناحي ملاك حينا آخر، أو نداء مثلا من بائع جوال يروّج بضاعته: يشامغ.. يشامغ.. تسمعه هي: قشامغ.. قشامغ.. تفهمه: قشامر.. قشامر.. تفسره: العرب قشامر حين يلبسون يشامغ، طريقة سرية يعلن البائع الغريب عن حضوره، عن بضاعته الحقيقية، ظواهر تعرض لها الحياة صراعا دائما بين خير و شر لا تعرف كنههما خارج خيمة إيمانها المغلقة دون سماء طافحة من وجه الرب، نوره، صراع متواصل في أو بين أحفادها في ساحة بيتها أيضا، تعبّدها طابوقات مقدسة عندها، تقوم منتصف ليل تنتزعها تبدأ تعبد منها الساحة ثانية في طريقة تراها أفضل من سابقتها، ثم ثالثة في ليلة أخرى، رابعة، خامسة، حتى تصير لا تتذكر كيف متى تبدأ تنتهي متاهة الحزوز التي تصنعها من رصŸ تلك الطابوقات، متاهة غالبا تجد نفسها طفولتها تضيع فيها أكثر مما تنقذ منهما حين تخلق، تمد، تلاقي فروعها على أمل بلوغ كمال في رصفها، جعلها حصنا لها لأفكارها يقي من الذوبان في الزمن، تجميده في خطوط على الطابوقات على خطى أجدادها البابليين في رقائم تشاهدها أثناء زياراتها ضريح عمران قادمة من الحلة قرب بابل تستلهمها في صنع رقائم تخص سلالتها في الساحة، نافعة لها..

احتواء المعنى البعيد هدف الخطيب، يبلغه عازفا على أنماط مختلفة من الزمن، الطبيعي بجانبيه التاريخي والكوني، والنفسي غير الخاضع لمعايير خارجية كالتوقيتات المتداولة حسب تعبير الناقد جبرا ابراهيم جبرا.

في المبحث الثاني عن ترتيب الزمن، متتاليات، استرجاعات، استباقات، الربط بين اللحظات الراهنة والمنسية الضروري لتصاعد الإدراك، يلعب المؤلف عليها في رواياته لدفع الأحداث  من ذروة إلى أخرى، في (ليلة بغدادية) يسرح عدنان مع افكاره.. (يذكر يوم قتله لأخته ويوم قيام ثورتهم بدقة، فهما أسطع يومين في ذاكرته، كان كلاهما مغبرا عاصفا عنيفا فكأنهما يوم واحد في حياته تكرر مرة رمزا وحلما وثانية واقعا وحقيقة ليعرف من ذلك ان الفرق بين الحلم والحقيقة هو كالفرق بين الصبا والشيخوخة ربما، بين اللذة والألم، بين الأمل والخيبة، بين فسحة للحياة وأخرى للموت).. أيضا يتضح للناقد ان اللعب بالزمن أو ملاقحته لا من أجل تطويل السرد بقدر ما هو من أجل فتح كل أبواب النفس و الواقع ليبدوان كما هما لا مغلقين من كسل عقل أو تعنت، خيّر أو شرير، هكذا يتيسر للشخصية الروائية أن تطل على عمق أزمتها في الطريق إلى تجاوزها. تصل الباحثة إلى استنتاج: في هذا يختلف الخطيب عن معظم أقرانه من الروائيين العرب، يذكرنا بالروائيين العالميين الكبار أمثال (دستوفسكي، تولستوي، أندريه مالرو، وغيرهم) من الذين لم يكتفوا بالسرد وسيلة امتاع بل جعلوه وسيلة تنوير، ونجحوا في ذلك كما نجح الكاتب بعيدا وهو حين يفعل ذلك لا يستند إلى تجارب أولئك الكتاب الأجانب فقط بل ويستند إلى تراثه العراقي أيضا تراثه العربي المبشر بقيم الكرم والنخوة والشجاعة وغير ذلك وكذلك تراثه الديني الإسلامي باعتباره مصدر القيم الإيجابية بل وفي التراث المسيحي القائم على نشر قيم المحبة والإخاء. من هنا يمكن النظر إلى الخطيب لا باعتباره  كاتبا عراقيا حسب بل هو أيضا كاتب عربي، اسلامي، وإنساني. هذا مقتطف عن شاعرة من روايته (سقوط سبرطة) تترنم: الفجر له فاطر، والليل له آخر، قد قيل لنا مما قيل.. سقطت بابل جف النيل.. فإذا ألف بابل تبنى.. وإذا النيل امرأة لبنى..

 الكلمات كتبها الخطيب قبل ربع قرن.. تصف حالنا الراهن..

 

الفصل الثالث عن علاقة الشخصية بالمكان والزمان، هو الآخر له مبحثان: علاقة الشخصية بالمكان، كيف يؤثر ويتأثر بالشخصية الروائية، الثاني عن علاقة الشخصية بالزمان، كيف يكون الحاضر منبعا للزمن الروائي ومنه يتم استدعاء ذكريات مفرحة أو حزينة عن احداث تاريخية وسياسية واجتماعية، احداث تخص الوطن والناس والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في فترة معينة لها دلالات بعيدة تحمل روح الكفاح والصبر، وتستعيد الانتصارات والانكسارات. وترى الباحثة أن أغلب نصوص برهان الخطيب فيها العلاقة بين الإنسان والمكان قوية، يؤثر أحدهما في الآخر قويا، تذكر شواهد طبعا من رواياته مع كل استنتاجاتها، كما يجعل الخطيب من المكان رمزا لحضور جغرافي أكبر كما يجعل من كل شخوص رواياته رموزا لحضور اجتماعي أكبر، هكذا يعبر من الخاص إلى العام، يُدخل قارئه في لعبته أو صرحه الفني آخذا في الاعتبار حجم وجود الشخصية النامية وتأثيرها وتأثرها مع المكان أكبر من المسطحة، قوة المكان تبدو واضحة في تصريح الخطيب عام 1973 لمجلة ألف باء عدد 245 يعيش جل عمره في الخارج يقول: أنا لم أغادر الوطن لأني أحمله في قلبي دائما. تلك العلاقة يعكسها العديد من أبطال رواياته من حميد الكردي في ليالي الأنس في أبي نؤاس) إلى أبطاله في (أخبار آخر الهجرات) و (أخبار آخر العشاق).. هكذا يتجاوز المؤلف المكان رغم اندغام الشخصية أحيانا مع المكان، انظر قصته (البحر) باعتباره وعاء نفسيا إلى كونه الوعاء الفكري للشخصية الروائية مغلبا بذلك إدراكها على حدود وسطوة المكان (البحر ما كان رسمي كنت أنا البحر) رافعا كنه انسانه من مجرد حيوان سياسي إلى مرتبة أعلى، ذات إرادة. يتأكد أن الإنسان في روايات الخطيب هو المحرك لكل الأحداث فيها من خلال أفعاله رغم جبروت الأحداث العامة التي تعصف بالمصير. في هذا النص يفاجئنا برهان بتوحد سامي مع البحر، الماء سيد الأشياء عنده يخبئ الحياة كما الموت، هنا معلم في أدب الخطيب نراه قويا يكشف من خلاله ثنائية الواقع، وهو معلم جديد في السياق الروائي لم يتم تداوله عريضا لا في الرواية العراقية ولا العربية ولا ربما العالمية يتجلى جليا في روايته الأخيرة (الحكاية من الداخل) منشورة حلقات منها في صحيفة العرب اللندنية، ما يسمح وضع تلك الرواية في خانة جديدة يمكن تسميتها (رواية الحقيقة) فهي لا تكتفي بسرد الظاهر إنما تسعى إلى كشف الباطن، ذلك المعلم يمكن تلمس بداياته منذ روايته الأولى (الضد) ضباب في الظهيرة المنشورة نهاية حقبة الستينات، نلاحظ كيف يبدأ راوي قصة الخطيب تلك سرده منذ سطرها الأول: (الآن فقط استطيع أن أرى بوضوح ما كانت تعنيه الأيام الماضية في حياتي..) حيث يتم السرد بناء على عقلنة ما حدث لا سرد وقائعه فقط، هنا تغير نوعي في السرد عموما، ينتقل اهتمام القارئ من المكان الخارجي للحدث إلى الداخلي، ذات الشخصية، بوتقة التفاعلات والتغيرات.

علاقة الشخصية بالزمن لا تقل اهمية عن علاقتها بالمكان، كل منهما وسيلة فنية للتعبير المباشر أو غير المباشر عن تفاصيل يومية وفكرية تقوم الرواية عادة بتجميعها وصولا إلى غرضها الرئيس، أي إعادة صياغة الواقع في صورة متحركة أكثر عقلانية وعدلا من التي لنا في الواقع المعاش ضمنا النفس البشرية، وحين يتبدى الزمن شخصية مستقلة تدخل في صراع مع الشخصيات الروائية يبدأ آنذاك النحت المتبادل بينهما حتى ينهزم العقل عند وهن أو يتبوأ العرش الذي يصبو إليه تحت سقف الصفاء والانسجام مع الوجود. هكذا يستخدم الخطيب الهم السياسي والاجتماعي وسيلة لتوسيع حدود الذات بدل كسرها، سمة ظاهرة في أدب الخطيب  مستلهمة ربما من نظرية التحدي والاستجابة لتوينبي الانكليزي، من ملامحها أن تحدي الصعاب تقود إلى الرقي. وهي نظرية حازت على إعجاب الكثير من كتاب الستينات، الذي نرى الخطيب في رأس قائمتهم كما هو معلوم. هكذا أبدع الكاتب العراقي لا بمعزل عن النشاط الفكري العالمي بل بالتفاعل معه من غير أن يصاب بنزعة تقديس التغريب والجري وراء ظواهر قد لا تنفع العملية الأدبية المتطورة صعودا عند إدراك الكاتب مهامه اإبداعية.

 

تشير الباحثة ان من الصعوبات التي واجهتها هذه الدراسة كما هو شأن الدراسات العلمية الجادة تبرز في مقدمتها صعوبة العثور على روايات الكاتب، إذ لم تتوفر جميعها في المكتبات الرسمية ولا بين الكتب المتناثرة في شارع المتنبي عدا (ضباب في الظهيرة، والجسور الزجاجية، وشقة في شارع أبي نؤاس) ما اضطرها الانتظار طويلا حتى مجيء الروائي إلى بغداد، فضلا عن شحة المصادر، إلى غير ذلك من الصعوبات التي ذللت بتوفيق من الله تعالى. لا تنسى الباحثة توجيه الشكر إلى عائلة الخطيب لمساعدتها في انجاز البحث على اتم وجه، أيضا إلى استاذتها د. كرنفال أيوب كذلك حيدر فاضل  د.

أخيرا الخاتمة، فضاء روايات الخطيب من نظرة فوقية مقسم إلى مكان داخل الوطن، وأخر خارج الوطن.

مع تجاوز النظرة الفوقية لها نرى الأماكن وتبدلها ذريعة لاقتراب مجهري إلى موضوع الوطن، في كل تلك الروايات أنماط شرائح اجتماعية تتصارع من منطلقات حزبية ضيقة تؤدي إلى محنة كبرى. ثانيا تشكل الروايات بمجموعها تاريخ العراق المعاصر، مشاكل جديدة في صيغة قديمة، كأن المؤلف يدعو إلى ترشيد أو تصفير الحياة السياسية، إلى بداية جديدة للخروج من محنة الذات العراقية المعذبة بعد تناول إكسير الفن الروائي وتأمل الروح أمام مرآة الخيال.

المصادر والمراجع حوالي الخمسين، والخلاصة بالانكليزية.

الدراسة بمجملها يمكن أن تترك أثرا انقلابيا في ذهن القارئ لما تحمله من أفكار عميقة جريئة واضحة.

الأدب والواقع يتناوبان غربلة المفاهيم إبراز الحيوي المجدي منها، على ان الأدب له أفضلية هنا إذ يبرز ويركز على القيم العليا باعتبارها ركيزة أساسية له، كما في واقع حصيف طبعا، لكنها لو تطمر في الواقع عن اهمال أو نيات سيئة فإنها في الأدب لابد وأن يوليها المؤلف اهتمامه الكبير، وإلاّ تتراجع قيمة الأدب، ذلك ما حرص عليه برهان الخطيب، ذلك ما يفسر اهتمام الناس حتى اليوم بالأب الكلاسيكي وما فيه من قيم عالية وغض النظر عن أدب حديث لا يولي تلك القيم المطلوب من نفس بشرية مرهفة.

برهان الخطيب تثبت الدراسة، مع كل رواية له، يتبدى من طليعة الكتاب الكلاسيكيين الجدد، الذين عادوا إلى الذود عن القيم الأصيلة العليا التي تقرب أفضل البشر بعضهم إلى بعض.  في نهاية الفصل الأول تقول الباحثة: يضع المؤلف الخطيب قارئه أمام تأريخ أمته مختصرا في قصصه ليتبنى رأيا، يتحمل مسؤوليته في نهضة أمته.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*بغداد ـ صحيفة العالم

 

2017-06-14