في المختارات الشعرية الصادرة عن الاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين (48) التي أعدها الشاعر سامي مهنا تحت عنوان "مختارات من شعر المقاومة الفلسطينية في الداخل 48"، يحشد فيها (126) نصا شعريا، مكتفيا بنص واحد لكل شاعر، متوخيا جامعها أن "تعطي الصورة شبه الكاملة عن الحالة الشعرية الوطنية بكل أجيالها، من الرعيل الأول، حتى جيل الشباب الحالي"، ومحددا كذلك الهدف من ورائها بقوله "شعر المقاومة الفلسطينية هي المقولة الدائمة أن فلسطين أرض ولادة لشعب حي ومبدع، وهو سيدها وابنها منذ آلاف السنين".
جاءت المختارات في (416) صفحة من القطع المتوسط، معرفا بالشاعر وتاريخ ميلاده أو تاريخ ميلاده ووفاته، اجتهد أن يرتب فيها الشعراء ترتيبا أبتثيا، ولكنه لم يتخذ هذا منهجا عاما، فجاءت المختارات مقسومة إلى قسمين، قسم مكون من ثمانية شعراء غير خاضعين للترتيب الأبتثي ذاك، وهم: محمود درويش وسميح القاسم وراشد حسين وتوفيق زياد وسالم جبران ونزيه خير وطه محمد علي وحنا أبو حنا، وكأنه يصنف هؤلاء الشعراء تصنيفا نقديا معينا، وقد افتقرت المقدمة من توضيح هذه "المنهجية" غير الموضوعية، بل إن فيها ما فيها من انحياز واضح لأسماء بعينها، على الرغم من أنه خالف العرف النقدي السائد في الدراسات النقدية والأدبية الفلسطينية، بأن قدم راشد حسين على توفيق زياد، وهو الذي يشكل مع درويش والقاسم ثلاثية شعر المقاومة، مؤخرا حنا أبو حنا ومقدما عليه نزيه خير وطه محمد علي.
ويتبين أن الشاعر سامي مهنا، وهو يقوم ببناء هذه المختارات لم يكن ذا منهجية محددة في الاختيار، ما خلا العشوائية الواضحة، إن صح تسمية العشوائية منهجا، في تلك النصوص التي لم تكن كلها ذات جودة فنية عالية، بل إن بعضها يعاني من الإخلالات في الوزن والصورة الشعرية والبناء اللغوي والأخطاء اللغوية، ولعل ما يعيب تلك المختارات أن المساحة الممنوحة للشعراء غير متساوية، فهناك شعراء استهلكوا ما يزيد عن ثلاث صفحات وبعضهم كان يكتفى بإدراج نص قصير له. وربما هنا يبرز الانحياز الضمني لبعض الأصوات الشعرية على حساب أخرى. عدا أنه أدرج نصوصا باهتة جدا لا تمثل شعر المقاومة، ولا يستحق أصحابها أن يسموا شعراء، فاللغة ركيكة والمعاني سطحية، واختلطت بنصوص شعرية عالية المستوى لشعراء مكرسين ولهم مكانتهم الأدبية والشعرية.
تمثل هذه المختارات المدارس الشعرية الثلاث (الشعر التقليدي المقفى، والشعر الحر، وقصيدة النثر)، وتناول فيها أصحابها موضوعات قصيدة المقاومة التقليدية من ذكر النكبة ومآسيها والشهداء والأسرى والحديث عن المدن الفلسطينية والبحر، والانتماء لهذه البقعة الجغرافية من العالم، ويصور بعضها عن طريق المقابلة بين الأنا الجمعية الفلسطينية والآخر المحتل، تلك الثنائية المعروفة، المتمثلة بثبات الفلسطيني صاحب التاريخ الطويل والحق الشرعي والقانوي وطارئية المحتل القادم من الهناك، ليجعل هذا الثابت لاجئا ويعاني الأمرين، إما تحت سلطة عنصرية أو في شتات لا يرحم.
في حين جاءت بعض القصائد مشبعة بالشعر والتقنيات الشعرية المتقدمة، سواء في الأسلوب الشعري أم في العبارة الشعرية، بما فيها الصورة البلاغية المدهشة، فوظف فيها أصحابها الأسطورة والرمزية والأقنعة التاريخية والحوار الفني المنضبط ضمن هيكلية القصيدة، أو انتهاج الأسلوب الساخر، هذا الأسلوب الذي لم يعد ينتبه إليه الشعراء، والأدباء عموما إلا نادرا ونادرا جدا. غرقت مجموعة من النصوص في السطحية والسذاجة والخواء الفكري والروحي، وجاءت مباشرة مملة ممجوجة، وسقطت في سردية وحكائية مشهدية لتكون مشاهد قصصية خائبة، واعتمد بعضها على "شعرية الاستفهام" مع أن هذه الأسئلة في القصائد المختارة كانت مغلقة، تقريرية أو إنكارية، لا تحمل قلق الوجود الإنساني أو فنيات الأفق المفتوح على إجابات ملبسة، ما يعني أن شاعر المقاومة هنا كان ينطق عن يقين، ليس يقين الإيجابيات الفنية بل يقين من امتلك مفاتيح المعرفة الكونية، مع أنه يعيش كل حالات القلق الإنساني في "بقعة" تغص بالإشكاليات بأوضاع غير إنسانية بالمطلق.
إن ما اشتملت عليه تلك المختارات الشعرية من نصوص في الأعم الأغلب، يفتح أبواب النقد على مصرعيها، ليس في محاكمات نصية منفردة لتلك القصائد فقط، بل مساءلة الشعرية ذاتها، بدءا بشعرية الاختيار وحساسيتها الجمالية والفنية، ولنتذكر رأي عبد القادر البغدادي في أبي تمام مؤلف كتاب الحماسة، إذ دل هذا الاختيار "على غزارة علمه وكمال فضله وإتقان معرفته، بحسن اختياره. وهو في جمعه للحماسة أشعر منه في شعره"، وأن نقف ثانيا على شعرية قصيدة المقاومة وأدواتها بشكل عام، تلك القصيدة التي لم تتقدم، على ما يبدو، بعد شعرائها الكبار، بل تشظت وارتبكت، وارتكبت حماقات شتى، في ظني هذا هو السؤال الأهم الذي يجب أن نطيل الوقوف عنده مليا، لنتأمل المشهد جيدا قبل أن نخطو خطوة واحدة نحو تجميع نصوص تسيء للشعر الفلسطيني، وتنحدر به في هوة الرداءة، وإعادة تسويقها وتدويرها، بدل أن تعرج فيه نحو معارج الجمال والخلود.
فكم سيبقى من نصوص هؤلاء الشعراء بعد حين من الدهر؟ لا شك في أن المتابع للشأن الثقافي غير المتعجل سيعرف الجواب، ولكنه سيمتنع عن أن يقولها، رأفة، أو خجلا، أو ربما وراء الأكمة ما وراءها!