السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
قراءة في رواية ' حنين ' للروائي والشاعر العراقي محمود جاسم النجار بقلم : الناقد والمخرج المسرحي محسن العزب

حين يكتب الشاعر والروائي العراقي الكبير محمود جاسم النجار، جنس أدبي آخر غير الشعر وليكن – مثلاً الرواية، فأن روح الشاعر تظل سيطرة عليه طوال مراحل الكتابة.. ، فرواية " حنين" القصيرة والتي جاءت من 95 صفحة من القطع المتوسط، وصدرت عن مطبوعات مؤسسة أوطان الثقافية في القاهرة عام 2017..، جاءت في معظمها مكتوبة – بلغة شاعرية، وذلك منذ بدايتها، فيا عدا بعض المقاطع التي جاءت بلغة صحافية، وهي المقاطع التي يتحدث فيها الروائي عن الأوضاع السياسية في دولة العراق وما آلت إيله الحياة الإجتماعية للمواطن العراقي، من بؤس وشقاء شظف في العيش، وعدم الإحساس بالأمان، خاصة بعد سقوط بغداد في عام 2003م، وحتى ماقبلها منذ الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق من ثلاث وثلاثين دولة بعد غزو العراق للكويت منذ عام 1990 وحتى عام 2003 م، وال " حنين" الذي يتحدث إلى كل مفردات الحياة الأجتماعية العراقية البسيطة والكريمة في ذات الوقت، والذي تغير الكثير منها بفعل الحروب الدائرة على كاهل المواطن منذ عام 1980، فيما يعرف بالحرب مع إيران أو حرب الثمان سنوات ، تلها حرب الخليج الكونية، كما وصفها المؤلف – هذاالتغيير الكبير والضخم الذي حدث للعراق – كدولة عربية غنية ببترولها وخيراتها الكثيرة – وعلى مدار عقدين من الزمان أو يزيد، وحتى سقوط النظام في عام 2003م ..، وهاهو محمود جاسم النجار يكتب حنينه إلى العراق الذي كان بكل شموخه وشموخ أبنائه، في رواية لا تقارب المائة صفحة ، ليحكي خلالها قصة – حكاية بلد عربي شامخ ومتجذر في التاريخ العربي – العالمي ..، ومليء بالخيرات، لمرحلته في العام 1979 مجموعة حاكمة وعلى رأسهم صدام حسين، لم يتركوا الشعب العربي الطيب الشهم في حاله، فأدخلوه مباشرة في سلسلة حروب متالية، حتى أتوا وبشكل مباشر على خيرات هذا الوطن، ومن ثم عى إذلال شعبه وإفقاره، حتى أجت تلك الحروب المزعومة إلى السقوط المدوي للنظام على يد الأمريكان والانجليز في عام 2003، ومن ثم تم شنق رأس هذا النظام في مشهد لا يستطيع أياً ما كان، محوه من ذاكرة أي مواطن عربي مسلم، خاصة عندما تم شنقه " صدم حسين" في نفس توقيت ذبح ضحية عيد الأضحى المبارك، وكان ذلك مقصوداً من جانب المحتل الجديد لعراق العرب والمسلمين زز وتعالو بنا لنستعرض معاً بعضاً من " حنين" ، وجلال البطل الراوي أو محمود جسام النجار نفسه العائد بحنينه الجارف إلى وطنه العراق هجرة واغتراب في أوروبا لمدة عشرة سنوات، ومقراً في الوقت ذاته ومعترفاً بأنه وجيله..، نحن جيل الحروب والدمار، وها هو جلال يرثي حال مدرسته المتوسطة بعد سقوط النظام :

"هاهي أمامي الآن..، أقف أمام بوابتها الخربة كأنها مهجورة ولم تصلها يد الإعمار منذ سنين....، آخ .. هي مدرستي ذاتها، ماعدا أنها شاخت كثيراً وتناثرت الكثير من الشروخ في جدرانها، مثلما بان على سحنتي تعب السنين، وملأت التجاعيد وجهي.... لكنها تبقى في العقل والقلب مدرستي الجميلة، حافلة وزاخرة بجزء كبير من ذكرياتي الشبابية التي تمتد ثلاثة أعوام متتالية، كانت من أجمل أيام عمري، مكتظة بالذكريات ومتخمة بالحزن والفرح معاً .

أتذكر خلال تلك الأيام، توفي والدي بعد صراع طويل ومعاناة طويلة مع مرض عضال، استمر مدة طويلة..، تحملت خلالها مسؤولية نفسي ومسؤولية إخوتي الصغار مع والدتي ، واتذكر اليوميات الأولى للحرب اللعينة التي بدأت في عام 1980..، يوم سمعنا صفارات الإنذار التي ثقببت طبلات آذاننا الرقيقة..، كان عمري حينها في بداية التفتح الشبابي، في عمر خمسة عشر عاماً..،نحن جيل الحروب والدمار,,"ص14 – 15" . وعليه نستطيع القول بأنه السرد المغلف في كل أرجائه ونواحيه بال" حنين" لعراق ماكان ومال آل إليه..، والرغبة من جانب بكل الرواية جلال في البقاء والعيش في وطنه وبجانب إخوته ووالدته..، والاستقرار بعمل مشروع داخل الوطن يدر عليه ربحاً مادياً، بعد غربة طويلة دام اكثر من 10 سنوات في إحدى البلدان الأوروبية..، إنه ال " حنين" لوطن هاديء ليس به انفجارات يومية ، وطن آمن، وطن ليس به خونة ، وطن ليس محتلاً ، وطن يفاخر بعروبته ويباهي بأبنائه، باحضانهم وبين ربوعه، لا بلفظهم خارج ربوعه..، إن جلال بطل " حنين وعبر 95 صفحة، يبحث عن كل أسباب البقاء بين أهله ووطنه المتمثل في بغداد التي هي مقر ولادته وإقامته حتى تخرجه من الجامعة، وخدمته العسكرية الإلزامية، وذلك بالبحث عن شقة سكنية لشرائها وعمل مشروع عمره فيها ..،وبالرغم من الأمور قد باتت ميسرة في سبيل شرائه للشقة، إلا إنه يقرر عدم أخذها، لأن مكوثه بها سيذكره بصديقه" ماهر" الذي كان يعمل بالحرس الرئاسي الجمهوري، واستشهد في إحدى العمليات التفجيرية العشوائية..، والذي اختار هذه الوظيفة التي جنبته الحروبوويلاتها..، لكنه القدر.. الموت وتعدد اسبابه..، هو الذي جعل حية الشهيد " ماهر" صديق جلال لاتنتهي بهذه الطريقة الماساوية، تاركاً خلفه خمسة أطفال..، لرنة الموت العشوائي.. وهناك الكثير من القصص التي على شاطلة قصة " ماهر" الكثير منها مقتل صديقه المقرب " جواد" الذي يعمل موظفاً إدارياً بوزارة الخارجية العراقية، ويسكن في نفس الشارع الذي يسكن فيه بطل الرواية وتعرفه أسرة " جلال" كلها عن قرب..، خاصة والدة جلال التي تحكي لإبنها، كيف سمعت بخبر مقتل جواد، وماذا رأت عندما ذهبت لموقع الحادث ومشاهدتها لصديق إبنها وهو ملقي على مقود سيارته، التي اشتراها من جلال إبنها في أحدى حنيناته للوطن..، وكيف أن الرصاص خرمّ السيارة كلها، إنه الموت العشوائي أيضاً، ليس إلا..، وفي مشهد روائي بليغ..، الأم فيه تحاول إثناء إبنها " جلال" عن عزمه في البقاء على هذه الأرض، في صورة بلاغية ومجازية كبيرة وضخمة، وكأن الأم هي نفسها العراق .. الوطن :-

" جلست والدتي على الأرض بالقرب مني تبكي وهي محتضنة رأسي وتقول:- عد ياولدي من حيث أتيت، لقد ذهبت الرحمة من قلوب الكثيرين إلى غير رجعة، أولئك الناس الذين استغلوا غياب الدولة والنظام، حتى تأسدوا وتوحشوا، المجرمون هم من يملأون شوارع المدينة ..، خصوصاً بعد ذلك القرار المشؤوم الذي إتخذه النظام البائد بإخلاء السجون والإفراج عن المجرمين والمحكومين بالإعدام من القتلة والسراق وومرتكبي جرائم الشرف، بينما قتل الكثير من السجناء الشرفاء والمعادين له، قتلوه الظلمة والمجرمون ومن لا يخافون الله، قتله أعداء الانسانية واعداء العراق .

قالت أمي تخبرني عن مجريات الحدث ..!

" عندما سَمعنا بالإطلاقات النارية الكثيرة من بعيد وكأننا في ساحة حرب، ظنناه ببادئ الأمر أنها قد تكون لتشييع جنازة شهيد وما أكثرهم في عراقنا الدامي على طول تأريخ عقوده الأخيرة، حتى أتانا الخبر يقول أن شخصاً ما من شارعكم قُتل وأعطونا أوصاف سيارته، لم نكن نتوقع ابداً أنه جواد، لأنه مرّ علينا قبلها بنصف ساعة وسألَ عليك ورَحل وكنا متأكدين أنه خارج المنطقة، هرعَ الجميع مسرعين وراء مَصدر الإطلاقات النارية لمَعرفة الخبر اليقين لمكان الحادث ومجرياته، كنت أنا مع جميع من يركضون يا وَلدي وعندما رأيت السيارة، أصبت بالصدمة .. تلك العربة التي أعرفها جيداً لأنك أنت من جلبتها معك من الخارج وبعتها له بعد ذلك، نسيت للوَهلة الأولى أنك بعتها وأحسَستُ حينها بالفزع والخوف عليك ..، ما أيقظني ياولدي وأرجع لي صوابي، رغم ذلك الرُعب والبشاعة التي رأيتها عندما اقتربت من مكان الحادث وشاهدت جواداً مغطى بالدماء وجهه وكلّ جسمه، ورأسه مائلاً للوراء ملتوياً لجهة اليمين بلا حركة...، كانت السيارة مثقبة بالرَصاص من كلِّ الجهات، الكلّ خائف من الاقتراب، عند اقترابي قليلاً وبطريقة لا شعورية صرخت وأجهشتُ بالبكاء لاطمةً على وَجهي .. فاجأني اقتراب شخصين شاحبي الوجه لم أر نقطة من ملامح الإنسانية في وجهيهما ووقفا بالقرب مني، وتكلّما معي بطريقة وقحة وب لماذا تبكين على شخص مجرم وجاسوس وخائن لبَلده .. ؟

كانت نظراتهما إجرامية، أرعبتني وأثقلت لساني، لم أعرف كيف أرد عليهما .. حذراني من الاستمرار وإلا قتلاني ورَماني جثةً هامدة إلى جنبه صوت جامد .. وسألاني بطريقة مخيفة وحاقدة، من أنت ِ...؟" ص 76 – 77 -78 " .

هكذا كانت أم جلال ، العراق ، العراق ، الوطن ، الخائفة على إبنها – الذي اعتاذ السفر والغتراب بعيداً عن الوطن والأم ، وبعيداً عن الموت العشواي على ايدي أعداء الانسانية والوطن، قائلة له : عد ياولدي من حيث أتيت ..، تاركةَ إياه حائراً بين البقاء النهائي في وطنه أو الرحيل المؤقت عنه..

إنها معزوفة ال" الحنين" الأبدية، مابين البقاء وسط أهله وذكرياته، والعودة إلى البلاد الأوروبية التي يعمل بها منذ عشر سنوات، وهو حنين من نوع آخر ..، حيث عائلته الصغيرة وأطفاله هناك ..، ومع يقينه التام بأن الحياة قد توقفت تماماً هنا، في وطنه العراق، خاصة بعد مقتل صديقه االمقرب " جواد" واسوداد الحياة في عينيه، وحث أمه له ونداءاتها المتكررة له بالعودة، وكأنها العراق نفسها التي تحثه على ذلك:

-أترك البلد بسرعة ياولدي وانجبنفسك من كل هذا الموت والدَمار والغدر وارجع إلى منفاك، كي أرتاح أنا واستطيع أن أنام ليلي .

- سأكون سعيدة ببعدك عنا رَغم لوعة الفراق، لكني سأكون مطمئنة لأنك في مكان آمن .

وفي النهاية فإن محمود جاسم النجار، في هذه الرواية القصيرة " حنين" يقوم بعمل بانوراما من الحنين ، يعرض فيها ورغبة قصدها الكثير من ال " حنين " لذكريات بعيدة وقريبة في الوقت ذاته، جاءت كلها في وطنه الذي يعشق..، بداية من الوقوف على شبه اطلال مدرسته المتوسطة، مرورا بذكرياته في محلات السمك المسكوف على شط نهر دجلة، وصولاً إلى مقابلة له مع فنانة عراقية مشهورة في مكتب سمسرة العقارات، لم يذكر اسمها، تريد أخذ قيمة إيجار ستة شهور مقدما لشقتها، لحاجتها للمال، حيث ذهابها إلى إحدى الدول المجاورة للعيش فيها، غير ناسياً لأول علاقة عاطفية له مع فتاة تكبره بعامين، وثاني علاقة عاطفية له، كانت مع فتاة مسيحية موصلية، ولكنهما لم يكتملا متذكراً استاذه ومدير مدرسته المتوسطة أستاذ " حسن " الذي أصبح كفيفاً، وقام بزيارته في مكانه الذي يقتطع جزءاً منه، ليبيع فيه بعض الأشياء البسيطة، حتى يستطيع مجابهته تكاليف الحياة العراقية التي أصبحت باهضة جداً..، كمان يتذكر الأساتذة " سعدي" مدرس اللغة العربية، الذي اثنى عليها كثيراً، عندما كتب موضوعاً في البعيد والإنشاء، وحببه في اللغة العربية، وفي الكتابة الأدبية بشكل عام، كما تذكر أستاذه " نجم" في المرحلة الإبتدائية الذي كان يقتطع من راتبه الضعيف لشراء شوكولاتهيضعها في جيبه للتلاميذ النجباء..، وكل هذه الذكريات التي حكاها جلال كان معه فيا صديقه رزاق الذي لم يفارقه إلا في ساعات النوم، وبعد كل ما رآه جلال في هذه الزيارة لوطنه والتي استمرت ثلاث سنوات، لم يجن فيها شيئاً سوى الحسد والندم، لهذا يقرر العودة إلى أوروبا ، حيث عمله وأسرته الصغيرة، وحيث الأمن والأمان..، فها هو يقول وهو على أرض مطار العودة :

" شعور مؤلم أن تشعر بالاغتراب وأنت تقف على ذرات تراب وطنك وبين أهلك وناسك، شعور مؤلم أن هذا الاغتراب الروحي وهذا الخوف الذي تلبّسني بدلَ الأمان الذي أتيت لأبحث عنه بين ظلال نخيلي وهَدير ماءَ أنهاري، شعور بالانكسار اليومي وأنت ترى كلّ أحلامك قد احترقت مثلما احترقت كلّ بساتين خيراتنا الموروثة والمخبوءة في طيات بلادنا وحيواتنا، ضاقت الأنفاس مثلما ضاقت فرص النجاة من التشرد والاغتراب والهَلاك وحيداً، يأس على الحُلم الذي ضاع، ذلك الحُلم الذي راودني طوال ليالٍ في سنين عمري الضائعات، صدَّقتُ لمَعان ذلك السَراب الفضي البَعيد المَنقوش بزوايا ذاكرتي الوطنية حالماً، أنها ستروي ظمئي الذي أرهقَ سنيني وتفكيري وصحتي وسَرق من أيامي الاستقرار، أخذتني اللهفة بالقدوم إليك ياوطني .. نثرتُ كلَّ أحلامي على ضفاف نهريك وبين أزقةودرابين محلاتك الضيقة وتحت أفياء نخيلك، نثرت أحلامي وذَخيرتي كلّها مرة واحدة، وها أنا لا أحصد إلا الريح في جعبتي وبعضاً من كثير وكثير من ألم وذكريات ومشاهد لفظائع موجعة ..، ستبقين يا بغداد كل أحلامي ومناطقي ومرتع صباي..

أودعك يابغداد بقلبٍ مجروح وهمّ ثقيل حتماً سيكبر ويكبر مع الأيام، مادامت الأيام تضغط على قلبك وقلبي بكلِّ خطوة تـأخذك وتأخذني نحو دهاليز المجهول ".

لم يبق في النهاية ، غير أن نؤكد على أن هذه الرواية رغم قصرها، إلا إنها تحكي عقدين من الزمان أي ما يتجاوز العشرين عاماً بقليل، لكل ما عاناه الشعب العراقي الطيب الكريم، من مآسي كبيرة، بفعل الحروب الكونية التي فرضت عليه فرضاً، ومازال يرزح تحتها إلى يومنا هذا ..، مؤكدين ايضا على مقولة سيدنا علي ابن أبي طالب " رض" الصالحة لكل أزمنة والأمكنة :

المال في الغربة وطن

والفقر في الوطن غربة

2017-08-14