الأحد 4/3/1446 هـ الموافق 08/09/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
بعيداً عن التخوين...بقلم: محمد عودة الله

بداية الرحمة لشهدائنا الأبرار الذين سقطوا في المواجهات الأخيرة وفي كل مواجهة من أجل الحرية والمساواة والعدل والكرامة والحق في الوجود في كل مكان وزمان، هؤلاء الأكرم منا جميعاً والذين يذكروننا دوماً أننا مقصرين مهما قدمنا لأن هنالك من سبقنا في العطاء ولأن فلسطين تستحق، ولهم ولكل من قاوم ننحني خجلاًوتواضعاً.

إن الحق في العمليات المسلحة حق تكفله جميع الشرائع الدولية في مواجهة الاحتلال العسكري فما بالك في مواجهة الفصل العنصري والتطهير العرقي والاستيطانالإحلالي الذي تمارسه دولة الهمج المسماة إسرائيل، وإن إسرائيل بصفتها جريمة ضد الإنسانية تتحمل كامل المسؤولية عن كل قطرة دماء سالت أو تسيل على تراب هذا الوطن، وإسرائيل ومن وراءها الغرب هم من بدأ بالعنف باحتلالواستيطان الأراضي العربية وبرفض أي حل أو تسوية، وعليه فإن صراعنا صراع وجود وعلينا أن نتذكر وإلى الأبد أن فلسطين، كل فلسطين، عربية، وما نراه من صراخ الغرب وإسرائيل عن العنف لا ينم عن أي موقف مبدئي أو أخلاقي وإنما ينم عن إشكالات توظيف العنف كأداة لقهر الشعوب خارجياً وداخلياً ومحاولات احتكاره.

ما لفت نظري في الآونة الأخيرة هي مقولات التخوين التي تجتاح مجتمعنا والتي تشبه إلى حد بعيد ثقافة التكفير لدى داعش أو الاستئصال لدى الغرب، فبعد تصفية الكثير من القيادات الوحدوية لدينا، من الشهيد الرمز ياسر عرفات إلى الشهيد أحمد ياسين، وغيرهم من القادة الذين لم ينقصهم الشجاعة ولا الثقة ولم تغيب عن أعينهم المصلحة الوطنية العليا المتمثلة في ضرورة الحوار الوطني والشعبي والفصائلي، بعد هؤلاء بات لدينا قيادة في رام الله مقدامة في الحوار والتفاوض مع أعتى العنصريين من نتنياهو إلى ترمب، وفي التغزل في الرأي العام الصهيوني، وغير قادرة على التحاور مع حماس أو الفصائل الأخرى أو حتى أبناء شعبها بعيداً عن التخوين والإهانة وكره الذات أو خارج إطار أجهزة المخابرات، ولدينا في المقابل قيادةحماس في غزة قادرة على الحوار مع تركيا وقطر ومحمد دحلان، وغير قادرة على التفاهم مع قيادة رام الله، على مثل هذه القيادات أن تخجل من سلوكها وأنت تتأمل جيداً فيما تفعل لأن من يتخلى عن مسؤوليته تجاه شعبه ووطنه لن تنفعه العلاقات الدولية والإقليمية والرأي العام الإسرائيلي، لأن أفضل هؤلاء لا يرى في فلسطين في أحسن الأحوال أكثر من عتبة للطموحات الإقليمية والدولية، إن تصليب شعبنا الفلسطيني هو الرافعة ذات الأصالة في دفع قضيتنا إلى الأمام في الساحة الدولية وليس العكس، كل هذه القيادة لا تسوى شيئاً بدون الشعب الفلسطيني ونضالاته، ومن يعتقد غير ذلك سيتعلم الدرس.

وللأسف بدأ ضيق الأفق يعمي شعبنا الفلسطيني نفسه، فمن كان يؤيد عمليتي حلميش والأقصى أخذ يخون كل من حاول أن ينتقد ولو بشكل موضوعي وطفيف العمليتين، وفي المقابل هناك من المعارضين من خون شهداء العملية أنفسهم.

إن أي مجتمع يريد أن يطور من أدواته ويزيد من تماسكه ويمنع الفتن الداخلية، عليه أولاً وقبل كل شيء فتح مساحات النقاش والحوار حول جميع القضايا، وهذا لا يتم إطلاقاً بتخوين وجهات النظر المخالفة، وليس المهم أن نتفق على جميع الاستنتاجات، المهم أن نتفهم بعضنا البعض وأن نعبر عن آرائنا بحرية ودون خوف وبعيداً عن التخوين، المهم أن نتحاور، لا يوجد مكان آخر في العالم نحبه إسمه فلسطين، ومن أجلنا ومن أجل هذا الوطن الكبير بالحب لا بد من الحوار، وعلينا أن نعي أن صراعنا صراع وجود، المقولات العنصرية بضرورة عمل "ترانسفير" آخر لشعبنا تتداول بكل أريحية في الدوائر الصهيونية وعلناً، وهي ليست أكثر من دعوة لجريمة أخرى ضد الإنسانية، المعركة أمامنا تحتاج إلى الوحدة، والبديل عن الحوار هو الإقتتال الداخلي، وعلينا أن نختار بعيداً عن العنتريات والمصالح الآنية والضيقة.

إن شعبنا كان وما زال أمام خيارين لا ثالث لهما في مواجهة الإحتلال، إما النضال الجماهيري أو الكفاح المسلح، خيار الكفاح المسلح مغري ولكنه يحتاج إلى مدد من السلاح غير متوفر من جوارنا العربي في الظروف الراهنة، هذا الخيار مستحيل حالياً ولكن يجب الإبقاء عليه فيما لو تغيرت الظروف وستتغير، وأما النضال الجماهيري فيحتاج إلى تحرك جماهيري عارم مدفوع بأهداف وقيم محددة وتقوده قيادة لا تلين، والأرجح أن تكون كلفته عالية، لكن ما شهدناه مؤخراً في القدس يبعث على الأمل وهو درس يستحق أن نتأمله جيداً، وأنا لا أقصد بتاتاً بالنضال الجماهيري المفاوضات أو مستنقع أوسلو، بل أقصد التحرك الجماهيري بمطالب العدالة والمساواة والحرية والكرامة وهذه المنظومة من القيم هي نقيض أوسلو، ويجب أن يقترن مثل هذا التحرك ليس بمقاطعة المنتجات الصهيونية فحسب بل منتجات الغرب الذي يقف خلف إسرائيل، وعلينا كفلسطينيين أن نرتقي إلى مستوى المواجهة ونمثل نموذجاً لعموم الشعب العربي والشعوب الإسلامية في المقاطعة ليحذوا حذونا، يمكننا ذلك وأكاد أجزم أن المقاطعة وحدها كافية لدفع الغرب لإعادة حساباته ليس فقط في فلسطين بل حتى الأيدولوجيا العنصرية التي توجه سياسته في المنطقة، إن المعركة بأيدينا كشعوب ونحن قادرين على حسمها بأقل الخسائر، وثمن التقاعس في المقاطعة المؤثرة ماثل للعيان في استيطان فلسطين ودمار سوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال والقائمة تطول وتتوسع، كلنا يتحمل مسؤولية فردية فيما يجري، والبكاء والعويل لا ينفعان، ما ينفع هو أن نحول الآلام إلى إرادة مقاطعة تعبر عن موقفنا بشكل حضاري متجذر في الحق في التعبير واحترام الحياة، المسؤولية الفردية والإرادة هو ما ينفع هنا.

 

إن جميع الشعوب التي تحررت سلكت أحد الطريقين، فكوبا والجزائر سلكتا درب الرصاص وجنوب افريقيا والهند درب النضال السياسي، أما الخلط بين هذين الشكلين كما نشهد في الساحة الفلسطينية فهو كارثة لأن العمليات الفدائية الفردية لا تحدث خللا في موازين القوى وتمنع الجماهير من المشاركة الفاعلة برفع كلفة العمل السياسي وتتيح للاستعماراستثمار الأحداث سياسياً، هذا ناهيك عن كون المستهدفين أحياناً من المدنيين، وأنا لا أقول أن هذه العمليات خطأ بالمطلق، كلا، لأن إسرائيل هي المسؤولة، ولكنني أدعو إلى تقييم مجمل أدواتنا في المواجهة بما يخدم تحقيق أهدافنا التحررية، وبالمقابل فإن المفاوضات دون رافعة نضالية وحتى معها هي ضرب من العبث، هذا ما أثبتته أكثر من 20 عام مفاوضات.

إن الحل في رأيي يكمن في التحرك الشعبي مثلما علمنا أهل القدس وإعادة الاعتبار للشارع الفلسطيني والتخلي عن السلطة، وإن معركة الوجود التي تخاض ضدنا تفرض علينا أن نتحاور بعيداً عن لغة التخوين، وأن نتوحد لأن المركب الذي يحملنا جميعا إذا غرق، سنغرق جميعاً حتى من وجد منا في العدو صديقاً.

2017-08-15