أطاح المرسوم الرئاسي، الصادر الأربعاء الفارط، القاضي بتشكيل لجنة وطنية "لتطوير" قطاع العدالة بالإرادة السياسية التي ظهرت لدى الرئيس الفلسطيني محمود عباس مجددا لإصلاح القضاء. حيث تثير أحكامه مسائل متعددة وتتناقض، في ظني، مع إرادة الرئيس الفلسطيني محمود عباس؛ فالمرسوم لم يذكر كلمة الإصلاح واستعاض عنها بالتطوير الامر الذي يفيد أن قطاع العدالة بخير ويحتاج الى أدوية مكملة "فيتامينات" من ناحية. كما أن المرسوم لم يحدد رئيس اللجنة "الوطنية" وقد يكون هذا الامر متروك لأعضاء اللجنة لانتخاب رئيسا لها أو اختيار أحد من بينهم ما يتنافى مع مكانة أعضائها من ناحية ثانية.
وقسم هذا المرسوم أعضاء اللجنة نصفهم من الحكومة "بمعناه الواسع وفقا لموريس دوفرجيه" والنصف الاخر من ممثلين لمؤسسات المجتمع المدني الحقوقية وأكاديميين "لن يدخل المقال في نقاش آلية اختيار كليات الحقوق بعينها واستثناء أخرى من جامعات فلسطينية وان هي جديرة بالاهتمام" من جهة ثالثة، وان التركيبة هذه بالضرورة لا تذهب لعملية الإصلاح بقدر ما ستؤول الى صراع على الصلاحيات بين أقطاب "اركان العدالة" وفقا للتجربة الفلسطينية، وهذا لا يحمل على شخص أعضاء اللجنة على وجه الخصوص فهم في جلهم أصدقاء شخصيين لصاحب المقال أو في حكم الأصدقاء على الأقل لهم الاحترام والتقدير دون أدنى شك، من جهة رابعة.
من حاك هذا المرسوم بهذه الطريقة من الخياطة إما انه من الدهاء والخبث ليمنع عمل اللجنة ذاتها ويتجاوز مطالبات المجتمع المدني المتكررة على مدار السنوات الماضية ويحول دون وصول إرادة الرئيس بالإصلاح الى مبتغاها، أو انه لا يعلم مجريات الأمور وظاهرها، دون الحديث عن خباياها، لما آلت اليه حالة الجهاز القضائي بالبلاد في ظل صراع ما بين اقطاب "العدالة" امتد على مدار السنوات الفائتة. فقد بات مدار حديث العامة والخاصة سؤال "من ينصح الرئيس أو يُحيك مثل هكذا قرارات؟ في هذه الأوقات الحرجة للسلطة الفلسطينية والانكشاف أمام مجتمع الممولين لها.
بدد هذا المرسوم الأحلام بمسألة اصلاح السلطة القضائية الذي طال انتظارها وبإجراء خطوة جريئة، كالتي أقدم عليها الرئيس محمود عباس عام 2005 بتشكيل اللجنة التوجيهية لإصلاح القضاء، للقيام بعملية جراحية باتت لازمة للقضاء الفلسطيني لإصلاح الخلل البنيوي ولتعزيز سيادة القانون نتيجة لعللٍ أصابت الجهاز القضائي في السنوات الفارطة، وباتت هذه العملية أكثر الحاحية بعد ما شاهدناه من تدخل للسلطة التنفيذية ومن الاحاديث عن تدخلات لأطراف على هامش السلطة التنفيذية تنزع نحو تأمين مصالح خاصة على حساب حقوق المواطنين وارزاقهم.
ترسخت قناعة لدى مؤسسات المجتمع المدني، على مدار السنوات الخمس الأخيرة، بعدم قدرة السلطة القضائية على اصلاح نفسها؛ إثر التجاذبات العميقة التي ظهرت بين شيوخ القضاة في أروقة المحاكم وصفحات الاعلام، وبحاجتها (أي السلطة القضائية) الى تدخل خارجي قادر على ترجمة الإرادة السياسية للقيام بعملية إصلاح جريئة؛ وبالمناسبة هذه ليست تجربة فريدة من نوعها أو معجزة فلسطينية فقد خاضت دول مجاورة هكذا عملية اصلاح للجهاز القضائي منذ امد طويل.
كما أن الامر لا يقتصر على رؤية مؤسسات المجتمع المدني أو تقاريره بل أيضا على رأي المواطنين ومدى ثقتهم بالجهاز القضائي في أكثر من استطلاع للرأي العام أجري في البلاد؛ حيث يرى ثلث المواطنين ان القضاء غير مستقل و45% يرون ان القضاء مستقل نسبيا وفقط خُمس (22%) المواطنين يرون أن القضاء مستقل عن السلطة التنفيذية وأجهزة الامن والتنظيمات السياسية، وأشار 45% من المواطنين أنهم غير راضين عن نزاهة القضاء الفلسطيني أي عن قدرته على الحكم حسب القانون وليس حسب مصالح أفراد أو عائلات أو مجموعات داخل السلطة التنفيذية أو أجهزة الأمن.
في ظني ان إعادة ترجمة الإرادة السياسية لدى الرئيس محمود عباس تتطلب انشاء لجنة وطنية برئاسة شخصية وطنية وازنة تحظى بالاحترام لدى ذوي الاختصاص ويثق بها المجتمع الفلسطيني، وأن لا يكون أيا من أعضائها جزءا من أركان العدالة الحالية أو لديه مصلحة آنية أو مستقبلية أو طموحات بأن يكون جزءا من السلطة القضائية أو النيابة العامة مستقبلا. وأن تكون مهمتها وضع رؤية شمولية تعالج مواطن الخلل وتحدد خارطة طريق لعملية الإصلاح في السلطة القضائية بما فيها اقتراح إجراءات التطهير وفق معالم واضحة ومحددة وأسس قانونية قائمة على العدل والانصاف، وإعادة النظر في بنية الجهاز القضائي، وبنية مجلس القضاء الأعلى وطريقة اختيار أعضاءه، وطريقة انتخاب/ تعيين رئيس المحكمة العليا، والفصل بين الدرجة والمسمى الوظيفي للقضاة.