وأخيراً بعد عشر سنوات عجاف من الشرذمة والتمزق والانقسام وصلت حكومة رام الله يوم الاثنين 2/10/2017، إلى غزة كي تستلم مهامها ووظائفها وتعقد اجتماعاً إجرائياً يدلل على تغيير مظاهر المشهد السياسي الفلسطيني بعد خطوة حركة حماس يوم 17/9/2017، بإعلانها الموافقة على شروط الرئيس محمود عباس الثلاثة: 1- حل اللجنة الإدارية التي تدير قطاع غزة وهو ما حصل، 2- استلام حكومة رامي الحمد الله إدارة قطاع غزة وها هي الخطوة الثانية قد تحققت، 3- إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وهي مؤجلة، وأشك أنها ستتحقق إلا إذا ضمن الرئيس أن لا منافس له من قبل حماس، وأصبح مرشح الإجماع الحزبي من طرفي الانقسام والتنافس، فتح وحماس .
إرادة حمساوية
لا شك أن إرادة حماس، بائنة فاقعة في هذا الاتجاه، نحو المصالحة، سواء بسبب فشلها في أن تكون بديلاً عن منظمة التحرير وسلطتها الوطنية، أو بسبب إخفاقها في إدارة قطاع غزة، وعجزها في أن تكون فصيلاً مقاوماً، وهي تقود السلطة في القطاع في نفس الوقت، أو ان هذه الارادة تحققت استجابة لضغوط مصرية، على أثر فشل حركة الإخوان المسلمين في ثورة الربيع العربي في مصر وفي سوريا وليبيا والأردن واليمن والعراق، حيث أثرت سلسلة الهزائم والإخفاقات الإخوانية على حركة حماس، فبدلاً من أن تكون رافعة للحركة كما كانت في عهد المقاومة قبل الانقلاب 2007، آلت الى عبء، وتفاقم الامر بعد قرار حسمها العسكري واستلامها منفردة للسلطة في غزة، اذ صارت العلاقة مع الإخوان المسلمين ثقلاً اضافياً وقع على كاهلها، فتخلت عنه ولو ظاهرياً، حيث الهامش متاح أمامها للتغيير والتبديل، أو أن حركة حماس بوعي ذاتي أدركت أن الأولوية للمشروع الوطني الفلسطيني وليس لمشروع الخلافة والقيم العقائدية والإسلام هو الحل .
حركة حماس استبقت المعطيات الحالية، وقدرت المطلوب، فكانت وثيقتها السياسية في أول أيار 2017 بمثابة برنامج سياسي وانتخبت قيادة جديدة إنعكاساً لرؤيتها المستنيرة، وكانت قيادتها الجديدة، وهما عاملان مهمان يشيران إلى التغيير والتكيف المطلوبين من قبل حماس حتى تواصل الحياة وهذا يُسجل لها لا عليها، وقد تم ذلك قبل المصالحة، اذ كانت وثيقتها وقيادتها بمثابة المقدمة، بل والأرضية التي تمت على أساسها سلسلة التفاهمات في القاهرة ورعايتها مع تيار دحلان في جولتي التفاهمات الأولى في 11 حزيران والثانية يوم 11 آب 2017 وصولاً إلى المصالحة مع الرئيس عباس وحركة فتح؛ ما يعكس دينامية قيادتها وسرعة التكيف لديهم .
مكاسب بديلاً عن الخسارة
حماس لن تخسر، وخسارتها بمثابة خطوتين إلى الخلف، من أجل خطوة جوهرية إلى الأمام، وهي ستكسب، فقد أثبتت أنها فصيل يجيد إدارة التفاهمات :
أولاً : مع الحكومة المصرية حيث لبت كافة شروط القاهرة الأمنية والسياسية وتحولت إلى فصيل يستجيب لمتطلبات الواقع والتطورات السياسية المتحركة.
ثانياً : مع تيار النائب محمد دحلان العدو السابق والخصم اللدود والصديق اللاحق الذي بات لا غنى عنه وطنياً وتنظيمياً .
ثالثاً : وها هي خطوات التفاهم مع القاهرة ومع دحلان تصل إلى العنوان والمبتغى، نحو الرئيس محمود عباس الذي رضي ورحب وتجاوب .
تفاهمات حماس ستنقل الحركة نحو الموقع الأفضل من ناحيتين، فهي من جانب شريك قوي مع حركة فتح لا يستطيع الرئيس عباس التصرف سياسياً وإدارياً بدون التوافق والتفاهم مع حركة حماس سلفاً، وهي من جانب أخر ستلعب ورقة المعارضة السياسية، وتتحول إلى شريك من الباطن، تكسب إن حققت حركة فتح مكاسب، ولن تخسر حينما تفشل فتح في تحقيق إنجازات وطنية، وهكذا ستؤدي دور حزب الله في لبنان .
الخطوات العملية
خطوتا حركة حماس الأولى حل اللجنة الإدارية والثانية تسليم قطاع غزة، لن تكونا كافيتين على المستوى الوطني، فالخطوات المقبلة هي الأهم من الخطوات الإجرائية التي تمت، فالخطوة الأولى المقبلة تتمثل باللقاء المركزي بين قيادتي الفصيلين في القاهرة حيث سُتفتح كل الملفات العالقة ولكن بدون حساسيات، وعدم العودة إلى الماضي، بل بروح جديدة تُوحي وكأن فتح حققت انتصاراً بما تم، وتؤكد أن حماس تكرمت وقدمت تضحيات للوصول إلى هذا المستوى من التفاهم وإلى هذه الخطوات التراكمية التي تحققت، فاللقاء بين الفصيلين وما سينتج عنهما ستكون قاعدته الشراكة بينهما، لأن حركة فتح لم تعد كما كانت أول الرصاص أول الحجارة، فالإخفاقات تركبها من رأسها حتى قدميها ولهذا ستقبل الشراكة مع حماس مرغمة، ولأن حركة حماس في نفس الوقت فشلت في كافة مساعيها لأن تكون الفصيل القائد البديل عن منظمة التحرير وعن فتح وعن السلطة، وها هي تعود مرغمة كي تقبل أن تكون مجرد شريك في إدارتي منظمة التحرير وسلطتها الوطنية، والحصيلة أن الطرفين لا خيار لهما وعندهما سوى التعايش والشراكة مع بعضهما البعض وهذا هو نتاج الشعب الفلسطيني .
الشراكة هي قاعدة العمل، وهذا ما سيتم فعله والتوصل إليه عبر اللقاء الأول المتوقع بين الفصيلين، إلى الخطوة اللاحقة الضرورية وهي لقاء الفصائل الـ 13 في ظل القاهرة ورعايتها، وسيكون الجميع تحت المظلة المصرية، ليس فقط لغياب أي عاصمة عربية يمكن لها ان تستقبلهم، بل لأن القاهرة لديها برنامج متفق عليه، ولديها طموح تتطلع له، ولديها متاعب أمنية وسياسية تسعى للتخلص منها، وقد بدأ ذلك عبر الترويض أو التكيف أو الاستجابة الحمساوية وانتقالها من موقع التصادم مع سياسات وخيارات الرئيس السيسي وحركته ضد الإخوان المسلمين، إلى التماثل معه والتكيف مع أجهزته وسياساته .
ترحيب الرباعية المفاجئ
بيان اللجنة الرباعية : الأمم المتحدة، والولايات المتحدة وروسيا وأوروبا، في تقدير الجهود المصرية لإنجاز المصالحة الفلسطينية وعودة السلطة إلى غزة، لم يكن بفعل ضغط روسي أو أممي حرصاً على الشعب الفلسطيني، بقدر ما هو مبادرة أميركية وجدت القبول السريع والاستجابة السياسية من قبل الأطراف الثلاثة، مما يدفع المراقب للاستفسار عن مغزى الدوافع الأميركية للقيام بهذه الخطوة الفاقعة والتي لا تحتمل التقدير، فالترحيب الأميركي والصمت الإسرائيلي يُثيران التساؤلات مثلما يُثيران الاستفزاز لوعي المراقب حول الدوافع الكامنة لقبول المصالحة الفلسطينية والتثبت عليها، مما يدلل على وجود خبايا خلف الثناء الأميركي وعدم العرقلة الإسرائيلية، فقد « رحب المبعوث الأميركي جيسون غرينبلات بوصول وفد السلطة إلى غزة، وقال إن كل حكومة فلسطينية ستقوم، ستضطر إلى التمسك بعدم العنف والاعتراف بإسرائيل والموافقة على الاتفاقات الموقعة، وأكد عزم الرئيس ترامب على تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وقال أن الولايات المتحدة ترحب بالجهود المبذولة لخلق ظروف تسمح للسلطة الفلسطينية القيام بواجباتها ازاء غزة «، وها هو نتنياهو يتبجح بعد صمته ليعلن شروطه المتطرفة وغير المنطقية، فهل هو يعترف بدولة فلسطين حتى يُطالب الاعتراف بدولته المارقة المحتلة لأراضي ثلاثة بلدان عربية وتمارس حكومته وأجهزته كل الموبقات ضد حقوق الإنسان في فلسطين .
التصريحات الأميركية على لسان طواقم إدارة ترامب من قبل الثلاثي، المستشار كوشنير والمفوض جرينبلات والسفير فريدمان، إضافة إلى السفيرة في الأمم المتحدة هيلي نيكي، تدلل على مدى انحدار الإدارة الأميركية عن مواقف الإدارات السابقة، وانحيازها للمشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي بلا حدود، فإدارة بهذا الشكل وبهذا المستوى من الانحياز للدولة المارقة التي تمارس كل أنواع القهر والقتل والاعدامات لشباب وشابات فلسطين، ومواصلة الاستيطان وسلب أراضي الفلسطينيين وتمزيقهم وتشريع قوانين عنصرية وممارسات الأبارتهايد المتطرفة، وعدم الالتزام بقرارات الأمم المتحدة، لا يمكن أن تكون نواياها طيبة أو حسنة أو محايدة أو منصفة مع الشعب الفلسطيني وحقوقه وتطلعاته الوطنية .
وحكومة نتنياهو الأشد تطرفاً وعدوانية وتوسعاً، ليس لديها استعداد لبلع واقعية الرئيس الفلسطيني والتزاماته وتمسكه بالتنسيق الأمني، فكيف لها أن تبلع معه حركة حماس، إلا إذا كان فخاً منصوباً للحركة الوطنية الفلسطينية برمتها، لعله يضعفها ويزيد حاجتها للمساعدات، وبفعل الضغوط ستستجيب لصفقة القرن الأميركية في نهاية المطاف .
موقف الفصائل الفلسطينية
الفصائل الفلسطينية رحبت بلا تحفظ على إجراءات التراجع الحمساوية عن مظاهر الانقلاب وحسمها العسكري، ووضع مداميك جديدة على طريق التفاهم والشراكة وبناء مؤسسات وقيم الوحدة الجبهوية في إطار منظمة التحرير، ولكن الموقف الأهم هو موقف الطرف الأخر من حركة فتح، موقف التيار الإصلاحي الديمقراطي الذي يقوده النائب محمد دحلان، إذ صرح سمير المشهراوي القيادي الأبرز في التيار الفتحاوي وكشف بكل وضوح وصراحة عن دواعي فخره في أن يكون تياره « سببا في تحريك دواليب المصالحة بدعم من الامارات العربية وجهودهم الاخوية الحثيثة لإتمام هذه المصالحة رغم كثرة العقبات، ومن البديهي ان ندعم كافة الجهود لرفع الظلم عن اهلنا في غزة، ووقف العقاب الجماعي ضدهم وضد موظفيهم، وارجاع البسمة لأطفال غزة، ووقف سياسة التعسف ضدهم في محاولة صادقة منا لإنهاء الانقسام بعد التفاهمات الاخيرة في القاهرة مع اخوتنا الاشقاء في حركة حماس « .
وقال « بكل تواضع نفتخر بدورنا في تحريك المياه الراكدة للمصالحة بعد تعثرها في أكثر من محطة، وجعل قطار المصالحة يتوقف لأسباب عديدة «، وقال « لم نتسابق لأخذ الصور بل كنا جادين وصادقين في النوايا لإتمام المصالحة، ونجحنا في تقريب وجهات النظر بين الاخوة في حماس، واخوتنا في مصر، وتركنا الباب مفتوحا أمام اخوتنا في رام الله لإكمال مشوار المصالحة، بعد ان اشعلنا شرارة انطلاق قطار المصالحة الفلسطينية من القاهرة بكل تواضع، وكان لنا الشرف في هندسة خطوات المصالحة بين جميع الاطراف، جنبا الي جنب مع اخوتنا في جمهورية مصر العربية « .
ولم يتوقف سمير المشهراوي أمام « أهمية المصالحة بين حركتي فتح وحماس باعتبارها أولوية وطنية، لا بديل عنها من أجل مصلحة الوطن « ولكنه واصل نحو ذكر المصالحة الفتحاوية بوصفها كما قال « هي من أهم الاولويات بعد اتمام المصالحة مع اخوتنا في حماس، حيث لا يمكن ان تتصالح فتح مع حماس، وفي نفس الوقت تنسى فتح أبناءها، ووحدة حركتها، وسلامة جسدها « .
* كاتب سياسي مختص بالشؤون الفلسطينية والإسرائيلية.