كشفت الكثير من الدراسات عن أن الصحافة المصرية التي كانت تصدر في الفترة الواقعة ما بين 1897 ، وهو موعد عقد المؤتمر الصهيوني الأول حتى عام 1917 ، موعد صدور وعد بلفور المشؤوم ، كانت هذه الصحف على علم واسع بوجود ونشاطات الحركة الصهيونية ، فقد كتبت اثنتان من الصحف المصرية اللتان كانتا تصدران في ذلك الوقت وهما صحيفة " المقطم " و " الأهرام " عن المؤتمرات الصهيونية التي كان يعقدها اليهود في أوروبا .
كتبت صحيفة " المقطم " عن المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في مدينة بازل السويسرية عام 1897 ، في حين كتبت صحيفة " الأهرام " عن المؤتمر الصهيوني الثاني الذي عقد عام 1898 ، كما أمكن حصر مئات الأخبار وعشرات المقالات ، تناولت جميعها المسألة الخاصة بالخطر الصهيوني في فلسطين ، نشرتها الصحف المصرية خلال الفترة المذكورة .
يرى الكثيرون أن هذا الكم من الموضوعات المتعلقة بالخطر الصهيوني في فلسطين ، قليل جداً ، لأن الأحداث كانت متشابكة ، والصحف المصرية الصادرة في هذه الفترة كانت كثيرة ، نذكر منها – صحيفة المقطم ، الأهرام ، المؤيد ، الجريدة ، الأهالي ، واللواء .
من بين الأسباب التي تقف وراء شحة وتقاعس أقدام الصحف المصرية على تناول موضوع الحركة الصهيونية ، تعود إلى وجود طائفة يهودية في مصر ، كانت تسيطر على الاقتصاد المصري ، كما أن الاغنياء من أبناء هذه الطائفة كانوا يسيطرون على زوايا الاعلانات الصادرة في هذه الصحف ، هناك سبب آخر ، يعود الى ارتباط شخصيات يهودية بارزة في المجتمع المصري بالسلطة الحاكمة - المصرية البريطانية .
هذا وغيره مكن اليهود ، خاصة من انضم أو تعاطف منهم مع الحركة الصهيونية من الضغط على أصحاب الصحف ، وعلى عدد من الكتاب الذين كانوا يتعرضون لمناقشة الخطر الصهيوني على فلسطين .
و كان ما يزيد عن 25% من مساحة الصحف المصرية مخصصة لزوايا الاعلانات ، هذا بالإضافة الى الإعلانات المتناثرة داخل الصفحات الداخلية . هناك من يدعي ان النسبة التي احتلتها موضوعات خاصة بالصهيونية وخطرها على فلسطين معقولة ، على اعتبار أن هذه الصحف قد اهتمت بنشر وتغطية أخبار وقضايا خاصة بالدولة العثمانية .
بالإضافة الى اهتمامها بتغطية قضايا عالمية ومصرية ، وهناك من رأى أن عدم تناول الصحف المصرية الأخطار الناجمة عن الحركة الصهيونية التي تهدد فلسطين ، يعود الى ان هذه الحركة لم تفصح عن نواياها الحقيقية ، خاصة بعد ان طرحت خلال المؤتمرات الصهيونية المتلاحقة اسماء مناطق خارج فلسطين ، لاستيعاب اليهود مثل وادي العريش واوغندا .
لكن غالبية الباحثين أمثال الدكتورة سهام نصار في كتابها " موقف الصحافة المصرية من الصهيونية " و الكاتب ابراهيم دسوقي " وصوراً من الصحافة المصرية " ، جميعهم يؤكدون بأن الصحافة المصرية ، لم تكن بمعزل عما يدور في العالم ، في أوروبا بالذات ، خاصة بريطانيا وفرنسا ، وذلك للإفادة منها لصالح القضية المصرية ، ومما يؤكد ذلك ، تلك المساعي التي كان يبذلها الزعيم الوطني المصري ، مصطفى كامل في الدوائر الصحفية والاوروبية .
من بين النشاطات التي قام بها مصطفى كامل ، زيارة " هرتسل " زعيم الحركة الصهيونية مرتين ، كانت احداهما في عام 1897 ، قبل انعقاد مؤتمر بازل ، وقد طلب مصطفى كامل خلال هاتين الزيارتين المساعدة الصحفية من هرتسل ، لخدمة القضية المصرية ، لأن مصطفى كامل كان يدرك قوة نفوذ اليهود في الصحافة الأوروبية .
من بين المصادر الرئيسية التي استقت منها غالبية الصحافة المصرية معلوماتها الخارجية ، وكالتي " رويتر " و " هافاس " ، وهاتين الوكالتين كانتا ملكاً لليهود ، وقد عملتا على إبراز الحركة الصهيونية ، كحركة تحرر قومي ، وطني ، اجتماعي هدفه تخليص اليهود من الغبن الذي لحق بهم في أوروبا .
وفي كثير من الحالات اضطرت الصحف المصرية الى الاعتماد على هاتين الوكالتين في استقاء أنباء الحركة الصهيونية ، ونقل وجهة النظر الصهيونية الايجابية . هذا يعني ان هذه الصحف تورطت في خدمة الاهداف الصهيونية ، خاصة فيما يتعلق بمسألة اضطهاد اليهود في أوروبا ، كما دافعت هذه الصحف عن الضابط اليهودي في الجيش الفرنسي الذي اتهم بالتجسس لالمانيا ويدعى " درايفوس " ، كما دافعت عن مسألة ملاحقة اليهود في أوروبا ، عن قصد أو بدون قصد ، هناك من أعتبر هذا الدفاع خدمة للفكر الصهيوني ، الذي رأى بفلسطين وطن الخلاص لليهود . كانت ردود الفعل لدى المصريين بعد نشر مثل هذه الأخبار في صحافتهم، خلق موجة من الاهتمام والتعاطف بين القراء ، خاصة فيما يخص قضية " درايفوس " حتى أن صحيفة " المؤيد " قامت بنشر وقائع جلسات محاكمته . اكثر من ذلك فإن الأخبار التي نشرتها صحيفتا " المقطم والمؤيد" عن الاعتداءات التي كانت تقع ضد اليهود في أوروبا ، فاقت ما نشرته هاتان الصحيفتان عن الحركة الصهيونية واطماعها في فلسطين ، وقد أدى ذلك الى وقوع هاتين الصحيفتين في مأزق ، ففي الوقت الذي كانت تنشر وتنقل المعلومات والأخبار عن المذابح ضد اليهود ، أصبح من الصعب عليها اتخاذ موقف معاد لهجرة اليهود إلى فلسطين ، لدوافع انسانية من ناحية ، ومن ناحية ثانية ، خشية اتهام هذه الصحف بمعاداة السامية ، في الوقت الذي أبرزت فيه الصحافة الأوروبية ووكالتي " رويتر " و " هافاس " أخبار اضطهاد اليهود ، جرى التعتيم على الانتشار السرطاني للاستيطان اليهودي في فلسطين ، كما جرى التعتيم على معاناة الفلسطينيين من جراء هجرة اليهود المتلاحقة تحت غطاء انتشار اللاسامية في اوروبا .
( يتبع )