الجمعة 28/4/1446 هـ الموافق 01/11/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
قراءة سياسية إلى ما بعد أحداث الربيع العربي..تطــورات المشهــد السيــاســي الفلسطـيني ...حمادة فراعنة

 

 الصراع بين المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني، في مواجهة المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي، محتدم بأشكال مختلفة، لم يستقر أحدهما حتى يستقر الأخر، ولن ينتصر أحدهما حتى تتم هزيمة الأخر، والمعطيات تدلل أن كليهما مازال يملك القدرة على المواجهة والعمل وفرض الذات، وان تفاوتت قوتهما وموازين القوى بينهما، حيث الغلبة والتفوق للمشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي لامتلاكه ثلاثة عوامل بارزة خاصة به : 1- قدراته الذاتية البشرية والعسكرية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والاستخبارية، 2- دعم واسناد الطوائف اليهودية المتنفذة في أميركا وأوروبا لصالحه، 3- تبني الولايات المتحدة لسياساته ومشاريعه وتوفير الغطاء لكل مغامراته العدوانية وحمايته من المساءلة القانونية والادانة الدولية على جرائمه المعادية لحقوق الانسان وقرارات الشرعية الدولية، بينما لا تتوفر للحركة السياسية والكفاحية الفلسطينية هذه المعطيات التي تجعله في حالة ندية وتكافؤ في مواجهة العدو الاسرائيلي ومشروعه الاستعماري التوسعي، باستثناء امتلاك الفلسطينيين عنصر العدالة لقضيتهم التي يتفوقون بها على المستعمرين الاسرائيليين.

 

ومع ذلك، وعلى الرغم من ضعف المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني، وخياراته المحدودة، لازال يملك فرص المناورة وتسديد الضربات مهما بدت غير موجعة لجسم العدو وادانته وتعرية سياساته، وتتضح معالم هذه الضربات على المستوى الدولي الذي بدأ أكثر تحفظاً في التعامل مع السياسات الاسرائيلية وعدم التجاوب مع توجهاتها التوسعية وقوانين الابرتهايد التي يفرضها.

تراجع الاهتمام العربي
لقد وجهت ثورة الربيع العربي ضربة موجعة نحو الاهتمام العربي والدولي لفلسطين وشعبها وقضيتها، بسبب الارهاب والتطرف وخطف أحزاب التيار الاسلامي الأربعة : داعش والقاعدة والاخوان المسلمين وأحزاب ولاية الفقيه، الأضواء من فعل الجماهير الشعبية وتطلعاتها الديمقراطية نحو التغيير والتعددية والانتخابات والاحتكام الى نتائج صناديق الاقتراع، وغيرت أولويات حركة التحرر الوطني والاجتماعي العربية من العمل نحو استكمال خطوات الاستقلال السياسي والاقتصادي، وتوفير العدالة الاجتماعية، وشيوع الديمقراطية وتحرير فلسطين، الى رفع شعارات ومضامين الخلافة الاسلامية ورفض الأخر وتطهير المجتمع منه، والمس به، وانتشار كافة أنواع الايذاء لهذا الأخر حزبياً ودينياً وقومياً واجتماعياً، حتى بات الصراع محتدماً فاقعاً وغير طبيعي ويفتقد للسوية والدوافع الموضوعية بين قيم العصر وحقوق الانسان والديمقراطية والتعددية، في مواجهة قيم الماضي والتخلف والسلفية، قيم التسلط والأحادية واللون الواحد، وبات المواطن العربي الذي اجتاحت وطنه ثورة الربيع العربي منذ بداية العام 2011، أسيراً لسلوك ومفاهيم غاية في الرجعية والتخلف، وكأنه تخلص من دلف الأنظمة الديكتاتورية ليقع تحت رحمة المزاريب الأكثر تخلفاً ورجعية وتسلطاً وديكتاتورية، وهذا نتيجة التحالف طوال مرحلة الحرب الباردة بين الأميركيين والنظام العربي وأحزاب التيار الاسلامي.ولا شك أن هذا فرض نفسه على تراجع اهتمامات الانسان العربي وأحزابه وأنظمته، وباتت الأولوية مناهضة أحزاب التيار الاسلامي وسلوكها وتسلطها وأحاديتها وما خلفته من دمار وتراجع وخراب، ومع ذلك ورغم تأثر الشعب الفلسطيني السلبي بنتائج الربيع العربي المدمرة، فقد حافظ الفلسطينيون على كينونتهم وصمودهم وزادت عزيمتهم بالتمسك بثلاثة عناوين : صمودهم على أرضهم، و هويتهم الوطنية، ومواصلة نضالهم بما هو متاح لهم من امكانات.
وهذا يعود لسببين : الأول مشروع الاحتلال نفسه كمشروع متطرف عدواني عنصري لا يقبل الأخر، ولا يوفر الحد الأدنى من كرامة الحياة، وفرص الاختيار وامكانيات التعايش، فالفضل للتمسك بالهوية الوطنية القومية الدينية، والصمود على أرض الوطن رغم الإفقار والمصادرة والاستيطان، والنضال بالأدوات المتاحة كخيار ذاتي رفضاً للظلم، يعود الفضل للاحتلال ومشروعه وتطرفه وعنصريته وعدوانيته الذي أوجد حالة من الاستفزاز والتحدي لدى المواطن الفلسطيني، أما السبب الثاني فيعود الى حيوية الشعب الفلسطيني وتمسكه بقيمه وتراثه ووطنيته وقوميته واسلامه ومسيحيته بما يتعارض مع الاحتلال ويتناقض مع مشروعه الاستعماري، لذلك ورغم معطيات الاحباط واليأس المحلي بسبب تفوق الاحتلال، والانقسام السائد منذ عام 2007، وانسداد الأفق السياسي، فقد واصل الفلسطينيون خياراتهم الكفاحية بعدة وسائل وأساليب على جبهتي المواجهة في مناطق 48 ومناطق 67.

انجازات لفلسطينيي 48
ففي مناطق 48 ورداً على محاولات التغييب والأقصاء وازالة تمثيلهم من البرلمان، من خلال قانون رفع نسبة الحسم لمنع دخول الكتل العربية الفلسطينية لعضوية البرلمان الاسرائيلي بشروط الحصول على 3.15 بدلاً من واحد ونصف بالمائة من عدد المصوتين، بهدف عرقلة نجاح أي قائمة عربية وصعوبة الوصول الى عضوية الكنيست، فقد حقق الفلسطينيون في مناطق 48 أبناء الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل المختلطة خطوة جوهرية غير مسبوقة من خلال تشكيل قائمة انتخابية واحدة تضم التيارات السياسية الثلاثة اليساري والقومي والاسلامي يوم 22/1/2015، خاضت الانتخابات البرلمانية يوم 17/3/2015، وحققت نجاحاً ملحوظاً اذ قفز تمثيلهم من 11 مقعداً الى 13 مقعداً يمثلون الوسط العربي الفلسطيني في مناطق 48، مما جعل حضورهم له نكهة وبات الأوروبيون من برلمانات وأحزاب وحتى بعض الأوساط الحكومية تتعامل معهم وتأخد برأيهم وتهتم بقضاياهم بل وتدعوهم لزيارتها، وهذا تطور نوعي في النضال الفلسطيني سيكون له الأثر العميق على مكانة الدولة العبرية وتراجع الاحترام لها أو التضامن معها.

نضالات مناطق 67 وانجازاتهم
في مناطق 67 برزت ثلاثة مظاهر نوعية في النضال الوطني للشعب الفلسطيني خلال السنوات القليلة الماضية تتمثل بالعناوين التالية :
أولاً : قرارات الأمم المتحدة ومؤسساتها.
ثانياً : النضال الفردي – ثورة السكاكين.
ثالثاً : التفاهمات والمصالحة.
تراجع الاهتمام العربي، وانحسار التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية بسبب سيطرة أحزاب التيار الاسلامي وقيادتها السياسية لثورة الربيع العربي، وتداعياته المدمرة، ونتائجه الكارثية حولت بعض البلدان العربية الى بلدان فاشلة، وانتشار ظاهرة الارهاب بأشكاله الدموية المختلفة، وتسربه من منطقتنا نحو العديد من بلدان العالم وخاصة في أوروبا، ومع ذلك بقيت بقايا القضية الفلسطينية موضع حضور، كقضية عادلة تحظى بالتعاطف والاسناد النسبي من قبل البلدان العربية والاسلامية والافريقية والأسيوية وبعض البلدان الأوروبية، وهذا يعود الى :
1 - واقعية القيادة الفلسطينية وحنكتها في التكيف مع المستجدات السياسية وانكفائها عن التطرف العملي واللفظي وتمسكها بخيار المفاوضات ودعواتها السلمية، ورفض العمل المسلح كخيار كفاحي غير مناسب في اللحظة السياسية الراهنة.
2 - تطرف السياسة الاسرائيلية، وعدم استجابتها لأغلبية المبادرات الاقليمية والدولية بما فيها الأميركية، في عهد أوباما وما قبله، ورفضها لتوجهات الشرعية الدولية، وقرارات الأمم المتحدة، مما دفع العديد من البلدان الأوروبية لامتلاك شجاعة التصويت لصالح فلسطين أو على الأقل عدم التصويت ضدها، بما يتعارض مع التوجهات الاسرائيلية والأميركية.
لقد حقق هاذان العاملان نتائج ايجابية لصالح الدبلوماسية الفلسطينية، واستطاعت انتزاع قرارات هامة يقف في طليعتها :

قرارات الأمم المتحدة ومنظماتها
أولاً : قرار الجمعية العامة رقم 67/19، الصادر يوم 29/11/2012، والذي اعترف بدولة فلسطين باعتبارها دولة مراقب غير عضو لدى الأمم المتحدة، وبهذا القرار فُتحت أبواب المؤسسات الدولية لعضوية فلسطين بدءاً من منظمة اليونسكو مروراً بمحكمة الجنايات الدولية وليس انتهاء بمنظمة الانتربول الدولي.
ثانياً : قرار مجلس الأمن 2334 الصادر يوم 23/12/2016، والرافض للاستيطان واعتباره غير شرعي سواء في الضفة الفلسطينية أو القدس الشرقية.
ثالثاً : قرارات اليونسكو الصادرة بحق القدس والحرم القدسي الشريف – المسجد الأقصى والبلدة القديمة في الخليل ومسجدها وما تضمنته هذه القرارات من توجهات ونصوص تؤكد عدم صلة اليهود واليهودية بهذه المواقع الاسلامية، وهي قرارات وان كانت تشكل صفعة للاحتلال وسياساته واجراءاته ولكنها تنسف في نفس الوقت الدعاوي والادعاءات الصهيونية الاسرائيلية اليهودية بشرعية روايتهم وأساساتها غير المسنودة، وهي قرارات وتوجهات دفعت الولايات المتحدة وادارة ترامب للانسحاب من اليونسكو بسبب ما تراه واشنطن أن اليونسكو منحازة لفلسطين ضد اسرائيل، والحقيقة أن قرارات اليونسكو لا تنسف الرواية التاريخية للمستعمرين الاسرائيليين وتدحضها بل وتحفظ حق الفلسطينيين في الواقع السياسي الملموس.

التراجع والتحول الكفاحي
غالباً أثرت نتائج سيطرة تنظيمات التيار الاسلامي الأربعة : داعش والقاعدة والاخوان المسلمين وأحزاب ولاية الفقيه على المزاج الكفاحي للفلسطينيين، الى الحد أن بعضهم مهما كانت أعدادهم متواضعة، قد التحق من شباب مناطق 48 وقطاع غزة والضفة الفلسطينية، بتنظيمي القاعدة وداعش وانتقلوا للعمل في سوريا والعراق، واستهوتهم فكرة الخلافة الاسلامية واقامة دولتها، متأثرين بفشل طرفا المعادلة الفلسطينية فتح في الضفة وحماس في القطاع، والانقسام بينهما وضياع البوصلة الوطنية وغياب الأولويات.
حركة فتح تعمل على منع العمل الكفاحي في الضفة الفلسطينية التزاماً منها باتفاق التنسيق الأمني، وحركة حماس تضبط العمل الكفاحي وتردعه في قطاع غزة التزاماً منها باتفاق التهدئة الأمنية الموقع مع العدو الاسرائيلي بوساطة أمنية مصرية، تم ذلك يوم 21/10/2012، في عهد الرئيس الاخواني السابق محمد مرسي، وتجدد الاتفاق يوم 26/8/2014، في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وبموجبه تمنع حركة حماس أي عمل كفاحي ضد الاسرائيليين انطلاقاً من قطاع غزة بما في ذلك اطلاق الصواريخ نحو مناطق 48 وتأكيداً على ذلك لندقق في تصريح الناطق بلسان حركة الجهاد الاسلامي داود شهاب يوم 30/10/2017 الذي قال فيه حرفياً ان “ اتفاق التهدئة، ووقف اطلاق النار في ظل جريمة اليوم أصبح منتهياً ولا قيمة له “ وقد صرح بذلك رداً على القصف الاسرائيلي لنفق أدى الى استشهاد ثمانية من مناضلي حركة الجهاد، وأخيراً التزمت حماس بمنع العمل من قبل مناضليها في مناطق 67، وعليه تحول العمل الكفاحي ذات الطبيعة المسلحة من عمل منهجي فصائلي منظم الى عمل فردي ذات مبادرة أحادية شخصية وظاهرة ملفتة للاهتمام لأكثر من سبب أولها أنها تشمل الشباب والشابات، وثانيها أنهم من مناطق 67 ومناطق 48، مما يستجيب لسلوك حكومات تل أبيب وأحزابها الأئتلافية ورداً عليها، وهي الأكثر تطرفاً لدى المجتمع الاسرائيلي التي تعامل الفلسطينيين كصنف سياسي واحد، وان اختلفت أدوات القانون والردع الاسرائيلي في تعاملها مع فلسطيني 48 عن فلسطيني 67.

ثورة السكاكين
في 3/10/2015، بادر مهند الحلبي بعملية طعن بواسطة السكين لأحد المستوطنين وسار على دربه وبأسلوبه عشرات المبادرين حتى تحولت عملية الطعن الى ظاهرة أُطلق عليها ثورة السكاكين نظراً لمواصلتها واستمراريتها حتى العام 2017، حينما نفذ عمر العبد عملية مستوطنة حلاميش في شهر تموز 2017، ونمر جمل في مستوطنة هارأدار في شهر أيلول 2017.
ثورة السكاكين تختلف الرؤية السياسية نحوها وتقييمها، فمن يرى أنها استعداد كفاحي فردي عالي المستوى والتضحية وتطور في موقف المجتمع الفلسطيني الرافض جوهرياً للاحتلال، على المستويين الجماعي والفردي، ورداً على سياسات الفصائل السياسية الرئيسية التي غدت أسيرة للانقسام وذيوله وتبعاته السلبية، ورفضاً لاتفاقي التتنسيق الأمني بين رام الله وتل أبيب والتهدئة الأمنية بين غزة وتل أبيب، ومنهم من يرى أن العمل الفردي لن يعط النتيجة المطلوبة، ناهيك أنه لا يخدم مكانة النضال الفلسطيني وعدالة القضية التي تحتاج الى أصدقاء أجانب للوقوف معها والتضامن مع عدالة مطالبها وشرعيتها، كون هذا العمل موصوف بالارهاب أو ينطبق عليه شبهة العمل الارهابي كونه لا يقتصر على العسكريين بل ويستهدف المدنيين أيضاً، سواء تم بالسكاكين أو بمداهمة بواسطة السيارات.
وبصرف النظر عن التقييم الايجابي أو السلبي، ولكن أبرز مظاهره السلبية أنه لم يحظ بحاضنة سياسية من قبل الفصائل الفلسطينية، مثلما لم يحظ بحاضنة شعبية رغم تعاطف الجمهور مع بسالة الاستشهاديين والنتائج المترتبة على عائلاتهم بنسف بيوتهم وتدميرها من قبل الاحتلال، ولذلك ستبقى ظاهرة مسجلة في التاريخ الكفاحي الفلسطيني كظاهرتي خطف الطائرات والتفجيرات الاستشهادية، اللتان توقفتا بقرار سياسي من قبل قادة الفصائل الفلسطينية.
 
المصالحة
بعد فشل فاقع لانقلاب حركة حماس في حزيران 2007، وتطلعاتها المستعجلة الأحادية التي تعكس نزوع حركة الاخوان المسلمين لوراثة السلطة السياسية في كافة البلدان العربية، سجلت حركة حماس خطوتان سياسيتان مهمتان هما : أولاً وثيقة السياسة البرنامجية المعلنة في الدوحة من قبل خالد مشعل يوم الأول من أيار 2017، والتي تعلن نفسها كحركة تحرر وطني فلسطينية فكت ارتباطها تنظيماً وسياسياً مع حركة الاخوان المسلمين وقد يكون ذلك ظاهرياً، وثانياً حل لجنتها الادارية التي تقود قطاع غزة منفردة يوم 17/9/2017، وتسليم القطاع ادارياً لحكومة رام الله يوم 3/10/2017، ما يعني أنها تراجعت عن خطوات الانقلاب ومظاهره وتم ذلك بمبادرة مصرية عبر سلسة من الخطوات المتأرجحة بين الاخفاق والنجاح، ولكنها حققت ما هو مطلوب بتراجع حركة حماس عن اخوانيتها الحزبية، وعن تفردها في ادارة قطاع غزة، وتم ذلك انعكاساً للقاء الذي تم في القاهرة برعاية مصرية يوم 10/10/2017، وأدى الى تهيئة الأجواء السياسية نحو الشراكة والعمل الجماعي المتوقع بدءاً من اجتماع القاهرة يوم 21/11/2017 بين قيادتي فتح وحماس، والذي ستشارك فيه مختلف الفصائل الفلسطينية الـ13، حيث سيتناول العناوين الرئيسة للوضع الفلسطيني تنظيمياً وسياسياً واعادة صياغة منظمة التحرير ومؤسساتها وسلطتها الوطنية على الأرض.

[email protected]
* كاتب سياسي مختص بالشؤون الفلسطينية والاسرائيلي
ة.

2017-11-02