ظنت السعودية أن استقالة الحريري ستوقف عقارب الساعة بلبنان، ونست أن لبنان استمر لأكثر من عامين دون رئيس دولة، وبعد تدخل مصري فرنسي ورصانة العماد ميشال عون ظهر الحريري للمرة الثانية فى حوار تلفزيوني تراجع فيه للخلف خطوة أو خطوتين على الاقل، بعد خطاب الاستقالة التصعيدي الذى لم يكن ينقصه شئ سوى أعلان الحرب على حزب الله، وجميعا شاهدنا اللقاء الثاني الذى قد زاد من علامات الاستفهام والتعجب وهو الحوار التلفزيوني الذى لم يكن يتم لولا اعلان بيروت التوجه نحو مجلس الامن للمطالبة بحبيسها من الرياض.
وبعد قلة حيلة من صانع المشهد بالرياض، واستمرار التخبط بين أروقة الولايات المتحدة وهو ما تجلى مؤخرا بين الخارجية الامريكية وصهر ترامب، وادراك الحريري أن أستمر غيابه أكثر من ذلك قد تحرق صورته هو فى طرابلس بدلا من صورة بن سلمان بالمرة القادمة، لجأت السعودية للتوجه لجامعة الدول العربية لحشد أكبر عدد ممكن من الدول فى صفها، ونقل الصراع من "سعودي/ايراني" الى صراع "عربي/ايراني"، وهنا المشهد أشبه بشخص أراد تسخين طعام فلم يجد معه كبريت فبدل من وضعه على النار وضعه فى الثلاجة (جامعة الدول العربية).
غدا ستتعامل السعودية بكارت الحريري دون أي تزييف عندما ترسل الرسالة لطهران بشكل مباشر "التهدئة فى اليمن مقابل التهدئة فى لبنان"، ولكن أخشى أن تكتب لبنان على السعودية نفس ما كتبه اليمن، فالمشهد من البداية هو مشهد يمني بامتياز لا لبناني، فالسعودية فى كل ساعة تذهب لتضخيم حدث استقالة الحريري كي يكون حدث اقليمي، وبيروت فى كل ساعة تقزم الصراع الاقليمي التى تستقبله على اراضيها بين السعودية وايران كي يكون بحجم سعد بن الحريري، بالبداية كان الحريري أَسِير الرياض واخشى ان تأتى لحظة تكون فيها الرياض هي أَسِيرة الحريري.
أما ما لم تراه العين المجردة فى مشهد استقالة الحريري والذى جاء أيضا فى ظل الصراع على موارد الطاقة بشرق البحر المتوسط، المتوسط التى لم تعد فيه المياة دافئة بل ساخنة قابلة الاشتعال، فتفجر مشهد لبنان بتلك اللحظة لم يكن صدفة عندما تعلمو تعليق وزارة الطاقة والمياه بلبنان ملف التنقيب عن النفط والغاز (بسبب استقالة الحريري) بعد تقديم مزايدتين من كونسورتيوم مؤلف من نوفاك الروسية وتوتال الفرنسية وايني الايطالية للتنقيب بالمياة الاقليمية اللبنانية، كي تتأخر لبنان سنوات أخرى عن قبرص واسرائيل وربما تكون قد خرجت تماما من صراع الطاقة بشرق المتوسط، وكالعادة السعودية أدت دورها التاريخي المعهود بأمتياز، وكالعادة جاء الرابح الاول والاخير أيضا اسرائيل، فتفجر أزمة استقالة الحريري لم ياتى توقيتها صدفة ابدا، ولم يكن صاروخ الحوثي الوحيد المحرك للاحداث.
والان السؤال يطرح نفسه بما أن هناك صراع على الارض بين الرياض وطهران، والرياض تريد الانتقام من تدخلات طهران فى المنطقة، ونتسأل لماذا لا تتوجه السعودية فى دعم دولة الاحواز العربية المحتلة من ايران؟! او دعم اكراد البيجاك (غرب ايران)؟ أو دعم التنظيمات الاصولية على الحدود الباكستانية المعادية لنظام الخميني (شرق ايران)؟ او الدخول على ملعب الجار الشمالي اللدود أذرابيجان (شمال ايران)؟ لماذا تصر السعودية على خوض كل مواجهة مع ايران على أرض عربية كي تحترق تلك الارض وتذهب فى النهاية لصالح ايران.
وبعد خطاب كان يبكي فيه على حاله ونفسه لا لبنان، وشرب فيه من الماء ما يكفي لازالة توتره حتى قدمت له المذيعه كوب مائه ايضا له، وبعد عدم تمكن أي طرف فى لبنان او خارجه من الاتصال به من قبل اعلان الاستقالة (الخطاب الاول) ولذلك كان قصر بعبدا يعلم بالبداية أن السعوديين أحتجزو رجلهم فى بيروت، بات ميشال عون ورفاقه بهدوء يتلاعبو بهم لا العكس كما ظنو، وبعد أن فشل ماكرون فى مقابلة الحريري وكذلك البطريرك بشارة الراعي بالامس فى زيارة للمملكة لم يكن لها أي هدف سوى محاولة السعودية شق الصف الماروني والارثوذكسي الذى كان داعما لسوريا، وكي يفرقو الصفوف الداعمة لعون، بعد أن قدم البطريرك الراعي تنازلات رخيصة بداية من اخفائه للصليب وصولا لوصف المملكة براعية السلام ومصدرة الحداثة ومحاربة التطرف والعنف وغيرها، مما جعل السعوديين أنفسهم يشعرو بالمبالغة (ولما لا كل تلك الاوصاف اذا كان مفتي السعودية عبد العزيز آل الشيخ الذى أفتى بنفسه بقتل ميكي ماوس وأهدر دم باقي ابطال عالم ديزني منذ سنوات، حرم منذ يومين قتل اليهود بعد أن وصف مظاهرات الاقصى بالغوغائية، وحركة حماس ارهابية، وأكد على ضروروة التعاون مع الجيش الاسرائيلي من أجل القضاء على حزب الله، حتى أن وزير الاتصالات الاسرائيلي أيوب قرا وجه دعوة للمفتى لزيارة تل أبيب، .. وما الغريب فى كل ذلك! فزيارة المفتي لن تكون أصعب من زيارة ولي العهد نفسه) وللاسف لا مفتى المملكة ولا أي شخص بها نفى ما ذكر على لسان المفتي، والان يا أحبائي أنتهت الثلاث أيام لعودة الحريري لبلاده ولم نرى سوى تغريدة منه جديدة تؤكد عودته للبنان. متى؟ لم يذكر كالعادة.
فبعد كل تلك المشاهد وغيرها عودة الحريري من عدمها لم يعد لها أي قيمة (حتى لو تمكن لودريان من مقابلته اليوم)، فورقة الحريري احترقت وهذا ليس الا بسبب غباء من لعب بتلك الورقة، بل ستمتد نيران تلك الورقة لتحرق من حولها لو أستمر فى غيابه، فلبنان الان حقيقي أقوى من الاول بمراحل، ولم يعد وحده، الم أقول لكم أن فى كل تحرك للشاب المتسرع كانت المملكة تخسر طرفا، وذكرت لكم كيف خسرت سلطنة عمان ثم الكويت ثم الاردن والان المغرب تؤكد أنها صارت فى نفس الطريق.
نعم أنه مشهد لخصه مندوب سوريا الدائم لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري عندما قال بالامس في بيان الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص القرار المعني "بحالة حقوق الإنسان في سوريا"، المقدم من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل والسعودية وقطر، قائلا: "أهنأ زميلي المندوب الدائم للسعودية بانضمام إسرائيل إلى متبنّي مشروع القرار الذي تحدث عنه للتو وقدّمه للجنة وهذا كفيل بكشف ما خفي من تحالف بين بلاده وبين إسرائيل".
وبعد دخول الجزائر على خط الاحداث بعد تصريح رئيس الحكومة احمد اويحي متهما السعودية بدفع عشرات المليارات لتدمير اليمن و العراق وسوريا، كان يجب على السعودية أن تتمهل وتعيد التفكير مع نفسها لتدارك الخسائر أولا، ولادراك رقعة المشهد اللبناني التى لن تقتصر على جغرافيته فقط ثانيا، فالمملكة بعد عاصفة الحزم خسرت سلطنة عمان، وبعد ازمة قطر خسرت الكويت، والان تخسر الاردن اكثر وأكثر، وخسارة حلفاء تقليديين مستمرة والمغرب لن تكون الاخيرة، غير ذلك ستنجر السعودية لمربع الفوضى والتقسيم (وهذا ما يريده أستاذ تقسيم وترسيم حدود المنطقة)، فاسرائيل بجيشها الحديث واستخباراتها الاخطبوطية ليست فى حاجة للسعودية لمواجهة أحد، أذا فلتسأل السعودية نفسها لماذا تصر اسرائيل على سحب السعودية للدخول لحلبة الصراع تلك؟!
وبعد وصول الحريري لباريس ستصبح فرنسا ماكرون (أول من تصدت لتصريحات ترامب بخصوص الاتفاق النووي مع ايران) راعية للفريق المسيحي والسني معا، وهي لحظة توقعناها مع بداية الازمة لاسباب عديدة أولها أن السعودية لم تكن يوما راعية للسنة (وهنا يجب أن نفرق بين السنة والوهابية)، فالان لم تخسر السعودية التيار السني فقط بل وخسرت معها التيار السني كثيرا وكثيرا جدا.
نعم لحظة وصول الحريري (الذي يحمل جواز سفر فرنسي ايضا) لباريس ستكون لحظة فارقة ومشهد محوري حتى وأن لم تكن باريس أخر محطاته، فهو مشهد لن يقل أهمية عن لحظة وصول الخميني لطهران قادما من باريس، فكل يوم أشقائنا بالمملكة والرئيس الشاب ايمانيول ماكرون يبهرونا، ولكن شتان الفرق بين أبهار هولاء وابهار ذلك الفرنسي.
وأنتظر فشل ضغوط وابتزاز محمد بن سلمان أو بالادق محمد بن جاريد كوشنير الذى مارسه ضد الرئيس عباس أبو مازن اثناء زيارة الاخير للمملكة، ولن يفلح بأذن الله مشروع الشيطان الذى رسم على الورق ويفرضه وكلائه فى الارض.
أخيرا وليس أخرا عودة الحريري لن تطفئ النيران التى أشتعلت، ولم تعد الازمة بين الرياض وبيروت فقط، ولا الموضوع اشتعل بصاروخ حوثي ضرب مطار الملك خالد، الموضوع بوضوح شديد أن هناك من خطط لعودة لبنان الى عام 1982م، والاوامر قد خرجت للوكلاء بالاقليم للدفع بلبنان الى تلك الهاوية.
فادى عيد
الباحث و المحلل السياسى بقضايا الشرق الاوسط