بثور حُبٍ فوق قروح نتنة لا يوجد خيط إلا أمسكتُ بطرفه ، نقبض على القاتل في مسرح الجريمة ، وأحيانا يأتينا مفتخرا وينتهي الأمر بدفع ديّة تدفعها القبيلة راضية ، قطع شرودي نداء على هاتف الخدمة النقّال ، على الطرف الآخر عسكري أمن الطرق ، ألو.. ألو .. تجمع مريب لسيارات في محطة الوقود الخربة في مدخل الديرة يا فندم ، انطلقتُ من فوري ، داهمتُ المكان ، مجموعة من المراهقين يحاصرون غرفة ، اخترقتهم ، شاب مستلق على بطنه ، وقد شلّ اثنان حركته وثالثهم يعتليه ، أقصيتهم بطلق ناري بالهواء ، لاذوا بالفرار ، ساعدته على النهوض ، أذهلتني الصدمة إنه " جميل" ! أمهلته حتى ارتدى سرواله ، توحش ، هؤلاء ليسوا بشرا ، النزيف حاد ، أسرعتُ به للمشفى العام ، رفضوا استقباله ، لا نستطيع استقبال " البدون " تطّوع طبيب بمرهم وقطعة قطن .
ربتُّ على كتفه متأملا وسامته في إشفاق ، " جميل" خرج علينا من المقابر ، عاش بها مع والديه اللذين يقومان على حراستها وخدمة ما نغرسه من أشجار ترحم بظلالها موتانا من النار ، ولم يخرج منها إلا بعد وفاة والديه إثر انقلاب الحافلة العائدة من عُمْرة . تُصاب أمي بهلع وفزع حين تراني ألعب معه وتكون المصيبة والطامة إذا تجرّأ ودق الباب يطلبني للعب ، تتطيّر منه ، أتخفى تحت دثار الظلمة مغافلا أمي المشغولة بالتلفاز وآتي له بطعام يلوكه بفك كسول وهو ينظر نحوي بعين دامعة ، يجلس ليل نهار أمام بيتي ككلب وفيّ ، عدا ساعتين عجزتُ عن معرفة سر ابتلاع الأرض له فيهما ، فور إيقافي السيارة أسرع متخذا مجلسه ، عدت لمكتبي أقلّبُ في خيوط القصة لعلي أمسك بخيط أصل به لدليل ، القتيلة لم تكن تبرح البيت إلا للتريض بالدوَار مترجلة حول سور المشفى العام ثم تعود للبيت ، لا يجرؤ أحد على أن يمسها بسوء ، قطع تقرير الطب الشرعي الطريق على أقاويل تتناثر في الغرف المغلقة ، بقعة الدماء التي وجدناها على الأرض خلف الضلع المظلم من السور آدمية، انطلقتُ من فوري ، توجهتُ لبيت القتيلة ، فتح السائق المقيم بغرفة ملاصقة للباب ، أرسلته في طلب والدها ، امتعض حين رآني اعتذرت له بأن هذه آخر مرة أحضر مستجوبا ، أشار بالدخول . - هل تسمح لي سيدي بإفراغ كاميرات المراقبة ؟ - لقد أفرغتموها من قبل ولم تجدوا شيئا. - لن نخسر شيئا سيدي ، لنراها مرة أخرى . أومأ المكلوم بالموافقة ، صرخ بأعلى صوته: مرّ شهر وأنتم تدورون حول أنفسكم ولا جديد. حفل نسائي تناوبت الحاضرات الرقص ، جاء موعد الطعام ، أوقفت الشريط مذهولا ، دست القتيلة قطعة لحم بحقيبة يدها ، يا إلهي ! الحفل ببيتها ، فلم تحمل حقيبة يد ؟ هي ابنة شيخ القبيلة ولو أمرت بإعداد شواء كاملا لأتوا لها بشياه لاتعد! ارتدت عباءتها ، انطلقت صوب غرفة السائق ، يا الله إنه " جميل " جلستْ أرضا تطعمه ومع آخر حبة بالطبق قبّل يدها ، مسحت على رأسه ، ودعها صامت اللسان ناطق العينين بكل لغات الامتنان . أرسلتُ في طلب السائق ، واجهته بما في الشريط ، ارتبك ، بلغة متكسرة أقر بأن "جميل" كان يأتي للجلوس معها بغرفتي ، تطعمه وتقبّله ، لا يتغيّر رد فعله عن النظر دامعا ! حتى ذلك اليوم الذي رأتها والدتها ، هددتها بإبلاغ والدها الذي لن يتواني عن قتلهما ، منذ هذا اليوم و" جميل " يأتي بنفس الموعد ، يظل جالسا ساعتين ثم ينصرف باكيا، أشرت له بالانصراف ، يا لله ما أعجب الحياة ! بصوت منفعل صرخت: يااا "جميل " ، أقبل مهرولا ، أعدت الشريط ، وقعت عيناه عليها ، قفز نحو الشاشة ، احتضنها باكيا ، ثم راح في غيبوبة ، أفرغت قارورة الماء التي أمامي على وجهه ، قلّبَ عينيه بالغرفة ، نهض يركض بالشارع وهو ينادي باسمها ، جلست على مكتبي ، أخذت أفكر بهدوء ، ثلاثون يوما على مقتلها ، مازال جميل يختفي في نفس التوقيت ، قررت أن أراقبه ، سرت خلفه ، إلى أين يتجه هذا المجنون لقد برحنا الديرة!
دخل محطة الوقود المهجورة ، دلف غرفة مظلمة ، أضاء شمعة ، اقتربتُ أكثر لأستوضح ، فتح ثلاجة ضخمة من مخلفات " السوبرماركت " الذي كان ملحقا بالمحطة ، أخرج جثة، أخذ يمسح عنها حبيبات الثلج، شفتاه تمتم ، اقتربتُ أكثر ، احتضنها ، لثمها بقبلة طويلة ، قال بصوت متهدج : تأخرتُ عليْكِ حبيبتي ، جئتك بقطعة اللحم وحبات الأرز الشهية ، أخذ يطعمها وهو يضحك : لن أتأخر عنك بعد اليوم ، سأنام بجوارك للأبد ، انطلقت راكضا لا أرى أمامي ، دخلتُ غرفتي كمجنون ، اتصلتُ بمديري ، انطلقنا بصحبة فرقة شرطة حملتها ثلاثة سيارات مدججة ، داهمنا الغرفة ، منعنا نهر الدم المنساب من وريده من دخول الغرفة.