الإثنين 2/5/1446 هـ الموافق 04/11/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
جــُذور فـــن 'الكاريكاتير'..الفراعنة عرفوا 'توم وجيرى' قبل أكثر من 3300 سنة - عبد الهادي شلا

  ** الفراعنة عرفوا "توم وجيرى" قبل أكثر من 3300 سنة

** الفنان " محمد عبد المنعم رخا " هو الأب الحقيقي لفن الكاريكاتور العربي

أبسط تعريف لفن الكاريكاتير هو: "خطوط بسيطة وتعليق ساخر قصير يسفرعن ابتسامة بسبب معاني ذكية وبارعة تستقر في ذهن الإنسان ويمعن التفكير من خلالها في دائرة الواقع وتجبره على تشكيل الدائرة من جديد بفكر وعقل جديدين من أجل واقع أفضل،وهذا أيضاهو هدف فن الكاريكاتير". بالإنجليزية Caricature‏ هو فن ساخر من فنون الرسم، و صورة تبالغ في إظهار تحريف الملامح الطبيعية أو خصائص ومميزات شخص أو جسم ما، بهدف السخرية أو النقد الاجتماعي والسياسي. ظهرت أول رسوم كاريكاتيرية مهمة في أوروبا خلال القرن السادس عشر الميلادي. وكان معظمها يهاجم إما البروتستانتيين وإما الرومان الكاثوليك خلال الثورة الدينية التي عرفت بحركة الإصلاح الديني. و بالفرنسية Caricature مشتق من الكلمة الإيطالية "كاريكير" Caricare التي تعني " يبالغ، أو يحمَّل مالا يطيق "، والتي كان موسيني (Mosini) أول من استخدمها، سنة 1646. وفي القرن السابع عشر، ، أول من قدمها إلى المجتمع الفرنسي هو جيان لورينزو برنيني Gian Lorenzo Bernini)) المثّال ورسام الكاركاتير البارع، الذي ذهب إلى فرنسا، عام 1665. وقد ازدهر هذا الفن في إيطاليا.ومن أشهررسامين الكاريكاتير تيتيانوس (1477-1576)، الذي عمد إلى مسخ بعض الصور القديمة المشهورة، بإعادة تصويرها بأشكال مضحكة. إلا أن الباحثين وعلماء الآثار يرون أن جذور هذا الفن تعود إلى الفراعنة فهم أول من رسم "الكاريكاتير" من الأمم السالفة وأنهم أول من تنبه إلى هذا الفن الذي حقق غرضهم في السخرية والتعريض بالحاكم ذي السلطة المستبدة . الفرعوني رسم الحيوانات والرموز البسيطة للتعبيرعن إنتقاده و حمَّلها رأيه الحقيقي في أصحاب السلطة الظالمة، كما هو موجود على إحدى "الشقفات" القديمة حيث نجد رسماً سريعا لصراع بين القطط والفئران، بينما يدور ملك الفئران على عجلة حربية تقودها كلبتان في هجومه على حصن تحرسه القطط ، ولم يأت هذا الرسم من فراغ، فلا بد أنه جاء ليعبر عن موقف هام أو أحداث جمَّة وقعت رأى فيها الرسام أن الأعداء أو غيرهم من صغار الشأن قد تجرأوا وتحدوا من هم أكثر منهم منعة وحجما. و هناك رسومات أخرى بمعانٍ مختلفة تسخر من مواقف يمكن قرأتها دون شرح أو تثير الضحك فكما هو معروف في هذا الفن الساخر فإن الرسم يقبل أكثر من معنى ومغزى،كما أنه في أحيان كثيرة يوسع مساحة النقد حسب الحالة التي يقصدها. تـَمـَثلَ المصدر الرئيسي لأعمال الرسم للمصري القديم في التخطيطات والرسوم المبدئية السريعة والخطوط التجريبية التي وجدت مرسومة ومحفوظة على أسطح بعض رقائق الحجر الجيري، أو على أسطح قطع من "القـُدور" أو الأواني المهشمة ويطلق على كل منها "الأوستراكا" التي يُطلق عليها حديثا الكاريكاتير* 1 يقول عالم المصريات، "الدكتور منصور بريك"، إن الزائر للجبل الذي يحتضن معبد الملكة "حتشيبسوت" غرب مدينة الأقصر يرى كيف كان المصريون القدماء يسخرون من العلاقة بين "حتشبسوت" والمهندس "سنموت" الذي أشرف على بناء معبده ونحته في صخور جبل "القرنة"، كما تكشف بردية "تورين" الشهيرة، كيف خاطب مواطن مصري بسيط الفرعون آنذاك. ويرجع علماء المصريات أول ظهور لرسم كاريكاتيري للقط والفأر إلى حوالي عام 1300 قبل الميلاد، حيث رمز قدماء المصريين للصراع بين الملك والشعب بصراع بين القط والفأر، فكان يرمز بالقط إلى الملك وبالفأر إلى الشعب. *2 وأول الإثباتات التى رصدت صراع "القط والفأر" فى التاريخ الفرعونى القديم، ما رصده علماء مصريات بريطانيون، وهم كل من "جان دوريس – إف إل ليونيه – أيه أيه إس إدواردز - جان يو يوت - سيرج سونرون" فى الموسوعة التاريخية الخاصة بهم والتى حملت إسم (معجم الحضارة المصرية القديمة)، وذكروا فيها أن المصريين عرفوا (توم وجيرى) قبل أكثر من 3300 سنة، مؤكدين أنه كان دائماً يوجد صراع ونزاع بين "القط والفأر" حيث عثروا خلال دراستهم للتاريخ الفرعونى على العديد من الصور المرسومة على الأوستراكا وأوراق البردى، ومكتوب عليها "تصبح القطة عبدة لدى مدام فأرة" ويهاجم جيش من الفئران فرقة القطط المسكينة المحبوسة وينتصرعليها. * 3 في اليونان في ذلك العهد القديم نرى أيضًا بذور ذلك الفن من خلال رجل يُدعى "بوستن" ذكره أرسطو وأرستوفانيس بوصفه شخصًا يرسم رسومات ساخرة للناس وقيل إنه قُـتل وهو يعذَّب بسبب تلك السخرية. أما إيطاليا فقد ظهرفيها الفنان "ينبال كاراتشي" وكان قد سبقه الفنان "جيروم بوش" الذي رسم الجحيم بتفصيلات مضحكة، ويُعَدُّ أحد المبشرين بالسريالية، إلا أن الكثير من المؤرخين يعتبرون الفنان " ليونارد دي دافنشي" أبًا لفن الكاريكاتير في إيطاليا. هذه المقدمة المختصرة ضرورية عن جذور فن الكاريكاتير في العصور القديمة، أما في العصر الحديث ففي أوائل القرن السابع عشر انتشر هذا الفن في هولندا، وكان قد ذاع في إنجلترا في أوائل القرن الثامن عشر في رسومات "جورج توتسهند"، الذي سخره في التحريض السياسي ثم تبعه الفنان" وليم هوجارت" الذي طرق برسوماته الكاريكاتيرية الساخرة مرحلة من التاريخ الإنجليزي، فمهدت أعماله إلى ظهور مدرسة لفن الكاريكاتيرعلى أيدي فنانين عظام أمثال : "جيمس جيلراي" و "توماس رولاندسون" اللذان كانت رسوماتهم الكاريكاتيرية باللونين الأبيض والأسود سلاحًا في وجه خصومهم السياسيين،و كانوا يلونونها بأيديهم ويوزعونها على المكتبات، حيث أدت دورًا سياسيًّا مؤثرا في تلك الفترة.. كذلك في القرن التاسع عشر شهد هذا الفن تطورًا كبيرًا في فرنسا على يد مجموعة من الفنانين على رأسهم " شارل نيليبون" الذي أصدر مجلة كاريكاتيرية، ثم جريدة يومية باسم الشيفاردي 1830م، ثم أظهر أثر هذه المطبوعات التي كانت معارضة للحكومة بشكل هزلي الفنان "أندريه دومييه" الذي تميزت أعماله الكاريكاتيرية بعمق اللمسة وحيويتها، وقد سجن في عهد الملك "لوي فيليب" بسبب رسوماته الساخرة من الطبقة الأرستقراطية والملك نفسه، إذ يعتبر "دومييه" أول من استخدم الصورة الكاريكاتيرية كشكل إعلاني مستقل. أما في الاتحاد السوفييتي فقد ظهرهذا الفن على يد "بنيه ستروب" و "لورسي إيفيموف" اللذان لعبت رسوماتهما الكاريكاتيرية دورًا تحريضيًّا سياسيًّا في ثورة أكتوبر والحرب العالمية الثانية. مع بداية القرن العشرين كان الأشهر في أمريكا هو الألماني "جورج كابروت" حيث شهد هذا الفن طفرة تطور من خلال الكتب الفكاهية والرسوم الساخرة المطبوعة في العديد من المجلات والجرائد. وإن كان الفراعنة هم أول من برع في تصميم فن الرسم الكاريكاتيري واستخدامه وسيلة لنقد الحاكم، فإن الفنانين العرب قد تأخر ظهورهم في مجال هذا الفن في العصر الحديث، متأثرين بهذا الفن في الغرب.

وكان أول من رسم وكتب تعليقات كاريكاتيرية هو الصحفي "يعقوب صنوع"، الذي أصدر جريدة هزيلة حملت إسم "أبو نضارة". ثم توالى ظهور رسامي وفناني الكاريكاتير منذ ذلك الحين وأسسوا فنًّا عربيًّا قائمًا على بنية ثقافية واجتماعية عربية وأبدعوا في مجالهم.

وظهرت رسوم كاريكاتيرية في عهد الاحتلال الإنجليزي لمصر على يد الفنان " محمد عبد المنعم رخا " الذي يعتبر الأب الحقيقي لفن الكاريكاتور العربي فهوأول رسام كاريكاتيري في تاريخ الصحافة المصرية، وقد سجن في عام 1933 لمدة أربع سنوات بتهمة الإساءة إلى الملك في رسومه ،حيث قام بنشر رسومه في الصفحة الأولى يومياً في مجلة "المصري" وهو الذي أنشأ وترأس الجمعية المصرية لرسامي الكاريكاتير " يناير عام 1984م".

ومن مدرسته تخرج معظم الأسماء التي أتقنت هذا الفن أمثال: "عبد السميع عبد الله" و"زهدي".. في نفس هذه الفترة كان يعيش في القاهرة الرسام الألماني " سانتيز" و التركي "رفقي" و "صاروخان" الأرمني، الذين تميزت أعمالهم بالسخرية من الأوضاع الاجتماعية، ومن رحم هؤلاء خرج "صلاح جاهين" و "جورج البهجوري" و "بهجت عثمان" الذين غيروا وجه الكاريكاتير العربي في أوائل الخمسينيات، و نجحوا في ابتكار شخصيات عبروا من خلال عن مواقفهم السياسية والاجتماعية. وتزامن مع فناني الكاريكاتير المصريين فنانون في كل أرجاء الوطن العربي، فكان في العراق الكاريكاتيري "غازي" الذي ابتكر شخصية البغدادي الذكي الذي يسخر من الأوضاع المقلوبة بسبب الحكام، ويسخر من الاستعمار، وفي سوريا ظهرت مجموعة من فناني الكاريكاتير على رأسهم "عبد اللطيف ماديني" و "سمير كحالة" و "علي فرزات". وتوسعت الدائرة الكاريكاتيرية في الوطن العربي بــ "محمد الزواوي" في ليبيا و "خليل الأشقر" في لبنان، وكلهم كانت أعمالهم دعوة صريحة ضد طغيان الاستعمار. ولا يمكن أن يكتمل الحديث عن فن الكاريكاتير في الوطن العربي دون الإشارة إلى أكثر فنان كاريكاتيري مثير للجدل وعرفه العالم أجمع بمواقفه المناهضة للإستعمار ونصرته لشعبه وقضيته الفلسطينية العادلة الفنان" ناجي العلي" صاحب الشخصية الفريدة في الحياة والتعبير عن هموم و مشاكل الوطن العربي لسنوات كثيرة، الذي لم يخرج من عباءة أي فنان كاريكاتيري سبقه بل كان متفردا ومميزا مازالت رسوماته يتداولها الكثيرون حول العالم. نخلص إلى ان فن الكاريكاتير منذ نشأته على اختلافها إلتقى في طرق تعبيرإما أن يكون بالتشكيل فقط أو بالتعليق مع التشكيل،لافتا النظر إلى الكثير من صور الحياة حلوها ومرها إذ لم يقتصر على مجابهة الظلم بل تطور وتفرعت منه مدارس كاريكاتيرية جديدة تبلور خلالها مفهومه ومضمونه وغيرت من ملامح الشخصيات الاجتماعية والفنية والسياسية وغيرها، وتحرر من اللونين الأبيض والأسود اللذان إقترن بهما هذا الفن زمنا طويلا إلى عالم اللون وصولا إلى استخدام برامج الحاسوب الحديثة في التلوين والكتابة.

سيبقى "الكاريكاتير" فنا يحتل مساحة أكبر يؤدي وظيفته التي أصبحت الحاجة إليها أكثر من ذي قبل في وجود حالات لا نهائية من المشاكل في كل بقاع الأرض التي لم تقتصر على النقد السياسي الجاد بل امتد إلى فرض الابتسامة الساخرة من كل موقف رأى فيه الفنان أنه يحتاج إلى هذا الفن.

وجود المواقع الألكترونية التي استقطبت الرسامين على إختلاف مستوياتهم أتاحت الفرصة للموهوبين بأن يرى الناس أعمالهم في أي مكان في العالم وبأسرع وسيلة عرفها العلم الحديث وأصبح هذا الفن متربعا على عرش وله سلطان يستمد قوته من تعاطف الناس الذين وجدوا فيه متنفسا لما يعتمل في صدورهم، وانه لسان حال عجزهم عن المواجهة.

2018-01-01